الجمعة، 26 يوليو 2019

احفظ الله يحفظك


الجمعة 26 يوليو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٧
(احفظ الله يحفظك)

يَروي أحد كبار الأطباء السوريين قصةً وقعت له قبل حوالي نصف قرن فيقول: عندما كنتُ طالباً في كلية الطب في الجامعة، ركبتُ في سيارةٍ عموميةٍ لخمسة ركاب، صعدتُ إلى المقعد الأول وجلستُ، فجاء شخصٌ فتح الباب، لم يتكلم ولا كلمة، أمسكني من ثيابي وحملني وألقاني خارج السيارة وركب مكاني، معه صديقه، ولم يقل لي "انزل"، واللهِ لو قال لي "انزل" لما حزنت، لم يكلمني أبداً، كأنني ذبابة. كدتُ أموت من الألم النفسي، وأقسم بالله لو كان معي وقتها سلاحٌ لقتلته، احتقارٌ لا يُحتمل؛ طالب طبٍ جالسٌ في سيارةٍ يأتي إنسانٌ كالوحش يحمله من ثيابه ويركب مكانه ويقول للسائق "امشِ". مشى السائق، وأنا انتظرتُ ساعتين إلى أن جاءت سيارةٌ أخرى فركبت، وفي الطريق شاهدنا حادثاً مروعاً؛ نزلنا لنحاول إسعاف أو مساعدة الضحايا ففوجئنا بأنها السيارة التي أنزلوني منها، انقلبت والركاب الخمسة ماتوا جميعاً!
سبحان من يُخرج الحي من الميت ويُخرج الميت من الحي. خلال ثانيةٍ واحدةٍ انقلبت حياتي من بؤسٍ للمهانة التي تعرضتُ لها، إلى شكرٍ لله عزَّ وجلَّ لحفظه لي، وصدق رسولنا الكريم حين قال: (احفظ الله يحفظك).

أحبتي في الله .. إنه حفظُ الله الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباسٍ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، ...].
يقول أهل العلم أن [احْفَظْ] تعني: احفظ حدودَ الله وشريعتَه؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه. و[احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ] في دينك وأهلك ومالك ونفسك؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين بإحسانه، ولأنَّ الإنسان كلما اهتدى زاده الله سبحانه وتعالى هدىً؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾. وعُلِمَ من هذا أن من لم يحفظ الله، فإنَّه لا يستحق أن يحفظه الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي هذا ترغيبٌ على حِفظ حدود الله.

وإنَّ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: [احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ] دليلاً على إثبات معية الله لعبده؛ فمن حَفظ حدود الله وجد الله معه في كل أحواله، حيثما توجه يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون﴾.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [احْفَظْ اللَّهَ] أمرٌ بحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه؛ وحِفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده بعدم التعدي أو التجاوز، فمَن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه الكريم؛ قال تعالى: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾.
وقد جاءت النصوص بحفظ أمورٍ مهمةٍ والاعتناء بها أولها: الصلاة؛ قال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. ثم الطهارة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ]. والأَيْمَان "بمعنى الحلف"؛ قال تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم﴾. والرأس والبطن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [... الاِسْتِحْيَاء مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ ...]. وكذلك حِفظ اللسان والفرج؛ أمر الله عزَّ وجلَّ بحفظ الفروج فقال: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [من حفِظ ما بين لَحْيَيْه ورِجلَيْه دخل الجنَّةَ].
أما قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: [يَحْفَظْكَ] فيعني أن مَن حَفظ حدود الله وراعى حدوده حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ قال تعالى: ﴿وَأَوفوا بِعَهدي أوفِ بِعَهدِكُم﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك).
وحِفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
الأول: حِفظه في مصالح دنياه كحفظه في بدنِه وولدِه وأهلِه ومالِه؛ قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾، هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه. ومَن حَفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في كبره وضعفه، ومتعه بسمعه وبصره وقوته وعقله؛ ها هو أبو الطيب الطبري أحد علماء الإسلام بلغ من العمر سبعين سنةً وبينما هو على سفينةٍ وصلت إلى الشاطئ لكن اليابسة بعيدةٌ تحتاج إلى قفز ٍوقوةٍ فما استطاع الشباب أن يقفزوا، فإذا بهذا العالم الجليل يُشمر عن ساقيه ويقفز إلى اليابسة؛ فاستغرب الشباب وقالوا: "ما هذه القوة يا شيخ؟"، قال: "هذه جوارح حفظناها وقت الصغر فحفظها الله لنا وقت الكبر؛ ﴿فَاللَّهُ خَيرٌ حافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ﴾".
ومِن حِفظ الله للعبد حِفظ ذريته بعد موته بصلاحه؛ قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ فقد حُفظ الغلامان بصلاح أبيهما، وعكس هذا من ضيع الله ضيعه الله حتى يدخل عليه الضرر من حيث كان يرجو النفع؛ قال بعض السلف: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خادمي ودابتي".
الثاني: حِفظ الله للعبد في دينه وإيمانه؛ فيحفظه في حياته من الشبهات، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان؛ ففي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إنْ أَمسَكْتَ نفْسي فاغفِرْ لها، وإنْ أَرسلَتْها فاحفَظْها بما تَحْفَظُ به عِبادَكَ الصَّالحينَ].
كما لم يَكن رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يدعُ هؤلاءِ الكلماتِ حينَ يمسي وحينَ يصبحُ: [اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرةِ، اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ في ديني ودنيايَ وأَهلي ومالي، اللَّهمَّ استُر عوراتي وآمِن روعاتي، اللَّهمَّ احفَظني من بينِ يديَّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومِن فوقي، وأعوذُ بعظمتِك أن أُغتالَ مِن تحتي].

وعن حفظ الله قال الشاعر:
ونركبُ الجوَّ في أمنٍ وفي دَعةٍ
فما سَقطنا لأنَّ الحافظَ اللهُ
وقال آخر:
وإذا العنايةُ لاحظتكَ عُيونُها
نَمْ فالمخاوفُ كُلهُنَّ أمانُ

أحبتي .. فلنحفظ الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلاة والوضوء، والوفاء بما نحلف عليه، وحفظ الرأس والبطن، واللسان والفرج، والامتثال لجميع أوامر الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، واجتناب ما نُهينا عنه، وعدم التعدي على حدود الله. إنه شرطٌ وجواب شرطٍ: (احفظ الله يحفظك) فلنحفظ الله دائماً، ولنحفظه خاصةً وقت الرخاء حتى يستجيب لدعائنا وقت الشدة والكرب؛ قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ].
اللهم اجعلنا من المحافظين عليك، المقيمين شرعك، المجتنبين نواهيك، الملتزمين حدودك، واحفظنا اللهم بحفظك، واكلأنا بعنايتك، وادفع عنا كل شرٍ، وابعد كل همٍ، وفَرِّج كل كربٍ، وأصلح لنا أحوالنا كلها بعزتك وقدرتك يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2ypExIF