الجمعة، 29 يوليو 2016

حسن الظن بالله

الجمعة 29 يوليو 2016م
خاطرة الجمعة /٤٢

(حسن الظن بالله)

حدث هذا الموقف قبل سنوات عندما كانت شركات توظيف الأموال منتشرة في مصر .. هو صديق لنا .. أكبر منا في السن .. كنا نرجع له في معظم شئوننا نستشيره ونأخذ بما ينصحنا به في معظم الأحوال. أخبرنا ذات يوم عن وجود شركة تعطي أرباحاً عالية؛ يصل العائد منها إلى ٢٢٪‏، وقال إنه قرر أن يسحب جميع مدخراته من البنوك ويُسَيِّل شهادات استثمار ويبيع ذهب زوجته ليساهم في هذه الشركة. فاجأنا جميعاً بأنه اتخذ قراره ونفذه بالفعل .. وضع كل ما يملك هو وزوجته في هذا المشروع .. وكنا، نحن أصدقاؤه، ما بين مندهش ومذهول وغير مصدق .. لكن كما يقال "سبق السيف العذل".
مرت شهور .. وإذا بموضوع شركات توظيف الأموال يحتل العناوين الأولى في جميع وسائل الإعلام: المكتوبة والمسموعة والمرئية، كانت هذه الشركات قد أفلست وانهارت بعد أن ذهب ضحايا لها مئات الآلاف من المواطنين، وكان صديقنا للأسف واحداً منهم.
اتصل بي وقتها ورتبنا للقاء .. لم يكن هو صديقنا الكبير الخبير الذي نرجع له ليحل لنا مشاكلنا، بل على العكس؛ رأيت أمامي رجلاً منهاراً، دموعه تسابق كلماته، أسمع ما يقول بصعوبة وأحاول أن أتبين كلماته التي تبدو خافتة وسط بحر الدموع الذي ينهمر من عينيه ليغطي خدوده .. استطعت بالكاد أن أفهم كلمات مثل : "هل هذا معقول؟"، "لا يمكن"، "لا أصدق ما حدث"، "هذا لا يرضي الله سبحانه وتعالى" .. وكلمات أخرى مشابهة .. حاولت أن أهدئ من روعه، دون جدوى؛ لم يكن يسمعني، كان كأنه يعيش مع نفسه فقط ويتحاور معها، حتى أنه كان يسأل السؤال ويرد على نفسه.
بدأ بالتدريج الخروج من حالة الذهول التي كانت تتملكه، نظر إلي، وربما أحس بالخجل من أن أراه على الحال التي كان عليها. محاولاً التخفيف عنه قلت: "ليست نهاية الكون"، رد وهو يحاول أن يمسح بقايا الدموع من على وجهه: "في لحظة، ضاع حلم حياتي، راحت تحويشة العمر، لقد انتهيت"، قلت مشجعاً: "ليس هذا أول موقف صعب يمر عليك في حياتك، تماسك، واترك للزمن فرصة إخراجك مما أن أنت فيه"، لم يعجبه ما أقول فرد بجملة تقريرية قاطعة: "أنت لا تحس بما أعانيه".
امتدت جلستنا إلى قرب الفجر، هو يتحدث عن مشكلته وآثارها على نفسيته وعلى علاقاته الاجتماعية خاصة علاقته بزوجته، وكيف أن آماله كلها قد تبخرت في لحظات، ورأى حلم الغنى والثراء يتهاوى أمام عينيه، وأنه لا يتحمل أبداً ذلك، ولا يعرف كيف ستكون حياته بعد كل ما حدث. وأنا من ناحيتي أحاول أن أخفف عنه وأواسيه وأبين له تفهمي لمشاعره وإحساسي بما هو عليه في هذه اللحظات الصعبة.
لاحظت أن لا شئ مما أقول قد أثر فيه قدر تأثره بقولي له "أحسِن الظن بالله"، حيث رد علي بالقول: "يعلم الله أني قد أحسنت الظن به قبل أن أودع أموالي كلها في تلك الشركة"، قلت له: "إحسان الظن يستلزم إحسان العمل، وهذا يتطلب التفكير السليم والتخطيط الجيد ودراسة الأمر من جميع جوانبه قبل اتخاذ القرار، كل ذلك من إحسان العمل. لأوضح الأمر لك أكثر؛ دعني أسألك سؤالاً، أرجو أن يتسع صدرك له ولا تغضب مني"، قال بكلمات لا تخلو من السخرية: "لم تعد لدي أية طاقة لغضب جديد! لقد استنفدت رصيدي من الغضب! إسأل ما شئت ولن أغضب"، سألته: "إذا وقفت أمام قطار منطلق بسرعة، هل تتوقع ألا يدهسك القطار، ثم تقول إن كنت ما زلت حياً، كنت أحسن الظن بالله؟!"، واستطردت: "هذا يا عزيزي ما فعلته أنت بالضبط مع تلك الشركة، أعماك حلم الثراء السريع عن التفكير الصحيح والنظر في العواقب، لقد حثنا ديننا الحنيف على ألا نكتفي بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وإحسان الظن به وإنما يجب علينا أن نُتبع ذلك بالأخذ بالأسباب". وأردفت قائلاً: "على كل حال، عليك أن تعلم أن في بعض المنع نعمة وفي بعض العطاء نقمة؛ قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، كما أن عليك أن تعلم أن من (حسن الظن بالله) أن المؤمن إذا أصابه ما يكره أحسن الظن بربه وعلم أنه لم يكتب له إلا الخير حتى لو لم تظهر حكمته أو تستبين؛ يكفي المؤمن أن يثق في أن الذي ابتلاه هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين". قال مُعقباً: "ونعم بالله"، ختمت حديثي معه بالقول: "احمد الله أنك ما زلت بصحتك، غيرك قلبه لم يتحمل الصدمة فتُوفي، وآخرون ما بين مصاب بجلطة أو شلل؛ فاحمد الله حمداً كثيراً. واللهِ لو خيرت بين مالك كله وصحتك لاخترت صحتك"، قال: "صدقت"، قلت: "هذا من فضل الله عليك، وهذا هو رأس مالك حافظ عليه، وبالعمل الجاد و(حسن الظن بالله) والأخذ بالأسباب يفتح الله عليك ويرزقك من حيث لا تحتسب".

