الجمعة، 3 مايو 2019

هل تستطيع؟


الجمعة 3 مايو 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٥
(هل تستطيع؟)

هذا مقالٌ نشره الراحل الدكتور مصطفى محمود يتحدث فيه عن واقعةٍ حدثت قبل حوالي ستين عاماً، عندما كان طفلاً صغيراً. المقال بعنوان: «لماذا لا يحترم الإعلام العربي رمضان؟»، جاء فيه: لماذا يتحول رمضان إلى شهرٍ ترفيهيٍ بدلاً من شهرٍ روحانيٍ؟ لستُ شيخاً ولا داعيةً، ولكني أفهم الآن لماذا كانت والدتي تدير التلفاز ليواجه الحائط طوال شهر رمضان.. كنتُ طفلاً صغيراً ناقماً على أُمي التي منعتني وإخوتي من مشاهدة فوازير رمضان بينما يتابعها كل أصدقائي.. ولم يشفِ غليلي إجابة والدتي المقتضبة: "رمضان شهر للعبادة، ليس للفوازير!"، لم أكن أفهم منطق أمي الذي كنت كطفلٍ أعتبره تشدداً في الدين لا فائدة منه.. فكيف ستؤثر مشاهدة طفلٍ صغيرٍ للفوازير على شهر رمضان؟ مرت السنوات وأخذتني دوامة الحياة وغطى ضجيج معارك الدراسة والعمل على همسة سؤالي الطفولي، حتى أراد الله أن تأتيني الإجابة عن هذا السؤال من رجلٍ مسنٍ غير متعلمٍ في الركن الآخر من الكرة الأرضية، كان ذلك الرجل هو عاملٌ أمريكيٌ في محطة بنزينٍ اعتدت دخولها لشراء قهوةٍ أثناء ملء السيارة بالوقود في طريق عملي، وفي اليوم الذي يسبق يوم الكريسماس دخلتُ لشراء القهوة كعادتي، فإذا بي أجد ذلك الرجل منهمكاً في وضع أقفالٍ على ثلاجة الخمور، وعندما عاد لمحاسبتي على القهوة، سألته وكنتُ حديث عهدٍ بقوانين أمريكا: "لماذا تضع أقفالاً على هذه الثلاجة؟!"، فأجابني: «هذه ثلاجة الخمور، وقوانين الولاية تمنع بيع الخمور في ليلة ويوم الكريسماس، يوم ميلاد المسيح». نظرت إليه مندهشاً قائلاً: "أليست أمريكا دولةً علمانيةً؟ لماذا تتدخل الدولة في شيء مثل هذا؟"، قال الرجل: "الاحترام، يجب على الجميع احترام ميلاد المسيح وعدم شرب الخمر في هذا اليوم حتى وإن لم تكن متديناً؛ إذا فقد المجتمع الاحترام فقدنا كل شيء". الاحترام .. الاحترام .. ظلت هذه الكلمة تدور في عقلي لأيامٍ وأيامٍ بعد هذه الليلة.. فالخمر غير محرمٍ عند كثيرٍ من المذاهب المسيحية في أمريكا.. ولكن المسألة ليست مسألة حلالٍ أو حرامٍ.. إنها مسألة احترامٍ.. فهم ينظرون للكريسماس كضيفٍ يزورهم كل سنةٍ ليذكرهم بميلاد المسيح عليه السلام، وليس من الاحترام السكر في معية ذلك الضيف.. فلتسكر ولتعربد في يومٍ آخر إذا كان ذلك أسلوب حياتك.. أنت حرٌ.. ولكن في هذا اليوم سيحترم الجميع هذا الضيف وستضع الدولة قانوناً! أتمنى أن نحترم شهر القرآن، ونعرف ماذا نشاهد. ومن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه، قال تعالى: «وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ». 

