الجمعة، 6 سبتمبر 2019

غفلة الآباء


الجمعة 6 سبتمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٣
(غفلة الآباء)

كتب أحد الأبناء على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك رسالةً إلى أبيه يقول فيها:
أبتي .. اِستمع إلى شكواي أبثها إليك، ومشكلتي أضعها بين يديك؛ فمشكلتي يا أبتي أنك أنت مشكلتي!
إنني أعيش في تخبطٍ عجيبٍ وصراعٍ غريب؛ وذلك لأني أراك تأمرني بأمورٍ أنت لا تفعلها، وتنهاني عن أمورٍ أنت ترتكبها، فاحترتُ أأقتدي بأقوالك أم بأفعالك؟ تأمرني بالصدق وتحثني عليه، وترغبني فيه، وتحذرني من الكذب وتنهاني عنه، ثم أراك في مواضع كثيرةٍ تمارس ما نهيتني عنه وحذرتني منه؛ فتكذب تارةً، وتأمرني بالكذب تارةً أخرى! تأمرني يا أبتي بأن آكل الحلال، وأكون أبعد ما أكون عن الحرام، وأنت لا تعطي صاحب البقالة حقه الذي له علينا منذ سنوات! تأمرني أن أكون باراً بأمي، وأنت تُهينها وتُهين أهلها كلما غضبت! تخالف أوامر الخالق سبحانه وتعالى أمامي، ثم تطلب مني أن أخافه وأراقبه! لقد أصبَحَتْ المُثُل والقيم التي تعلمني إياها في نظري كلاماً نظرياً لا يمت للواقع بصلة؛ فألفيتُ نفسي أتعلم منك كلاماً في الصباح، وأرى ما يخالفه أفعالاً في المساء!
يا أبتي: إني لا أريد أن أكون خصيماً لك يوم القيامة؛ فأُمسك بتلابيبك يوم الحسرة والندامة وأقول: "يا ربِ خُذ لي مظلمتي من والدي؛ لأنه رآني على المعصية فلم ينهني، وأبصرني محجماً عن المعروف فلم يأمرني. يا ربِ إنه يَسَّر لي أسباب المعصية، وزيَّن في عيني الخطيئة، وألقاني في نار الشهوات؛ فأحرقت إيماني والتهمت حسناتي".
يا أبتي: إني أمانةٌ في عنقك، وأنت مسؤولٌ عني أمام ربي وربك؛ فاشغلني بطاعة الله حتى لا تشغلني نفسي بمعصيته، استعملني في مرضاة الله حتى لا أقع فيما يغضبه، سخرني في قربات الله كي لا أفعل ما يسخطه، بِرَّني صغيراً حتى أُبِرُك كبيراً. لن أشكوك يوم القيامة أمام الله لأنك لم تسافر بي للسياحة، أو لأنك لم توفر لي أجهزةً إلكترونيةً أو هواتف حديثة، أو لأنك لم تسجلني بنادٍ رياضي، أو لم تُلبسني ثياباً فاخرة، لكنني سأخبر ربي أنك لَمْ تعلمني كيف أعبده وأحبه وأتعلق به، ولَمْ تعلمني أن أفزع إليه في الشدائد، وأُراقبه وأذكره في الرخاء، ولَمْ تعلمني القرآن والسنة والعمل بهما، ولَمْ تكن تأمرني بالصلاة وتحثني على عدم تركها في كل حال، لَمْ توقظني لصلاة الفجر وتعلمني الحفاظ عليها، لَمْ تزرع في نفسي الحرص على صلاة الجماعة في المسجد، لَمْ تنهني عن التهاون والتفريط  في الفرائض وَالانخراط في الشهوات وفعل المنكرات ومصاحبة أصدقاء السوء واللهو والانشغال عن عبادة الله وطاعته، وتركتَ الشارع وأصدقاء السوء هم من يتولون تربيتي، سمحتَ لنا بمتابعة القنوات الفضائية التي تُضيِّع الدين وتهدر الأخلاق فنشأنا تائهين ضائعين في هذه الحياة.
أبي الحبيب، هل أعددتَ جواباً ينجيك يوم تقف أمام الله سبحانه وتعالى فيسألك عني وعن إخوتي - وقد كنا أمانةً عندك - هل حفظتنا أم ضيعتنا؟!

