الجمعة، 17 مارس 2017

الخير والبركة

الجمعة 17 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٥
(الخير والبركة)

التقيت به قبل ثلاثين سنة في دارٍ حكوميةٍ للمسنين في منطقة Old Bridge بولاية New Jersey حيث كنت أقوم بزيارة إحدى قريباتنا المسنة وكانت تقيم بهذه الدار. الدار عمارةٌ سكنيةٌ تتكون من خمسة أدوار، تحيط بها الحدائق من كل جانب، مجهزةٌ بجميع الإمكانيات، الدور الأرضي مخصصٌ للاستقبال وبه عدة قاعاتٍ لمشاهدة التلفاز وللقاءات الجماعية والاحتفال بالمناسبات الاجتماعية ومكتبةٌ للقراءة والاطلاع. يتكون مبنى الدار من شققٍ مختلفة المساحات تم تزويد جميع الغرف والمطابخ ودورات المياه بأجهزة إنذارٍ مثبتةٍ في الأسقف تتدلى من كل جهازٍ منها سلسلةٌ رفيعةٌ طويلةٌ تكاد تلامس أرضية الشقة يسهل على المسن شدها في حالة الطوارئ فيأتي له المنقذون يدخلون الشقة بمفتاحٍ رئيسي Master Key خلال دقائق معدودة. توجد بالدار خدمات رعايةٍ صحيةٍ على مدار الساعة. وتقوم إدارة الدار بتنظيم أنشطةٍ اجتماعيةٍ وترفيهيةٍ للمسنين أبرزها حفلات السمر والرحلات الأسبوعية. في هذه الدار تم تخصيص الدور تحت الأرضي لغرف غسيل الملابس ينزل إليها المقيم بالدار وهو يحمل سلة ملابسه فيجد آلةً لبيع الصابون وأخرى لبيع ملطف الأنسجة ويجد الغسالات الآلية كما يجد مقاعد وأرائك وثيرةً للجلوس ورفوفاً بها أحدث المجلات الأسبوعية. ليس على المقيم سوى وضع العملات المعدنية سواءً لشراء الصابون أو الملطف أو تشغيل الغسالة؛ يضع كل شيء في المكان المخصص له، ويختار برنامج التشغيل المناسب لتبدأ الغسالة في العمل. يتناول إحدى المجلات ويجلس على المقعد أو الأريكة في انتظار انتهاء الغسالة من عملها، فإذا تصادف وجود أكثر من مسنٍ في غرفة الغسيل تكون فرصةً لهم لتبادل الأحاديث.
التقيت به مصادفةً في غرفة الغسيل، ورغم أني لا أعرفه ولا هو يعرفني فقد تبادلنا التحية. حينما جلسنا متجاورين في انتظار انتهاء غسالتينا من العمل بدأ يتحدث إلي شاكياً عقوق أبنائه، قال لي أنه في الثمانينات من عمره، زوجته متوفية، وله ثلاثة أولاد متزوجون يقيم كلٌ منهم في ولايةٍ غير التي يقيم فيها أخواه، وهو يعيش في هذه الدار، لا يسأل عنه أبناؤه إلا باتصالٍ هاتفيٍ أيام الأعياد فقط: عيد الشكر رابع يوم خميس في شهر نوفمبر، ويوم عيد الميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر، وقد يتذكرونه باتصالٍ آخر يوم عيد الاستقلال في الرابع من يوليو. يكتفون بمكالمةٍ هاتفيةٍ سريعةٍ لا تطفئ شوقه لهم. يتذكر أن أحدهم زاره في هذه الدار قبل ثلاث سنوات. قال لي وهو يحس بالمرارة أنه لا يعرف شكل أحفاده، وهو بالكاد يعرف أسماءهم. أخبرني أنه يتمنى أن يراهم جميعاً، أبناءه وأحفاده، قبل أن يموت. وما تزال كلماته التي قالها بأسىً ترن في أذني حتى الآن: "لم نقصر في رعايتهم وهم صغار، ثم عندما نكبر ونحتاج إليهم يأتون بنا إلى هذه الدور، يتركونا فيها حتى نموت". كنت أستمع إليه وأنا متأثرٌ مما يقول، لكني أعلم أن ما يحدث معه أمرٌ عاديٌ يحدث لكثيرٍ مثله؛ فحينما أردت أن أختار موضوع رعاية المسنين في الولايات المتحدة الأمريكية ليكون موضوع بحثٍ لي أثناء دراسة الماجستير لم يوافقني المشرف الأكاديمي بالجامعة وقال لي: "هذا جرحٌ في جسد الأمة لا نحتاج إلى وضع مزيدٍ من الملح عليه!". تذكرتُ وقتها تعاملنا في بلادنا العربية والإسلامية مع المسنين عامةً ومع الوالدين على وجه الخصوص، وقارنتُ بين نظرتهم في المجتمعات الغربية وبين نظرتنا نحن إلى كبار السن باعتبارهم (الخير والبركة) نعاملهم بما يستحقونه من تقدير واحترام؛ فحمدت الله كثيراً على نعمةٍ نحن فيها لا نُحس بها إلا عندما نشاهد بأنفسنا ما يعانيه غيرنا ممن فقدوا هذه النعمة.
تذكرتُ تلك الوقائع بعد مرور ثلاثين سنةً عندما سمعت أحد المسئولين يتحدث في التلفاز عن المسنين ويصفهم بأنهم "عبءٌ" ثقيل! يا إلهي! إلى أين نحن ذاهبون؟ هل نحن في طريقنا لاعتماد المنهج الغربي في التعامل مع المسنين في بلادنا الإسلامية؟! وهل هذا المنهج هو الذي يمثل قمة التقدم والرقي والحضارة؟!