أحبتي في الله .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له].
وقال أحد العارفين: "إنه سبحانه لم يرسل إلى المؤمن البلاء إلا ليمتحن إيمانه وصبره ورضاه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه واقفاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعاً الشكوى إليه".
إن معنى (حسن الظن بالله) توقُّع الجميل منه سبحانه، وتوقع الخير في السراء والضراء، والإيمان بأن الله يريد بنا الخير في الحالين. (حسن الظن بالله) هو من العبادات القلبية التي يغفل عنها كثير منا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ﴾، ويقول في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء}، ويقول: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني}. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حُسن الظن من حسن العبادة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ].
لذلك أحبتي علينا أن نستشعر أن الله تعالى هو فارج الهم وكاشف الغم، وأننا متى أحسنا الظن بالله، فتح علينا من بركاته من حيث لا نحتسب.

أحبتي .. إياكم وسوء الظن بالله، فإنه من المهلكات؛ قال تعالى: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، وقال  عن سوء ظن قوم من الكفار: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ﴾، ويقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله}.
قبل أن أختم، أطمئنكم، عاد صاحبنا إلى سابق عهده، مليئاً بالحيوية والنشاط، وكان مرجع ذلك (حسن الظن بالله) الذي جعله راضياً بقضاء الله وقدره، سعيداً بما هو عليه، وهو الآن والحمد لله يعيش مع أسرته حياة مستقرة هادئة، بعيداً عن أحلام الثراء الفاحش والسريع.
جعلنا الله من الفائزين برضاه سبحانه وتعالى، الظانين به الظن الحسن، ظن الخير.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

ليست هناك تعليقات: