الجمعة، 2 يونيو 2023

ثمرة الورع

 خاطرة الجمعة /398

الجمعة 2 يونيو 2023م

(ثمرة الورع)

 

في «دمشق» مسجدٌ كبيرٌ اسمه «جامع التوبة»، وهو جامعٌ مُباركٌ، فيه أُنْسٌ وجمال، سُمّي بجامع التوبة؛ لأنه كان خاناً تُرتَكَب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري وهدمه وبناه مسجداً. وكان فيه، من نحو سبعين سنة، شيخٌ مُرَبٍّ عالمٌ عاملٌ، وكان أهل الحي يَثِقون به ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دُنياهم، وكان عند هذا الشيخ تلميذٌ صالحٌ، يسكن في غُرفةٍ في المسجد، وكان مَضْرِب المثل في فقره وفي إِبَائِه وعِزَّة نفسه، مرّ عليه يومان لم يأكل فيهما شيئاً، وليس عنده ما يَطعَمه ولا ما يشتري به طعاماً؛ فلما جاء اليوم الثالث أَحَسَّ كأنه مُشْرِفٌ على الموت،

وفكَّر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطّرار الذي يُجيز له أكْل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، فآثر أن يسرق ما يُقِيمُ صُلْبَه.

وكان المسجد في حيٍ من الأحياء القديمة، والبيوت فيها مُتلاصقةٌ، والأسطح مُتَّصِلةٌ، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مَشْياً على أسطح البيوت؛ فصعد إلى سطح المسجد وانتقل منه إلى الدار التي تليه، فلمَح فيها نساءً فغَضّ من بصره وابتعد، ونظر فرأى بجانبها داراً خاليةً، وشمَّ رائحة الطبخ تصعد منها، فأحس من جوعه لمّا شمّها كأنها مغناطيسٌ يجذبه إليها، وكانت الدور من طابقٍ واحدٍ، فقفز قفزتين من السطح إلى الشُّرفة فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القِدر، فرأى فيها باذنجاناً مَحشُوّاً، فأخذ واحدةً ولم يُبالِ من شدة جوعه بسخونتها، وعضّ منها عضةً، فما كاد يبتلعها حتى ارتدّ إليه عقله ودينه، وقال لنفسه: "أعوذ بالله، أنا طالب علمٍ مُقيمٌ في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟". وكَبُر عليه ما فعل، فندم واستغفر ورَدّ الباذنجانة، وعاد من حيث جاء. فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد -من شدة الجوع- يفهم ما يسمع، فلما انقضى الدرس وانصرف الناس جاءت امرأةٌ مُسْتَتِرة فكلَّمَت الشيخ بكلامٍ لم يسمعه تلميذه، فتلفّت الشيخ حوله فلم يَرَ غيرَه، فدعاه، وسأله: "هل أنت مُتزوج؟"، قال: "لا"، سأله: "هل تُريد الزواج؟"، فسكت؛ فقال له الشيخ: "قُل، هل تُريد الزواج؟"، قال: "يا سيدي، ما عندي ثمن رغيفٍ آكله فبماذا أتزوج؟!"، قال الشيخ: "إنّ هذه المرأة أخبّرتني أن زوجها تُوفي، وأنها غريبةٌ عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدُنيا إلا عمٌّ شيخٌ فقير، وقد جاءت به معها -وأشار إليه قاعداً في ركن الحلقة- وقد ورِثَت دار زوجها ومعاشَه، وهي تُحِبُّ أن تجد رجلاً يتزوجها على سُنة الله ورسوله، لئلا تبقى مُنفردةً فيطمع فيها الأشرار وأولاد الحرام، فهل تُريد أن تتزوج بها؟"، قال: "نعم"، وسألها الشيخ: "هل تقبلين به زوجاً؟"، قالت: "نعم"، فدعا بعَمِّها ودعا بشاهدين وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: "خُذ بيد زوجتك"، فأخذ بيدها، أو أخذت هي بيده فقادته إلى بيتها، فلما دخلته كشفت عن وجهها فرأى شباباً وجمالاً، ورأى البيت هو البيت الذي نزله! وسألته: "هل تأكل؟ "، قال: "نعم"؛ فكشفت غطاء القِدْر فرأت الباذنجانة

فقالت: "عجباً! مَن دخل الدار فعضّها؟!"، فبكى الرجل وقصّ عليها الخبر، فقالت له: "هذه (ثمرة الورع)، عفَفْتَ عن الباذنجانة الحرام؛ فأعطاك الله الدار كُلَّها وصاحبتَها بالحلال".

 

روى هذه القصة الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، في كتابه: «فصولٌ في الثقافة والأدب»، وقال عنها: "إنها قصةٌ واقعيةٌ أعرِف أشخاصها وأعرف تفاصيلها وأروي ما فعل الرجل، لا أحكم على فعله بأنه خيرٌ أو شر، أو أنه جائزٌ أو ممنوع ".

 

أحبتي في الله.. الورع: هو اجتناب الشُبهات خوفاً من الوقوع في المُحرمات.