أحبتي في الله .. للإجابة عن هذه التساؤلات علينا أن نعود إلى مرجعيتنا الأساسية، التي لا غنى لنا عنها، ولا بديل لأحكامها، نعود إلى شريعتنا الغراء لننظر أين نقف من تعاليم وتوجيهات ديننا الإسلامي الحنيف:
فعن رعاية الإسلام بالمسنين يقول علماؤنا أن الإسلام حرص أشد الحرص على العناية بالفرد داخل المجتمع، من وقت كونه جنيناً، فطفلاً، فشاباً، فرجلاً، بعد أن أعطاه قيمته الإنسانية؛ فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، فالإنسان في جميع مراحله محترمٌ ومكرمٌ لقيمته الإنسانية الذاتية، ويزداد ذلك الاحترام والتكريم بقدر ما يكتسب من الصفات الطيبة، وبقدر ما يعمل من أعمال البر والخير. إن الإسلام حفظ للإنسان كرامته، ووفَّاه حقه، فأمر بإكرامه عند شيبته وحث على القيام بشؤونه، وهو النموذج الذي جسدته ابنتا شعيب عليه السلام اللتان قالتا: ﴿لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾.
ولما كان حال الكبر هو مظنة الإهمال والضجر والغضب خصه سبحانه بالذكر وبمزيدٍ من العناية من بين سائر الحالات التي يمر بها الإنسان في حياته، قال سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. ووصف الله عز وجل مرحلة الكبر في القرآن الكريم بأنها عودة إلى أرذل العمر في قوله: ﴿واللهُ خَلَقَكُم ثمَّ يَتَوَفَّاكُم ومِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَي لا يَعلَمَ بَعدَ عِلمٍ شَيئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾؛ لذلك كانت الشيخوخة محل عنايةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: [رَغِمَ أنفُ ثم رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ]، قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: [من أدرك أبويه عند الكبر - أحدهما أو كليهما - فلم يدخل الجنة]. وقال لرجلٍ استأذنه في الجهاد: [أحَيٌّ والداك؟] قال: نعم، قال: [ففيهما فجاهد].
والأمر لا يقف عند الوالدين إذا بلغا سن الشيخوخة بل يتعدى ذلك إلى كل كبيرٍ مُسّن، فيوجب له الاحترام ويجعل ذلك من الإسلام؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقَّر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينْهَ عن المنكر]. كما يوجب له الرعاية الاجتماعية والخلقية؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم]. ويَعِد الشاب البار الذي استجاب لأمر ربه بالجزاء الأوفى فيقول صلى الله عليه وسلم: [ما أكرم شابٌ شيخاً لسنه - أي في شيخوخته - إلا قيض الله له من يكرمه عند سنّه]. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يُسَلِّم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير]. كما قال: [أمرني جبريل أن أقدم الأكابر].
ومن سماحة الإسلام أنه راعى حق المسن في العبادات أيضاً، وأمر من يؤم الناس أن يراعي حال المسنين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء]. ومن باب التيسير ورفع الحرج جعل الإسلام للمسنين وغيرهم تشريعاتٍ خاصةً بهم، وحطّ عنهم الإثم في ترك ما لا يقدرون عليه؛ قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾. من تلك التشريعات: أجاز للمسن أن يفطر في نهار رمضان ويطعم إذا شق عليه الصيام؛ قال سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾. ورخص الإسلام للمسن المريض التخلف عن صلاة الجماعة، قال صلى الله عليه وسلم: [من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر]، قالوا: وما العذر؟ قال: [خوفٌ أو مرضٌ - لم تُقبل - منه الصلاة التي صلى]. بل رخّص للمريض - والمسن غالباً ما يصيبه المرض - أن يصلي بالكيفية التي يستطيعها إن تعذر عليه أو شق القيام، فإن لم يستطع أن يصلي قائماً قعد، فإن لم يستطع قاعداً فعلى جنبه؛ قال صلى الله عليه وسلم لمريض: [صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب]. وأوجب الإسلام الحج على المستطيع، فإن بلغ بالمسن العمر فشاخ وهَرِم فلم يستطع الحج لم يجب عليه الحج، لكنه مقصرٌ لأنه أَخَّرَه إلى وقتٍ لا يستطيعه فيه، ما لم يكن أخَّره لعذر، وحين زال العذر بلغ الهرم وخارت قواه ولم يملك مالاً ليُنيب عنه غيره فعندها فقط يسقط عنه الحج.

