الجمعة، 25 فبراير 2022

أفيقوا يرحمكم الله

 

خاطرة الجمعة /332


الجمعة 25 فبراير 2022م

(أفيقوا يرحمكم الله)

 

تحت عنوان "توبة فتاةٍ استمعتْ إلى كلام الله"، كتبتْ تقول عن تجربتها الشخصية:

كنتُ متماديةً في المُنكرات والعصيان، ولَكَمْ حاوَلَتْ والدتي نُصحي وتذكيري لدرجة أنها كانت تبكي أمامي؛ ولكن بدون فائدة! ظللتُ أسير في طريقٍ مظلمٍ كالحٍ، أتخبط فيه بين الأوهام والخيالات، وعندما يُسدِلُ الليلُ ستاره الأسود أفكر فيما سأعمله غداً، وعندما يُشرق النهار أبلجَ واضحًا أحمِلُ هَمَّ الليل وكيف سأقضيه، وليس لي همٌّ إلا الدنيا، وإضاعة الأوقات بدون فائدة، وتمر الساعات وأنا ما بين أغنيةٍ ومجلةٍ وفيلمٍ؛ وهكذا ألبستني الغفلةُ من ثيابِها ألواناً شتى.

وذات يومٍ مللتُ من ذلك الروتين اليومي، ومن نُصح والدتي وتذكيرها لي بوالدي المتوفَى -رحمه الله- وحرصه عليّ، ودخلتُ غرفتي التي تضج بالأشرطة والمجلات والصور، وفتحتُ نافذة غرفتي فإذا بصوت إمام المسجد يهز مسامعي وهو يقرأ من سورة ق، فما أشد وقع تلك الكلمات على نفسي الغافلة، وما أعظمها وهي تصف حال الإنسان عند الموت: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ إلى قوله تعالي: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ . لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾.

إنها الحياة الحقيقية، فما أقسى الموت! وما أشد غفلتي عنه! وهذا القبر الذي طوته الغفلة وغيّبه النسيان في حياتي! وهذه الصلاة التي كانت مُجرّد عادةٍ؛ إن كنتُ متفرغةً أديتها وإلا تركتها كغيرها من الفرائض! أما كتاب الله فلا تمسه يداي إلا في المدرسة إن حضرتُ حصته. دق جرس الإنذار في نفسي مُدوياً، وانهالت الأسئلة أطرحها على نفسي: "ماذا أعددتِ لسؤالك؟"، "ماذا أعددتِ للقبر وضمته؟"، "هل أنتِ مُستعدةٌ للموت وسكرته؟". اكتشفتُ فجأةً أني لستُ مستعدةً لأي شيءٍ من هذا أبداً؛ لا رصيد لديّ أنجو به، ولا زاد أتزود به سوي عشرات الأغاني الماجنة التي أحفظها! يا إلهي؛ ماذا سأفعل؟ راح من عُمري الكثير: ذنوبٌ بالليل وآثامٌ بالنهار! لا بد من الرجوع إلى الله، والاستعداد ليومٍ تشيب فيه الولدان، وتضع كل ذات حملٍ حملها، لا بد من الاستيقاظ والعمل بجدٍ وإخلاصٍ، لعل الله أن يعفو عن الكثير، ويقبل القليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

أحبتي في الله.. كانت هذه لحظة صدقٍ عاشتها تلك الفتاة، لا نعلم ربما ماتت بعدها وهي على نية التوبة والرجوع إلى الله، فتكون قد فازت الفوز العظيم. وربما ما زالت على قيد الحياة. المؤكد أنّ الله سبحانه وتعالى قد منّ عليها فهداها إلى سواء السبيل، وألهمها أن تكتب قصتها وتنشرها ولسان حالها يقول: (أفيقوا يرحمكم الله)، لعل كلماتها توقظ في نفوس غيرها تقوى الله، فتكون سبباً في هدايتهم ونجاتهم.