لم أكد أنتهي من قراءة هذا المقال إلا واستلمتُ - من خلال وسائل التواصل الاجتماعي - رسالةً تصف وصفاً دقيقاً كيف ينقسم المسلمون إلى فريقين مختلفين مع اقتراب شهر رمضان الكريم؛ تقول الرسالة:
فريقان لا ينامان هذه الأيام، يسابقان الوقت ويسارعان الزمان:
الفريق الأول- أشخاصٌ لا ينامون استعداداً لاستقبال شهر رمضان؛ يجهزون مسلسلاتٍ وبرامج ومقالب وفوازير تُنتج خصيصاً لهذا الشهر المبارك! منهم من يكتب ومنهم من يُنتج، ومنهم من يُمَثِّل ومنهم من يُخرج. يعملون بهمةٍ ونشاطٍ وكأن الشيطان يقول لهم: "أفوضكم في القيام بمهامي، حيث سأكون مُكبلاً ومُسلسلاً ومصفداً بالأغلال طوال شهر رمضان، لا أريد عند عودتي أن أجد الناس وقد غفر الله لهم، أريدكم أن تشغلوا المسلمين عن صلاة الجماعة وعن صلاة التراويح، ولا تتركوا لهم فرصةً لختم القرآن، ولا الخشوع في الصلاة، ولا حتى غض البصر، اضبطوا جدول المسلسلات التلفزيونية مع مواعيد الصلوات الخمس، واستغلوا فترة استجابة الدعاء وقت الإفطار  ببعض المقالب أو الفوازير، أما أفضل مسلسلٍ فلابد من عرضه وقت صلاة التراويح، وزودوا جرعة الإثارة، والمشاهد الغرامية. لا أوصيكم فأنتم أساتذةٌ مشهودٌ لكم في هذا المجال وأنا مطمئنٌ؛ فكم أبدعتم في هذا المجال في السنوات السابقة بأكثر مما كنت أحلم أو أتصور. أترككم أحبتي على خيرٍ وألتقي بكم بعد انتهاء شهر رمضان". إنهم فريق: ﴿الَّذينَ يُحِبّونَ أَن تَشيعَ الفاحِشَةُ فِي الَّذينَ آمَنوا﴾. وهذا الفريق يتبعه -مع الأسى والأسف - بعض المسلمين الغافلين اللاهين الذين ندعو الله سبحانه وتعالى لهم بالهداية.

أما الفريق الثاني- فهم مسلمون هداهم الله سبحانه وتعالى، يحترمون قدسية شهر رمضان المبارك، يعلمون قدره فيستعدون لاستقباله أحسن استعداد؛ يبدأون من شهر شعبان في تدريب أنفسهم على الصوم فيزيدون من صوم التطوع، ويراجعون علي ما حفظوه من القرآن الكريم، ويُحَضِّرون أنفسهم للصلوات المكتوبة مع جماعة المسلمين في المسجد، ويحددون في أي مسجدٍ سوف يصلون التراويح، كما يُحَضِّرون دروساً وخواطر رمضانيةً ومسابقاتٍ وقوافل خيريةً لإفطار صائمٍ أو إطعام مساكين، ويُجهزون حقائب رمضان وما تحتوي عليه من مواد غذائيةٍ لتوزيعها على الفقراء. منهم من يبكي بينه وبين الله سبحانه وتعالى يناجيه وهو يصلي ويطلب منه أن يُصلح له قلبه كي يستحق الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، ومنهم من يبادر إلى إصلاح علاقته بأقاربه ويبر أرحامه ويقوي صلته بهم، ومنهم من يسهر في إعداد جداول لنفسه ولأبنائه ولإخوانه لمتابعة الالتزام بالعبادات وتوزيع أعمال الخير على أيام الشهر الفضيل، ومنهم من اتخذ قراراً بأن يكون شهر رمضان فرصةً لا يضيعها للتغيير نحو الأحسن بترك السيئات والمعاصي والاقتراب من الله سبحانه وتعالى؛ يضع أسس علاقةٍ جديدةٍ مع الصلاة والقرآن، ويعزم على هجر الصحبة السيئة من الأصدقاء وملازمة من يساعده ويأخذ بيده نحو الخير في رمضان وبعد رمضان. إنهم يستعدون لاستقبال موسم الطاعات؛ إنهم فريق: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ﴾.

أحبتي في الله .. أحسستُ وأنا أقرأ المقال بأن كلماته كأنما كُتبت بالأمس! وكما لو كانت تخاطبنا نحن الآن!
أما عندما اطلعت على الرسالة فقد تبين لي أن المشكلة لم تعد في التلفاز فقط؛ فعلى مدى العقود التي مضت منذ الواقعة التي أشار المقال إليها، حدثت متغيراتٌ كثيرةٌ؛ صار التلفاز ملوناً، ثم ظهرت القنوات الفضائية، بالتزامن مع انتشارٍ سريعٍ لشبكة الإنترنت، ثم اختراع الهواتف الذكية، وتعدد برامج وتطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، كلها تخطف الأبصار والأسماع وتغزو القلوب بالألوان والصور المجسمة ومقاطع الفيديو والمسلسلات والأفلام وغيرها. وأصبح هناك فئةٌ من الناس ينظرون إلى شهر رمضان باعتباره موسماً اقتصادياً يحرصون على أن يكسبوا مئات الملايين من إنتاج المسلسلات والأفلام والفوازير والبرامج الهابطة، فئةٌ لا تراعي حرمة الشهر الفضيل، ولا تهتم إلا بمكاسبها المادية، وهم - والحق يُقال - يجيدون عملهم الشيطاني ويبدعون فيه! 
إنه الاستعداد لاستقبال شهر رمضان الكريم موسم الطاعات، فريقان لا ثالث لهما؛ فريقٌ منهما هو حزب الشيطان، إنهم هم الخاسرون؛ يقول عنهم سبحانه وتعالى: ﴿استَحوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطانُ فَأَنساهُم ذِكرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزبُ الشَّيطانِ أَلا إِنَّ حِزبَ الشَّيطانِ هُمُ الخاسِرونَ﴾، وهم أصحاب السعير؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيطانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدعو حِزبَهُ لِيَكونوا مِن أَصحابِ السَّعيرِ﴾. والفريق الآخر هو حزب الله، إنهم هم الغالبون؛ يقول عنهم عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَالَّذينَ آمَنوا فَإِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ الغالِبونَ﴾، وهم المفلحون؛ يقول تعالى: ﴿أَلا إِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ المُفلِحونَ﴾.
كلاهما يستعد لاستقبال الشهر الكريم.
إذن فقد كبر التحدي، وصار السؤال الآن: إلى أي الفريقين تنتمي؟
يتمنى كلٌ منا في قرارة نفسه أن يكون من فريق المؤمنين الصالحين المتقين الراغبين في أن يكون شهر رمضان بالنسبة لهم شهر عبادةٍ لا يشوبها شائبةٌ، لكن العبرة ليست بالتمني وإنما بالتنفيذ والالتزام الفعلي، وهنا مربط الفرس، هنا يكمن التحدي؛ (هل تستطيع) أن تدير وجهك عن كل هذه المفاسد والموبقات طوال شهرٍ واحدٍ فقط هو شهر رمضان؟ ألا يستحق منك هذا الشهر أن تستقبله باحترامٍ وتعيشه في خشوعٍ وتنهيه وأنت مرتاح الضمير؟ إنه تحدٍ كبيرٌ يحتاج إلى نيةٍ صادقةٍ مخلصةٍ وإرادةٍ صلبةٍ.