وعن الورع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُنْ وَرِعًا تَكُنْ من أَعْبَدِ الناسِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ]، وفي روايةٍ: [فَضْلُ العِلْمِ أفْضَلُ مِنَ العِبادَةِ، ومِلاكُ الدِّينِ الوَرَعُ]. وعبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن الورع كله في عبارةٍ واحدةٍ فقال: [مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ]، فهذا -كما يقول الفقهاء- يعم الترك لما لا يعني الإنسان المُسلم من الكلام والنظر والاستماع والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة. والورع البُعد عن الحرام واجتنابه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس؛ فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ مَلكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى اللهِ محارمُه]. والمعنى: أن على المرء ألا يدخل في المُتشابهات التي قد تورده المُحرمات، بل عليه أن يقف عند الحلال البيِّن، ففيه كفايةٌ للمرء عن الدخول في المُتشابهات. وقال صلى الله عليه وسلم: [دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ]، أي: دع الشيء الذي تشكّ فيه إلى الشيء الذي لا شكَّ فيه. ومن الورع البر وحُسن الخُلُق؛ قال عليه الصلاة والسلام: [البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإِثْمُ ما حاكَ في صدْرِكَ، وكرِهْتَ أنْ يَطلِعَ عليه الناسُ]. وحين جاء صحابيٌ إلى النبي فقال له صلى الله عليه وسلم: [جئتَ تسألُ عن البرِّ والإثمِ]، فقال: نعم، قال له عليه الصلاة والسلام: [استَفْتِ قلبَك: البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاك في النَّفسِ وتردَّدَ في الصَّدرِ، وإن أفتاك الناسُ وأَفْتَوْك].

 

فالورع -كما يرى أهل العِلم- هو في الأصل: الكفّ عن المحارم، والبُعد عن الشُبهات، وهو عامٌ في كل قولٍ وفعلٍ وعِلمٍ وعملٍ وعبادةٍ ومُعاملةٍ وعلاقة. وعلى المؤمن أن يتحرَّى الخير والمُباح والطيب في قوله وعمله وسيرته، ويتباعد عن المُشتبهات، أو محلّ الريب، يرجو ثواب الله وفضله وإحسانه وهذه هي (ثمرة الورع).

والورع قسمان: ورعٌ واجبٌ: وهو ترك المُحرمات وفعل الواجبات، وورعٌ مُستحبٌ: وهو ترك ما يُشتبه في تحريمه، وفعل ما يُشتبه في وجوبه.

وينشأ خُلُق الورع من الخوف والخشية من الله، وكلما زاد الخوف في قلب المؤمن كلما زاد ورعه وتوقيه مما يضره في الآخرة، وكلما نقص الخوف في قلب المؤمن نقص ورعه وخاض في المُحرمات وتساهل في أسبابها.

يقول العلماء إن الورع يحجز عن محارم الله تعالى، وعن انتهاك حدوده أو تضييع فرائضه، ويحمل النفس على الطاعات وعلى المُراقبة للمولى سُبحانه، وإذا كان المرء كذلك فقد سلم له دينُه، وهذا ما كان عليه سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- فعمّروا دِينهم ودُنياهم، وانقلبوا إلى ربهم سالمين من الأوزار، فأثابهم الله (ثمرة الورع) صلاحاً في دُنياهم، وحُسن مآبٍ في أُخراهم.

 

وقيل عن الورع: "كل ما شككتَ فيه فالورع اجتنابه"، "من خاف صبر، ومن صبر ورع، ومن ورع أمسك عن الشُبهات"، "ما رأيتُ أسهل من الورع؛ ما حاك في نفسك فاتركه"، "ما لاريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في حُرمته فليس فعله من الورع"، "أفضل العبادة التفكر والورع"، "إن الدين مع الورع هو الخير كله"، و"الورع أول الزُهد، كما أنَّ القناعة أول الرضا".

وقال الشاعر:

جليلُ العطايا في دقيقِ التورُّعِ

فدقِّقْ تنلْ عالي المقام المُرّفعِ

وتسلمْ من المحظورِ في كلِّ حالةٍ

وتغنمْ مِن الخيراتِ في كُلِّ موضعِ

وقال آخر:

تورَّع ودعْ ما قد يُريبك كلَّه

جميعاً إلى ما لا يُريبك تسلمِ

وحافظْ على أعضائِك السبعِ جُملةً

وراعِ حقوقَ الله في كُلِّ مُسلمِ

وكُنْ راضياً بالله ربّاً وحاكماً

وفوِّض إليه في الأمورِ وسَلِّمِ

 

أحبتي.. أختم بقولٍ أعجبني لأحد السادة العُلماء؛ قال: تورّعْ عن الوقوع في الشُبهات، وتورع عن تعاطي المُنكرات، واعلم أن مَن دقّ في الدنيا ورعُه، جلّ في القيامة خطرُه. عليك بالورع؛ ففي الورع سلامةٌ للمرء في دُنياه وفي أُخراه. عليك بالورع، ليخفّف الله حسابك، وادفع الشّك باليقين يسلمْ لك دِينك.

 عليكم بالورع؛ الْزَمُوه، وتعلموه، وعلموه أبناءكم، واجعلوه خُلُقاً شائعاً في أُسَرِكُم، ومُجتمعاتكم، حتى نجني (ثمرة الورع) مُجتمعاً صالحاً نظيفاً، لا يتطلع فيه أحدٌ إلى ما ليس له.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الورع، وأن يُعيننا على ترك الشُبهات، والبُعد عن المُحرمات. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، يا رب العالمين.

https://bit.ly/45Gn8d0