 

ذكرتني هذه القصة بأخرى مشابهةٍ لها حدثت مع شابٍ جامعي، يروي القصة أحد زملائه من الشباب فيقول:

نحن مجموعةٌ من الشباب ندرس في إحدى الجامعات، وكان من بيننا صديقٌ عزيزٌ اسمه مُحمد، كان يُحيي لنا السهرات، ويُجيد العزف على النّاي حتى يُطرب أسماعنا. والمتفق عليه عندنا أن سهرةً بدون مُحمدٍ سهرةٌ ميتةٌ لا أُنس فيها. مضت الأيام على هذه الحال، وفي يومٍ من الأيام جاء مُحمد إلى الجامعة وقد تغيّرت ملامحه وظهرت عليه آثار السكينة والخشوع؛ فجئتُ إليه أحدّثه فقلت: "ما بك يا مُحمد؟ كأن الوجه غير الوجه"، فرّد عليّ بلهجةٍ عزيزةٍ وقال: "طلّقتُ الضياع والخراب، وإني تائبٌ إلى الله"، فقلتُ له: "عندنا الليلة سهرةٌ لا تُفوّت؛ فسيكون عندنا ضيفٌ تُحبه، إنه المُطرب الفلاني"، فرد ّ مُحمد عليّ وقال: "أرجو أن تعذرني؛ فقد قررتُ أن أقاطع هذه الجلسات الضائعة"، ثم أردف قائلاً: "اسمع يا فلان؛ كم بقي من عمرك؟ ها أنت تعيش في قوةٍ بدنيةٍ وعقليةٍ، وتعيش حيوية الشباب، فإلى متى تبقى مُذنباً غارقاً في المعاصي؟ لما لا تغتنم هذا العمر في أعمال الخير والطّاعات؟"، وواصل وعظه بنصائح طيبةٍ من قلبٍ صادقٍ: "يا فلان؛ إلى متى تُسوّف؟ لا صلاة لربك ولا عبادة، أما تدري أنك قد تموت اليوم أو غداً؟ كم من مُغترٍ بشبابه وملَكُ الموت عند بابه؟ كم من غافلٍ عن أمره وقد آن أوان انصرام عمره؟ كم من غارقٍ في لهوه وأُنسه وما شعر أنه قد دنا غروب شمسه؟". كلماتٌ قالها وكأنه يقول لنا: (أفيقوا يرحمكم الله).

يقول الشاب: "وتفرقنا على ذلك، وكان من الغد دخول شهر رمضان، وفي ثاني أيام رمضان ذهبتُ إلى الجامعة لحضور محاضرات السبت فوجدتُ الشباب وقد تغيّرت وجوههم، سألتُ: "ما بكم؟"، قال أحدهم: "خرج محمدٌ بالأمس من صلاة الجُمعة فصدمته سيارةٌ مسرعةٌ، فتوفاه الله وهو صائمٌ مُصلٍّ، الله أكبر ما أجملها من خاتمة". قلتُ: "لم يكن صائماً مُصلياً فحسب، بل وكان أيضاً تائباً إلى الله توبةً نصوحا". صلينا على مُحمد عصر ذلك اليوم، وأهلنا عليه التراب، وكان منظراً مؤثراً، يا رب ارزقنا حسن الخاتمة".

 

يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾. والمعنى كما يقول المفسرون: لَا يقنَطَنّ عبدٌ من رحمة الله، وإن عظُمت ذنوبه وكثرت، فإنّ باب التوبة والرحمة واسع.

 

وعن أكثر الناس احتياجاً للتوبة يقول أحد الناس -ونحسبه من الصالحين بإذن الله-: إذا تأملتَ في الناس تجدهم أربعة أصنافٍ لا خامس لهم: طائعٌ لله وسعيدٌ في الحياة، طائعٌ لله وتعيسٌ في الحياة، عاصٍ لله وسعيدٌ في الحياة، أو عاصٍ لله وتعيسٌ في الحياة. إذا كنتَ من الصنف الأول: طائعاً لله وسعيداً في الحياة، فهذا أمرٌ طبيعيٌ؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فاحمد الله واستمر في طاعته. وإذا كنتَ من الصنف الرابع: عاصياً لله وتعيساً في الحياة، فهذا أيضاً أمرٌ طبيعيٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾، وتكون أشد الناس احتياجاً للتوبة. أما إذا كنتَ من الصنف الثاني: طائعاً لله وتعيساً في الحياة، فهذا يحتمل أمرين: إما أن الله يُحبك ويُريد اختبار صبرك ورفع درجاتك؛ يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وإما أن في طاعتك خللاً وذنوباً غفلتَ عنها ومازلتَ تُسوّف في التوبة منها؛ ولذا يبتليك الله لتعود إليه؛ يقول تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. ولكن إذا كنتَ من الصنف الثالث: عاصياً لله وسعيداً في الحياة، فالحذر الحذر؛ لأن هذا قد يكون هو الاستدراج، وهذا أسوأ وضعٍ يكون فيه الإنسان، والعاقبة وخيمةٌ جداً، والعقوبة من الله آتيةٌ لا محالة، إن لم تعتبر قبل فوات الأوان؛ يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ فبادر إلى توبةٍ نصوح.