وللتخفيف نعيد صياغة السؤال ليصبح: "(هل تستطيع) أن تضع برنامجاً محدداً لمشاهدة ما هو مفيدٌ في التلفاز والقنوات الفضائية، وتقصر دخولك على شبكة الإنترنت على مواقع محددةٍ تستفيد منها ولمدةٍ محدودةٍ لا تتجاوزها، وكذلك الأمر مع الهاتف الذكي؛ فتستخدمه فقط لإجراء المكالمات الهامة واستقبالها، مع التوقف التام عن استخدام مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي، ومقاطعة كل ذلك لمدة شهرٍ واحدٍ فقط؟".
كي تنجح خطة المقاطعة المقترحة لابد أن يكون هناك البديل، وهذا تحدٍ آخر يواجه كل من لم يتعود التخطيط لحياته، ويترك حياته يخطط لها الآخرون ويبقى هو متلقياً بليداً تُصب في عقله الأفكار صباً، ويُحشى وجدانه بما يريده غيره له، لا بما يختاره لنفسه ولا بما ينبغي أن يكون! ولأن المسلم كما وصفه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [كَيْسٌ فَطِنٌ]؛ فليبادر كل مسلمٍ إلى وضع خطةٍ تناسب جميع أفراد أسرته تختلف باختلاف أعمارهم وميولهم، بل وعليه أن يشركهم في وضع هذه الخطة بأنفسهم ليكسب قناعتهم بها وحرصهم على تنفيذها، وهي ببساطةٍ برنامجٌ يوميٌ يشتمل على متابعة أداء الفروض من صلاةٍ وصومٍ، وأداء السنن من صلاة تراويح وصلاة قيامٍ وتهجد، وأعمال الخير كحفظ القرآن الكريم وتلاوته، وحفظ ما تيسر من الأحاديث الشريفة، وإفطار الصائمين، وإطعام الفقراء والمساكين والتصدق عليهم، وحضور الدروس الدينية في المساجد، مع فقراتٍ ترويحيةٍ لطيفةٍ كرواية القصص الدينية، وتنظيم المسابقات، ومشاهدة برنامجٍ مفيدٍ على التلفاز، وفتح الحاسوب أو الهاتف الذكي على موقعٍ محددٍ سلفاً يعرض السيرة النبوية أو يتحدث عن الحضارة الإسلامية أو يقدم القيم الإسلامية في صورٍ مقبولةٍ شرعاً بعيداً عن أي إسفافٍ أو تجاوز، وإخراج زكاة الفطر.

أحبتي .. على كلٍ منا أن يختار لنفسه فريقاً من الفريقين: ﴿مَثَلُ الفَريقَينِ كَالأَعمى وَالأَصَمِّ وَالبَصيرِ وَالسَّميعِ هَل يَستَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرونَ﴾. وعند الاختيار ينبغي أن نتذكر الآية الكريمة: ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ﴾، ونتأمل قوله تعالى: ﴿أَمَّن هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجِدًا وَقائِمًا يَحذَرُ الآخِرَةَ وَيَرجو رَحمَةَ رَبِّهِ قُل هَل يَستَوِي الَّذينَ يَعلَمونَ وَالَّذينَ لا يَعلَمونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبابِ﴾، ولنستشعر موقف الحساب عن كل ما قررنا أن نستمع له وكل ما أحببنا أن نشاهده وكل هوىً وقر في أفئدتنا؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾. فإذا قرأنا قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُريدُ أَن يَتوبَ عَلَيكُم وَيُريدُ الَّذينَ يَتَّبِعونَ الشَّهَواتِ أَن تَميلوا مَيلًا عَظيمًا﴾ لاخترنا فوراً أن نكون من حزب الله ليتوب علينا. ولنتذكر أحبةً لنا غيبهم الموت لا يتمنون الآن إلا أن يعودوا للحياة ليحسنوا الاختيار؛ فلا يكونوا أبداً من فريق الغافلين اللاهين المفرطين في اغتنام فرصة الفوز برحمة الله ومغفرته والعتق من النار، إذا كانوا هم قد أضاعوا فرصتهم، ولم يعد أمامهم الآن سبيلٌ للتراجع، ففرصتنا نحن ما تزال قائمةً وهي بين أيدينا؛ فليقل كلٌ منا الآن: نعم أستطيع، نعم أستطيع، نعم أستطيع؛ ليتحقق وعد الله سبحانه وتعالى بالتيسير: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى . فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.

أعاننا الله، وصوب خطانا، وأبعد عنا شياطين الجن والإنس بما يزينوه لنا من باطل. اللهم بلِّغنا رمضان هادين مهتدين، واجعل أيامه ولياليه شاهدةً لنا لا علينا. اللهم رُدنا إليك رد الكرام عليك، لا رد الغافلين عنك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2PJlVuO