إنها رسالةٌ صعبةٌ عن (غفلة الآباء) حركت مشاعري، وجعلتني أسأل نفسي السؤال الأخير: ماذا سأجيب ربي عندما يسألني أحفظتُ أمانتي أم ضيعتُها؟
ذكرتني هذه الرسالة بقصةٍ من قصص التراث ذات الصلة؛ حيث كان هناك ملِكٌ كثير المال، وكانت له ابنةٌ لم يكن له ولدٌ غيرها، وكان يحبها حبّاً شديداً، وكان يلهيها بصنوف اللهو، فمكث كذلك زماناً، وكان إلى جانب الملِك عابدٌ، فبينما هو ذات ليلةٍ يقرأ إذ رفع صوته وهو يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ فسمعت الابنة قراءته، فقالت لجواريها: كفوا، فلم يكفوا، وجعل العابد يردد الآية والابنة تقول لهم: كفوا، فلم يكفوا، فوضعت يدها في جيبها فشقت ثيابها، فانطلقوا إلى أبيها فأخبروه بالقصة، فأقبل إليها، فقال: يا حبيبتي ما حالك منذ الليلة؟ ما يبكيك؟ وضمها إليه، فقالت: أسألك بالله يا أبتِ، أللهِ عزَّ وجلَّ دارٌ فيها نارٌ وقودها الناس والحجارة؟ قال: نعم، قالت: وما يمنعك يا أبتِ أن تخبرني؟ واللهِ لا أكلتُ طيِّباً، ولا نمتُ على ليِّنٍ حتى أعلمَ أين منزلي في الجنة أو النار.
إنها قصةٌ أخرى عن (غفلة الآباء)!

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن تضييع الأبناء وعدم الاهتمام بتربيتهم أمرٌ منكرٌ ومعصيةٌ ظاهرةٌ وتضييعٌ لوصية الله سبحانه الذي قال: ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾؛ فالأبناء ودائع عند الوالدين وصى الله عليهم ليقوم الوالدان بمصالحهم الدينية والدنيوية، فيعلموهم ويؤدبوهم ويكفوهم عن المفاسد، ويأمروهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام؛ فالأولاد عند والديهم موصىً بهم، إما أن يقوم الوالدان بتلك الوصية، وإما إن يضيعاها فيستحقا بذلك الوعيد والعقاب. والتربية مسؤوليةٌ مشتركةٌ بين الوالدين، لذا فمن الخطأ حصر مسؤولية الأب في الإنفاق فقط؛ فعليه أن يتقي الله ربه، وأن يَعْلَم أن اشتغاله بتربية أولاده ودعوتهم إلى الله وإلزامهم أخلاق الإسلام من أولى واجباته؛ لأن هؤلاء الأولاد من رعيته التي استرعاه الله عليها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُوْلُ]، فإن فرَّط الأب وقصَّر في واجب تربية أبنائه كان آثماً؛ يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهْىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ].
إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده؛ فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حقٌ، فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدىً، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً.

