الجمعة، 30 مارس 2018

الثبات الثبات يا عباد الله


الجمعة 30 مارس 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٨
(الثبات الثبات يا عباد الله)

لم يتمالك الكثير منا نفسه عندما علا صوت الإمام وهو يقرأ في صلاة الفجر الآية رقم 94 من سورة النحل: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، حين ظل الإمام يعيد ويكرر: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ وصوته قد أُجهش بالبكاء، إذ بكثيرٍ من المصلين خلفه يبكون أو يتباكون استشعاراً منهم لمعاني هذه الكلمات من الآية الكريمة.
انتهت الصلاة، وكعادتنا نُتبع صلاة الفجر بممشى علمٍ يدور حديثنا فيه عن الآيات الكريمة التي يكون الإمام قد قرأها. وقفنا كثيراً عند معنى التعبير القرآني أن تزل قدمٌ بعد أن كانت ثابتةً، يا له من معنىً؛ فيه وصفٌ للإنسان المسلم الصالح مستقيم الحال عندما يقع في شرٍ عظيمٍ ويسقط فيه؛ لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حالِ خيرٍ إلى حالِ شرٍ والعياذ بالله.

أحبتي في الله .. تقول العرب لكل مبتلىً بعد عافيةٍ أو ساقطٍ في ورطةٍ: زلت قدمه؛ كقول الشاعر:   
سيمنع منك السبق إن كنت سابقاً
وتُقتل إن زلت بك القدمان
ويقول العلماء في معنى هذه العبارة القرآنية: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ أي: تضلوا بعد أن كنتم على الهدى، وجاء التعبير عن هذا المعنى بهذه الصورة الحسية المعلومة للقاصي والداني، والعالم والجاهل؛ تعميقاً لقبح عاقبة الخداع بالعهود، حيث أن ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ﴾ تفيد صورة انزلاق القدم وسقوط صاحبها أرضاً، وهي صورةٌ مرئيةٌ محسوسةٌ، فكم رأينا ممن زلت أقدامهم فسقطوا أرضاً؟! كذلك هي صورةٌ واقعةٌ بنا نعرف طعم ألمها، فمن منا لم تنزلق قدمه في يومٍ من الأيام، ومن منا لم يذق ألم السقوط؟! ولأنها صورةٌ مُستحضَرةٌ في الذهن، ومستحضرةٌ في الشعور، فهي أدعى للتذكير والتحذير.

﴿بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ الزلل لا يكون إلا بعد الثبوت، فلماذا ذكر الثبوت؟ إن في ذكر الثبوت زيادةٌ في بيان قبح العاقبة، وبيانٌ للخسران الذي وقع لمن خدع في عهده، فإنه اختار الزلل على الثبات والأمان، وإشارةٌ إلى أن الوفاء بالعهود هو الثبات والحق.
﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾، كلمة ﴿تَذُوقُوا﴾ أي: تحسوا به إحساساً عظيماً، و﴿السُّوء﴾ هو ما يسوء الإنسان ويؤلمه وينغص عليه صفو حياته، والمقصود به في هذه الآية ما يصيب العاصي في الدنيا، وذلك بدلالة الآية ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ أي: في الدنيا ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: في الآخرة.

ولأن العبرة في آيات القرآن الكريم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإن هذه الآية الكريمة مثلٌ وعبرةٌ لنا للثبات إذا حاول الشيطان أن يغوينا ويضلنا بعد إذ هدانا الله.

ولنا في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ في ثباته على الدين وثباته على المبدأ؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم في مسيرة دعوته وجهاده مثالاً ونموذجاً في الثّبات، فحفلت سيرته الطّاهرة بكثيرٍ من المواقف والأحداث التي دلّت على ذلك؛ ومن ذلك:
حصار كفّار قريش لبني هاشم، فاجتمعت قريش وبنو كنانة على حرب المسلمين من خلال مقاطعة بني هاشم في شعاب مكّة اقتصاديّاً واجتماعيّاً، حيث منعت النّاس من أن يبتاعوا أو يشتروا منهم، كما منعتهم من الزّواج منهم أو الاختلاط بهم، واستمرت تلك المقاطعة ما يقارب ثلاث سنوات، لكنّها لم تُلن من عزيمة النّبي عليه الصّلاة والسّلام وثباته، حيث استمر بالدّعوة إلى دين الله تعالى، وتبليغ الرّسالة لقبائل العرب في مواسم الحجّ.
كذلك رفضه عليه الصّلاة والسّلام لكلّ الإغراءات التي عرضها الكفّار عليه؛ كأن يصبح ملكاً سيّداً عليهم، أو أن يجمعوا له الأموال حتّى يكون أغنى رجلٍ منهم، وغير ذلك من الإغراءات.
وثباته عليه الصلاة والسلام في غزوة حُنين، ففيها تعرّض المسلمون إلى محنةٍ شديدةٍ وبلاءٍ عظيمٍ حينما تكالبت عليهم جموع الكفّار، وفي تلك المعركة أبدى النّبي عليه الصّلاة والسّلام ثباتاً مشهوداً حينما وقف يدعو المسلمين الفارّين من أرض المعركة إليه، ثمّ رفع صوته يستنفر المسلمين للالتفاف حوله قائلاً: [أنَا النَبيُّ لا كَذِبَ، أنا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب]، وكأنه يقول لهم: (الثبات الثبات يا عباد الله)، فاجتمع حوله المسلمون من جديدٍ ليعودوا إلى المعركة، وتميل الكفّة لصالحهم فيتحقّق لهم النّصر من عند الله تعالى.
وأيضاً ثباته صلى الله عليه وسلم أمام ما كان يتعرّض له من المكر والأذى، فحاول الكفّار أكثر من مرّةٍ أن يقتلوه، ومن ذلك محاولة أبي جهل الآثمة التي ارتدّ بعدها خائباً على عقبيه مرتعداً.

