الجمعة، 5 أغسطس 2022

الندم المتأخر

 

خاطرة الجمعة /355


الجمعة 5 أغسطس 2022م

(الندم المتأخر)

 

بازدراءٍ لمقطعٍ لداعيةٍ يذكر الموت ويُذكِّر به، كتب في صفحته على فيس بوك: "صديقي الشيخ: لا تُحدثني عن الموت بل حدثني عن الحياة، وكيف نعيش اليوم، أما الموت فموعده غداً؛ ولن نؤجل عمل اليوم إلى الغد. عِش حياتك وانسَ يا عم!". ثم أصابته نشوة النصر عندما رأى سيل علامات الاستحسان "اللايكات" وكثرة إعادة النشر! ويله؛ لقد نسي أنه كما أن هناك حسناتٍ جاريةً لا تتوقف ولا تنقطع، فإنه وبالمقابل توجد سيئاتٌ جاريةٌ؛ فحصاد الغد هو نتاج عمل اليوم!

خرج الشاب ليُمارس رياضته المحبوبة؛ الركض، وهو يضع بإذنيه السماعات يستمع إلى أغنية "الدُنيا حُلوة". شعر فجأةً كما لو أن شخصاً يدفعه من الخلف. لم يملك الوقت لينظر من الذي دفعه، ولا ليعرف ما الخطب!! أُغلقت عيناه على مشهد الرصيف الذي كان يركض عليه، ثم فُتحت على مشهد أطباء فوق رأسه يصرخون بكلماتٍ غير واضحةٍ لكنها مُعبرةٌ!! مُعبرةٌ عن هلعٍ ومُحاولاتٍ يائسةٍ لإنقاذ مريضٍ ما!

"لحظة، يبدو أني أنا المريض المعني! أنا على السرير نائمٌ ولا أستطيع الكلام، أتنفس بصعوبةٍ، ماذا حدث؟! من الذي دفعني وأنا أركض على الرصيف؟ آخر صوتٍ سمعته كان صوت سيارةٍ تُحاول الوقوف خلفي، يبدو أنها هي التي دفعتني، صدمتني وأوصلتني إلى المُستشفى. تنفسي يزداد صعوبةً! وهذا الطبيب العجوز لماذا يتحرك ببطءٍ؟ ماله يضرب كفيه ببعضهما يائساً من حالي؟! ويلكم، لماذا بدأتم بمُغادرة الغرفة؟! يا الله، إنها إذاً ساعة الحقيقة تقترب، لن أُكابر: أنا أموت! بهذه البساطة؟! أنا الشاب الرياضي! خاتم الخطوبة مازال في إصبعي! سامحيني يا أُمي، لن أستطيع استرضاءك بعد مُشكلة الأمس. كم ضيعتُ من صلواتٍ؟ ليتني حفظتُ آياتٍ من كتاب الله. كم سخرتُ من ناصحين، كم مجدتُ فاسدين ومُفسدين واتخذتُ منهم قدوةً لي؟! كان في جيبي عدة دنانير، ليتني كنتُ قد تصدقتُ بها. أرجوكِ يا خواطر الخير الضائع ارحلي عن عقلي المُودِّع! ألمُ الحادث أخف من ألمِ (الندم المُتأخر)! ويا صفحة الفيس اللعينة، كم وضعتُ عليكِ من صورٍ ومقاطع سيئةٍ! والمنشور الأخير.. نعم آخر منشورٍ امسحوه. لماذا لا يسمعني أحد؟! طلبي الأخير أن يُمسح؛ لا تنقصني سيئاتٌ جاريةٌ! يا جماعة.. يا جما.. يا ج.. يا..".

مات الشاب ولم يُكمل كلامه، وكان آخر ما سمعه: "من السُنة إغماض عين الميت" تلك كانت وصية الطبيب العجوز لآخر المُمرضين في الغرفة!

ومازال آخر منشورٍ للشاب المتوفى بصفحته على فيس بوك في مكانه، لم يمسحه أحد، وما يزال البعض يضع عليه علامة الاستحسان "لايك" والبعض يُعيد تعميمه ونشره، وما تزال -وستظل- تُكتب على صاحبه سيئاتٌ جاريةٌ حتى بعد موته! فهل من مُتعظ؟

 

أحبتي في الله.. إن قصة هذا الشاب هي قصة (الندم المتأخر)؛ ندمٌ بعد فوات الأوان.

أما هذا الشاب فقصته تختلف، لقد مرَّ بخبرةٍ مُماثلةٍ لكنه نجا منها برحمة الله، كتب ناصحاً غيره يقول:

