الجمعة، 6 مايو 2016

مَعِيشَةً ضَنكاً


6 مايو، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٠

(مَعِيشَةً ضَنكاً)

سمعته يتحدث بالهاتف إلى شخص لا أعرفه، كان يقول له أن المصائب تتوالى عليه، لا يكاد يخرج من واحدة إلا وتأتي التالية أصعب من سابقتها. استمر في حديثه الذي أسمعه بغير تعمد؛ فأنا قريب منه وهو عالي الصوت يتحدث بغير تحفظ، قال لمن يهاتفه أن الأمر لم يعد كما كان محصوراً في مشاكل العمل فحسب، وإنما امتد ليصل إلى مشكلات بينه وبين زوجته لا يعلم كيف ستنتهي، وأضاف متهكماً، كأنه لا تكفي مشكلات العمل والبيت فقد بدأت سيارته هي الأخرى سلسلة من المشاكل بدأت بتنزيل الماكينة واستمرت مع الإطارات والبطارية ووصلت الآن إلى مكيف السيارة الذي لا يستطيع أن يستغني عنه ونحن على مشارف صيف ساخن.
كان المتحدث أحد راكبي حافلة نقل عام أستقلها عائداً إلى المنزل منتصف هذا الأسبوع، يفصل بيني وبينه مقعدان، ورغم ذلك فقد كان أغلب من بالحافلة -وأنا منهم- يتابعون محادثته الهاتفية رغماً عنهم، ولم يكن هو مهتماً باستماع الآخرين إلى ما يقول .. فمن الواضح أن كثرة مشاكله التي تحدث عن بعضها جعلته في وادٍ آخر غير عابئ بشيء حتى أنه لم يكن يبذل أية محاولة لخفض صوته أو الحديث باختصار دون تفاصيل.
لا أدري لماذا وردت على ذهني وقتها الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾، بالطبع لا أصف المتحدث بأنه قد أعرض عن ذكر الله فهذا أمر بينه وبين الله سبحانه وتعالى، لكني تفكرت في معنى الآية .. إنها آية وعيد .. ويا له من وعيد! .. (مَعِيشَةً ضَنكاً) .. وهل من وعيد أسوأ من معيشة صعبة مؤلمة تتزايد فيها المشاكل ليس بها راحة بل كلها تعب ونكد؟ .. ومَنْ الذي يتوعد؟ إنه الله سبحانه وتعالى .. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾، و﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾، وهو القائل: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ .. إن جسمي يقشعر لمجرد استحضار هذا الوعيد.
لم تغادر هذه الآية الكريمة تفكيري وظلت حاضرة في ذهني طوال الوقت، قلت لابد من مزيد من البحث عن معناها فوجدت الحافظ ابن كثير يقول عنها: " ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ أي: في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره؛ بل صدره ضيِّق حَرَج لضلاله، وإن تَنَعَّمَ ظاهرُه، ولَبِسَ ما شاء وأكلَ ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإنَّ قلبه ما لم يَخْلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلق وحيرة وشَكّ، فلا يزال في ريبه يتردَّد، فهذا من ضَنَك المعيشة ". وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أن (مَعِيشَةً ضَنكاً) ليست خاصة بالدنيا فقط وإنما تشمل: دار الدنيا بما يصيب المُعْرِض عن ذِكْرِ رَبِّه من الهموم والغموم والآلام التي هي عذاب مُعَجَّل، ودار البرزخ بين الدنيا والآخرة، والدار الآخرة وقت الحساب، فالمعيشة الضَّنْك لن تكون في الدنيا وحسب.
وعن الضنك في الدنيا كان السلف إذا رأوا من زوجاتهم نفوراً وعصياناً أرجعوا سبب ذلك إلى ذنوبهم حتى قال قائلهم: "إني لأرى أثر معصيتي في خُلق دابتي وزوجتي".
ومع تسليمي بما سبق وإيماني به فإني أرى البعض ممن هم بعيدون عن منهج الله سبحانه وتعالى يعيشون في رغد ظاهر فأين إذن معيشتهم الضنك؟ أراهم يعيشون في راحة منعمين مع إعراضهم عن ذِكر الله فكيف يكون ذلك؟
تأملت أحوال هؤلاء القوم قليلاً فوجدتهم وإن تنعَّموا وضَحِكوا وأكَلوا وشربوا ما شاءوا؛ فهم في قلق وحيرة وشَكّ .. فنحن نرى في الدول غير الإسلامية من أسباب الراحة والترف والتنعم ما يفوق الوصف والخيال، ومع ذلك فإن أهلها أشد الناس قلقاً وحيرة واضطراباً؛ تتفشى فيهم الأمراض النفسية والعصبية، وتزداد معدلات الجريمة والقتل والسرقة والاغتصاب وشرب الخمر والمخدرات، بل وترتفع معدلات الانتحار لديهم لتكون الأعلى من بين جميع دول العالم، فأي أمن وطمأنينة يشعر بها هؤلاء؟ لا شيء .. بل هو غضب من الله عليهم لنسيانهم ما ذُكِّروا به وهو طريق الحق؛ يفتح عليهم جميع أبواب الراحة والترف في الدنيا حتى يفرحوا بها، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ ثم تكون الخاتمة: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.
أما الذين يسيرون على منهج الله فإن الله يختصهم بنعمة البركة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، ويجعل لهم الأمن؛ يقول عز وجل: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾، وييسر أمورهم؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾، ويخرجهم من كل ضيق ويوسع لهم أرزاقهم؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، ويبشرهم بالحياة الطيبة والأجر الحسن؛ يقول المولى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
أحبتي في الله .. لنكن على ثقة تامة بأن البعيدين عن منهج الله مهما وجدوا من أسباب النعيم والترف والسعادة لن يعيشوا في أمن وطمأنينة قط، بل هم في شقاء نفسي وقلق واضطراب لا محالة، تحاصرهم المشاكل من كل حدب وصوب؛ ومصائبهم لا تأتي فرادى، هؤلاء واقعون تحت وعيد الله فإن لهم (مَعِيشَةً ضَنكاً)، وعلى العكس من ذلك، من اتبعوا منهج الله، وأصلحوا ما بينهم وبين الله، وأخلصوا العبادة له سبحانه وتعالى هؤلاء واثقون في وعد الله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) يستبشرون بالحياة الطيبة .. إن أمرهم كله خير .. يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ] .. لاحظوا أحبتي عبارة "وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ".
أحبتي .. عندما تتزايد مشاكلنا وتحيط بنا من كل جانب، علينا أن نراجع أنفسنا لنعرف ما قصرنا فيه من عبادات، وما أخطأنا فيه من معاملات، وما ارتكبناه من سيئات وذنوب .. ثم يجب أن نبادر إلى إصلاح ما أفسدناه، ونسارع إلى جبر ما كسرناه، ونفر إلى الله .. يصلح لنا أعمالنا .. ويهدي بالنا .. ويكتب لنا سعادة الدارين: الدنيا والآخرة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.