ومن قصص الثبات التي كلما تذكرتها نزلت عبراتٌ ساخنةٌ من عيني؛ ثبات ماشطة ابنة فرعون:
عَنِ ‏‏ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏‏قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي ‏‏أُسْرِيَ ‏‏بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا ‏جِبْرِيلُ‏،‏ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ ‏‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ ‏‏وَأَوْلادِهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ ‏‏فِرْعَوْنَ ‏‏ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ ‏‏الْمِدْرَى {هي حديدةٌ يُسوَّى بها شعر الرَّأس} مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ ‏ ‏فِرْعَوْنَ:‏ ‏أَبِي؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ ‏‏بِذَلِكَ! قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانَةُ؛ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ؛ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ {بقرة من نحاس ربَّمَا كانت قِدراً كبيرةً واسعةً، فسماها بقرة، مأخوذاً من التَّبقُّر: التوسع، أو كان شيئاً يَسع بقَرةً تامَّةً بِتَوابِلِها فسمِّيت بذلك}، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ‏ ‏تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا ‏‏أُمَّهْ؛‏ ‏اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ]. ‏‏قَالَ ‏‏ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ‏"تَكَلَّمَ أَرْبَعَةُ صِغَارٍ: ‏‏عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ‏‏عَلَيْهِ السَّلام،‏ ‏وَصَاحِبُ ‏جُرَيْجٍ،‏ ‏وَشَاهِدُ ‏‏يُوسُفَ‏، ‏وَابْنُ ‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ".

وكذلك قصة أصحاب الأخدود وما فيها من شق المؤمن نصفين بالمنشار وهو ثابتٌ لا يتراجع عن دينه، وحرق المؤمنين أحياء في أخدودٍ أضرم الكفار فيه النار، وهم ثابتون على دينهم.
وثبات أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم خليل الرحمن أمام العديد من الابتلاءات حين أوقد قومه ناراً وألقوه فيها، وحينما ابتلاه الله سبحانه وتعالى برؤيا ذبحه لابنه إسماعيل.
وغير ذلك من مواقف الثبات على الحق لكل الأنبياء والرسل.

وللثبات على الحق عوامل كثيرةٌ من أهمها:
الدعاء؛ فإهمال الدعاء من أسباب الزيغ بعد الهدى، لأن الدعاء من عوامل الثبات على دين الله جل وعلا، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾. وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكْثِرُ من قول: [يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ]، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: [نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ].
ومن عوامل الثبات على دين الله قراءة القرآن العظيم؛ فالقرآن العظيم، من أعظم وسائل الثبات على دين الله، ولذا جعله الله سبحانه وتعالى مثبتاً لقلب النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نـزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا﴾ فقراءة القرآن بتأملٍ، وتدبرٍ، عاملٌ مهمٌ من عوامل الثبات على دين الله، وكلما ارتبط المؤمن بالقرآن، كان أكثر يقيناً وثباتاً.
ومن عوامل الثبات على دين الله أصدقاء الخير؛ لقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.
ومن عوامل الثبات على دين الله، البعد عن محقـرات الذنوب؛ فإن من أهم أسباب الضلالة بعد الهدى، الاستهانة بالذنوب والمعاصي فاستهانة كثيرٍ من الناس بمحقرات الذنوب وصغارها يضعف الإيمان في القلب شيئاً فشيئاً، لذا قال صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ]. وعَنْ السيدة عَائِشَة رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: [يَا عَائِشَة إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّه طَالِبًا].

أحبتي .. لولا ثبات الرسول عليه الصلاة والسلام وثبات أصحابه رضوان الله عليهم والتابعين ما وصلنا هذا الدين القيم كاملاً تاماً على الوجه الذي ارتضاه ربنا لنا؛ فعلى كلٍ منا أن يتأسى بهم ويسعى للثبات على دين الله؛ لأنه لا يأمن أحدٌ الفتنة خاصةً مع تتابع الفتن، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: [بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً. أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً. يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا].

اللهم اجعلنا من أهل الثبات، واجعل صيحتنا (الثبات الثبات يا عباد الله) تصل إلى كل مسلمٍ فتزيده ثباتاً إلى ثباتٍ خوفاً من زلل الأقدام، وقانا اللهم وإياكم أن تزل أقدامنا بعد ثبوتها. اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/ZL1mbY