يقول علماء الاجتماع وعلماء النفس إن وجود الأب في حياة الأطفال يعني الحماية والرعاية والقدوة والسلطة، فالأطفال بحاجةٍ إلى أن يشعروا بأن هناك حمايةً ورعايةً وإرشاداً يختلف نوعاً ما عما يجدونه عند الأم، وبأن الأب هو الراعي الأساسي للأسرة، وهو المسؤول عن رعيته، فوجود الأب كمعلمٍ في حياة الطفل يُعتبر من العوامل الضرورية في تربيته وإعداده. إن بعض الآباء يظنون أن دور الرجل يقتصر على تأمين السكن والملبس والمصاريف، ويُعَرِّفون مفهوم رب الأسرة بأنه ذلك الديكتاتور المتسلط الحازم في كل شيء، لكن هذا خطأٌ فادحٌ، فمشاركة الأب في تربية الأبناء شيءٌ في غاية الأهمية، لما له من تأثيرٍ قويٍ في شخصية الأبناء، من خلال اهتمامه بأبنائه ومصاحبتهم ومعرفة أفكارهم وميولهم وهواياتهم، ومساعدته لهم في حل مشاكلهم، ومعرفة أصدقائهم، كما أن عليه إرشادهم وتقويمهم واستخدام الشدة والحزم، إلى جانب الرفق والتسامح؛ فإحساس الأبناء بوجود رادعٍ لهم، يجعلهم على حذرٍ من الوقوع في الخطأ، كما يجب على الأب الاقتراب أكثر من الأبناء، وتمضية الوقت الكافي معهم، وتعويدهم على أسلوب النقاش والحوار؛ ما يمنحهم الثقة بالنفس. وعليه أن يمنحهم الإحساس بوجود الصدر الحنون الذي يلجؤون إليه عندما يصعب عليهم حل مشاكلهم بأنفسهم. إن الأب الجيد هو الذي يهتم باحتياجات أطفاله النفسية والعاطفية ويبادر إلى تلبيتها، ومهما اختلفت الأساليب التي ينتهجها لدعم أطفاله عاطفياً، فمن المهم أن يتعامل مع ابنه بصدقٍ وتلقائيةٍ حتى يتفاعل معه بكل مشاعره وحواسه؛ فعلى الأب إذن أن يؤسس علاقةً مع ابنه قائمةً على التواصل المتبادل والاحترام، التالي عندما يأتي وقت تقديم النصائح الأبوية سيجد الأب كلامه مسموعاً. وعلى الأب أن يمارس دوره كقدوةٍ لابنه الصغير، فيكون من السهل على الطفل أن يقلد السلوك الجيد في حياته، بدلاً من تنفيذ نصائح وأوامر لسلوكيات لا يراها؛ فالأب في نظر أبنائه بطلٌ يقلدونه في كل شيء؛ في الحركة، في التصرف، في الأمانة، في التواضع، وفي كل السلوكيات، فالطفل يميل لاعتبار كل تصرفات أبيه مثاليةً، حتى دون أن يشعر الأب نفسه بذلك.
وعن أهمية القدوة وتأثيرها على الأبناء قال أحد السلف لمعلم أولاده: "لِيَكُنْ أولَّ إصلاحكَ لِبَنِيَّ إصلاحُك لنفسِك، فإن عيوبَهم معقودةٌ بعيبِك، فالحَسَنُ عندهم ما فَعلتَ، والقبيحُ ما تركتَ".

أحبتي .. يقول أحدهم: يظل الأب هو القدوة والنموذج الذي يُحتذى في البيت والحياة عموماً، لذا فإن له دوراً كبيراً في تنشئة وتوجيه الأبناء وإرشادهم، خاصةً في مراحل حياتهم الأولى. ويقول آخر: الواجب على من قصَّر في تربية أولاده التوبة من هذا الذنب، وتدارك ما يمكن تداركه من تربيتهم ونصحهم وتوجيههم قدر المستطاع، والدعاء لهم بظهر الغيب أن يصلحهم الله ويهديهم، كما أن عليه أن يصلح من نفسه ليكون قدوةً صالحةً يقتدي بها أبناؤه.
اللهم باعد بيننا وبين (غفلة الآباء)، وأعنا على حُسن تربية أبنائنا ليكونوا مسلمين صالحين، واهدنا اللهم لنصلح من أنفسنا لنكون قدوةً حسنةً لهم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2lHSFJO