 

وهل التائب هو كل من يترك الذنب؟ يُجيب أحد العلماء فيقول: قد يظن الظانّ أنه تائب، لكنه قد لا يكون تائباً؛ بل يكون تاركاً، والتارك غير التائب؛ فالتارك قد يُعرِض عن الذنب لعدم خُطورِهِ بِبالِه، أو لعجزه عنه، أو لأن إرادته تنتفي له بسبب غيرِ دينيّ، وهذه ليست بتوبةٍ، بل لابد في التوبة من أن: يعتقدَ أن عمله يُعد سيئةً، ويكره فعله لنهي الله عنهُ، ويدعه للهِ تعالى لا لرغبة مخلوقٍ ولا لِرهبة مخلوقٍ، فإنّ التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها، يُشترط فيها الإخلاص لله وموافقة سُنة نبيه. ومن تاب ثم عاد فعليه أن يتوب ثانيةً، ثم إن عاد فعليه أن يتوب، وكذلك كلما أذنب، ولا ييأس من روح الله؛ فلعله إذا عاد إلى التوبة مرةً بعد مرةٍ مَنَّ الله عليه في آخر الأمر بتوبةٍ نصوح.

 

يقول أحد التائبين ناصحاً صديقاً له:

"أفكلما اشتهيتَ اشتريت؟ فمتى تتعلم الصبر؟ أفكلما خلوتَ عصيت؟ فمتى تتعلم التقوى؟ أفكلما تعبتَ استرحت؟ فمتى تتعلم الجَلَد؟ أفكلما يُسر لك تماديت؟ فمتى تبدأ التوبة؟ يا صديقي: تأتي المعصية فيرحل معها القرآن الكريم والصلاة وقيام الليل والخوف من الله، ثم يلحق بهما الذِكر ثم تذهب الطمأنينة ويأتي عُسر الحال وقلة البركة في الوقت والمال. تذكّر يا صديقي أن أصعب الحرام أوَّله، ثم يسهل، ثم يُستساغ، ثم يُؤْلف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يبحث القلب عن حرامٍ آخر، سبحان الله إنها خطوات الشيطان.

قال أحد الصالحين: إذا دعتك نفسك إلى معصيةٍ فحاورها حواراً لطيفاً بهذه الآية: ﴿قل أذلك خيرٌ أم جنّة الخُلد التي وُعِد المتقون﴾. إن الاستمرار في ارتكاب الذنوب والمعاصي وتسويف التوبة هو من أهم أسباب كدر العيش والفقر والغم وضيقة النفس. فهلّا بادرتَ صديقي إلى توبةٍ نصوحٍ تكون سبباً في سعادتك في الدارين: الدنيا والآخرة؟".

 

قال الشاعر:

أينَ العقولُ إذِ الإلهُ منادياً

كلَ العبادِ بأَن إليّ أنيبوا

للَه مَرجِعُكُم جميعاً فاعلموا

أنْ لا مفرَ من الإلِه فتوبوا

وقال آخر:

يا ربِ إنّ الصفحَ منكَ مؤملُ

فاصفحْ وأكْرِم إنكَ المُتفضلُ

هذا عبدُك جاءَ يدعو تائباً

والتوبُ عندكَ يا إلهي يُقبلُ

وقال ثالث:

على بابِ جودِكَ أنختُ ربي راحلتي

ورجوتُ عفوَكَ عن ذَنبي وعن زَللي

وذرفتُ بالبابِ دموعَ التوبةِ من مُقلٍ

سهرتْ تُناجيكَ في خوفٍ وفي أملِ

 

أحبتي.. (أفيقوا يرحمكم الله) وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وتوبوا إلى الله واعملوا ليومٍ آتٍ لا ريب فيه؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. فلنتب إلى الله فوراً، بغير تأجيلٍ ولا تسويف، قبل أن يوافي أحدنا أجله المحتوم فيقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيأتي الرد سريعاً وحاسماً: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. ولنواظب على الدعاء لأنفسنا بالمغفرة والرحمة ونقول: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. أحبتي.. لا تيأسوا مهما بلغت أوزاركم، ولا تقنطوا مهما بلغت خطاياكم؛ فما جُعلت المغفرة إلا للمذنبين، والله رؤوفٌ رحيم، وهو القائل في كتابه الكريم: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾؛ فاشكروا وآمنوا وعودوا إلى صراط العزيز الحكيم.

هدانا الله وإياكم إلى سواء السبيل.

https://bit.ly/3t10IAE