أحبتي .. أي رقيٍ وأي تحضرٍ وأية إنسانية أكثر من ذلك؟ علينا فقط أن نحافظ على قيمنا الإسلامية السامية، وأن نحسن لوالدينا ولكبار السن من الأهل والجيران وغيرهم فهم (الخير والبركة) وفيهم فلنجاهد. وليعلم كلٌ منا أنه قادمٌ بإذن الله إلى محطة الشيخوخة حين يمضي به قطار الحياة، وعليه من الآن أن يُحْسن لوالدَيه؛ حتى يجد مِن أبنائه مَن يحسن إليه ويرعاه عندما يصل هو يوماً إلى نفس المحطة، وأن يحسن إلى المسنين فيحترمهم ويوقرهم ويقدم لهم كل ما يستطيع أن يقدمه لهم من أشكال الرعاية، فهذا من أعظم أعمال البر والإحسان.
أحبتي .. احكموا بأنفسكم .. ما هو المنهج الأفضل والأرقى: المنهج الغربي أم المنهج الإسلامي في هذا المجال؟
انظروا ماذا يحدث عندما يلتزم المسلمون بمبادئ الإسلام وشريعة الله؛ فمما يُروى أن امرأةً فرنسيةً أخذت ولدها البالغ من العمر (14) عاماً إلى المركز الإسلامي بباريس من أجل أن يدخل في الإسلام، فلما وصلا للمركز دخل الصبي على إمام المركز وقال له: أمي تقول لك ساعدني للدخول في الإسلام. فسأله الإمام: وهل تريد أنت أن تدخل في الإسلام؟ فقال: أنا لم أفكر في هذا الأمر، ولكن أمي هي التي تريد لي ذلك. فاستغرب الإمام من إجابته وقال له: وهل أمك مسلمة؟ رد عليه الصبي: لا، ولا أعرف لماذا تريدني أن أدخل في الإسلام!! سأله الإمام: وأين أمك؟ قال: هي معي الآن تنتظرني خارج المسجد. فقال الإمام: اذهب وأحضرها حتى أتحدث معها. فخرج الصبي ورجع مع أمه. قال لها الإمام: هل صحيحٌ ما سمعته من ابنك بأنك لستِ مسلمةً وتطلبين منه أن يدخل في الإسلام؟ قالت: نعم هذا صحيح. فاستغرب الإمام من إجابتها وسألها: ولماذا؟، قالت: لأني أسكن بعمارةٍ في باريس وفي الشقة التي أمامي تسكن امرأةٌ مسلمةٌ مسنةٌ لها ولدان يدرسان في الجامعة، وفي كل صباحٍ ومساءٍ أشاهد الولدين كلما خرجا من المنزل أو رجعا يقبلان رأس أمهما ويدها، ويعاملانها باحترامٍ شديدٍ وكأنها رئيسة دولة، فأحببت أن يدخل ابني في الإسلام حتى إذا كبرت لا يرميني في دور المسنين وتهتم بي الدولة، وإنما يعاملني مثلما يعامل المسلم أمه!