تدارك نفسك طالما في الأمر مهلةٌ وقبل فوات الأوان، اعمل عملاً يُنجيك من النار ما دام في الوقت مُتسعٌ وفي العمر بقية. إن الموت حقيقةٌ قاسيةٌ رهيبةٌ تواجه كل حيٍ؛ فلا يملك لها رداً، يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ إنها نهاية الحياة؛ الجميع سيموت، لكن المصير بعد ذلك يختلف، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. وفي الموت تنبيهٌ وتذكيرٌ ونذيرٌ وتحذيرٌ، وكفى بالموت واعظاً، لكننا مع الأسف الشديد نسيناه أو تناسيناه، وكرهنا ذِكره، وإن تعجب فالعجب من عاقلٍ يرى الموت يخطف أقرانه وجيرانه ولا يستعد له. إن المُنهمك في الدُنيا، المُنكب على لذاتها، المفتون بزخارفها، المُحب لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذِكر الموت، ومن لم يتذكر الموت اليوم ويستعد له فاجأه في غده وهو في غفلةٍ من أمره وفي شُغلٍ عنه. كثيرٌ من الناس، يُضيِّع عُمره في غير ما خُلق له، ثم إذا فاجأه الموت صرخ ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ ولماذا ترجع؟ ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، وأين كنتَ عن هذا اليوم أيها الغافل؟ لماذا لم تعمل وأنت في سعةٍ من أمرك، وصحةٍ في بدنك، ولم يدنُ منك ملك الموت بعد؟ ألم تتعظ من موت غيرك؟ ألا تعلم أن حامل الجنازة اليوم محمولٌ غداً إلى قبره، حيث يُترك فيه وحيداً، مُرتهناً بعمله، إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشر. لكن ما أقل من اتعظ فاجتهد واستفاد من كل لحظةٍ من لحظات عُمره في طاعة ربه، قبل أن يندم (الندم المتأخر) ويتحسّر على كل وقتٍ أضاعه بدون عملٍ صالحٍ يُقربه إلى الله. انظر إلى حال الموتى، وتأمل مآلهم، وتأكد أنه سيأتيك يومٌ مثل يومهم، وسيمر عليك ما مرّ بهم، فتخيل نفسك وأنت محمولٌ على الأعناق. إن طاعة الله وأنتَ ما زلتَ على قيد الحياة أهون عليكَ بكثيرٍ مما ينتظرك من حسابٍ إن أنت قصّرتَ وتقاعستَ؛ فاعمل من الآن من الأعمال ما يُنجيك بإذن الله ما دام في الوقت مُتسعٌ وما زال في عُمرك بقيةٌ، وما دامت لديك استطاعة العمل؛ لتخرج من هذه الدنيا مُرتاحاً وفرحاً مسروراً بلقاء ربك، وبما أعده لك من النعيم المُقيم.

 

وواصفاً لحظة الندم الكُبرى التي لا تُعادلها لحظة، وتعقبها الحسرة والخسران المبين يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

 

يقول أهل العلم إنّ الخلائق جميعاً سيجمعهم الله تعالى يوم القيامة، وهو يومٌ تشيب له الولدان، وتتصدع فيه القلوب، وتقشعر منه الأبدان، في مشهدٍ مهولٍ، وأحوالٍ فظيعةٍ، وأوقاتٍ عصيبةٍ، ومواقف عظيمةٍ؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.

والناس يوم القيامة صنفان:

إما آمنون كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يُشركوا به شيئاً، هم الآمنون يوم القيامة، المُهتدون في الدُنيا والآخرة ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾.

وإما خائفون نادمون مُتحسرون، يحزنهم الفزع الأكبر، يتأسفون على ما فات ومضى، وهم غافلون؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وأي حسرةٍ أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق سخطه والنار، وهُم لا يتمكنون من الرجوع والعود إلى الدُنيا لاستئناف العمل، وتغيير حالهم؟! يُعانون من الحسرة ويندمون (الندم المتأخر) الندم الذي يأتي بعد فوات الأوان. إنها الحسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله، عندما ينقضي العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراء الدنيا، والاغترارِ بزيفِها مع نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾، ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. وهي الحسرة على مجالسة أصدقاء السوء الذين يسحبونهم بعيداً عن الصراط المستقيم يومها ﴿يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ وتراه يقول: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ لماذا؟ ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾. أما منتهى الحسرة فيكون حين ينادون ربَهم عزَّ وجلَّ: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ فيُجيبهم سُبحانه: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾.

 

وليس المُسيء فقط هو الذي يتحسر يوم القيامة، بل إنّ المؤمن والمُحسن يتحسر هو الآخر، ولكن لسببٍ مُختلف؛ فهو حين يرى نعيم الجنة يتمنى أن يرجع للدُنيا مرةً أخرى ليزيد من الطاعات والإحسان والعمل الصالح.

 

أحبتي.. طالت أعمارنا أو قصُرت، فإننا كُلنا لا شك راجعون إلى الله سبحانه وتعالى، الملك الحق، واقفون بين يديه، مُحاسبون على نوايانا وأفعالنا وأقوالنا، وكل من أضاع وقته في الدنيا بالمُلهيات، والخطايا والمُنكرات، ولم يستجب لأوامر الله وترك العبادات، سيتحسر يوم القيامة ويقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، ويندم حينها (الندم المتأخر). فلينظر كلٌ منا إلى نفسه؛ إن كان مُحسناً فليُكثر من إحسانه، وإن كان مُقّصراً فليبتعد عن المعاصي، ويتوب عن الخطايا، ويزيد من حسناته، موقناً بوعد الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِۚ﴾ فإن الأعمال الصالحات تمحو صغائر الذنوب.

نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، الذين ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وأن لا يجعلنا من الغافلين المُتحسرين يوم القيامة؛ الذين قال فيهم المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

 

https://bit.ly/3d97hN3