أحبتي .. لا يسعني أن أنهي الحديث عن المسنين بغير أن أوجه دعوةً مفتوحةً لكل مسئولٍ في جميع جهات العمل للاستفادة من خبرات كبار السن الذين أحيلوا إلى التقاعد؛ شكلوا منهم لجان عملٍ تطوعيٍ في مجالات التخصص المختلفة، يقومون من خلالها بالدراسة وإبداء الرأي وتقديم المقترحات والتوصيات في مختلف المشرعات: الهندسية والصناعية والطبية والتربوية والاجتماعية والزراعية وغيرها من المجالات. إنهم بمثابة بيوت خبرةٍ وطنيةٍ متميزة تعمل بإخلاص تعطيكم رحيق خبراتها بدون تكلفةٍ تُذكر. المسنون هم (الخير والبركة) لأسرهم وللقريبين منهم، وهم مخزونٌ استراتيجيٌ هائلٌ للعلم والمعرفة وخبرات الحياة لمجتمعاتهم وأوطانهم؛ ينبغي الاستفادة منهم بدلاً من إهمالهم. استعينوا بهم في لجانٍ استشارية. إنهم ثروةٌ قوميةٌ لا تقدر بمال، استفيدوا منهم في مجالات التطوير والتحسين كلٌ في مجال اختصاصه؛ فقد كانوا يشغلون وظائف قيادية وإشرافية وأصبحوا الآن خبراء في مجالات تخصصهم يجمعون بين الخبرة والحكمة. لا تضيعوا على المجتمع الكثير من النفع والفائدة إذا أنتم أهدرتم هذه الفرصة. انظروا إليهم على أنهم أنتم أنفسكم عندما تُحالون إلى التقاعد، وعاملوهم كما تحبون أن تُعامَلوا وقتها!
وفروا للمسنين الإطار القانوني اللازم وأماكن العمل ووسائل الانتقال، سيُدهشكم حماسهم وعطاؤهم، وتُبهركم آراؤهم وأفكارهم ومقترحاتهم! وهم لا ينتظرون منكم سوى أن تقدموا لهم التقدير الأدبي بالشكر والعرفان!

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إن أَذِنَ الله وأَمَّدَ في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

                                          http://goo.gl/6RUh6N