الجمعة، 22 أبريل 2022

المتعففون

 

خاطرة الجمعة /340


الجمعة 22 إبريل 2022م

(المتعففون)

 

تروي إحدى الأخوات قصةً من الواقع فتقول: كنا في المرحلة الثانوية، نجتمع في أوقات الاستراحة مع بعض الصديقات، ونضع فطورنا مع بعض دون أن تعرف إحدانا ماذا جلبت الأخرى! وكانت هناك طالبةٌ مسكينةٌ لم تكن تجلب معها شيئاً، فأقنعتها بالجلوس معنا، لأنه لا يدري أحدٌ من جلب الطعام. واستمر الحال هكذا لفترةٍ طويلةٍ إلى أن اقترب وقت تخرجنا من المدرسة الثانوية، وقتها تُوفي والد هذه الطالبة المسكينة وتغير حالها؛ فأصبحتْ في وضعٍ أفضلٍ من ذي قبل، تعتني بملابسها، وتأتي بالطعام، أي أنها صارت بوضعٍ جيدٍ، فتوقعتُ أنها ورثت شيئاً من أبيها، فجلستُ معها وسألتها: "ماذا جرى معك؟ ما سر هذا التغيير؟". فأمسكتْ بيدي وبكت وقالت: "والله، كنا ننام بلا عشاءٍ، وأنتظر ذهابي للمدرسة صباحاً لكي أتناول الطعام معكم من شدة جوعي، وكانت أمي تُخبئ كسرات خبزٍ من العشاء لفطور الصباح لإخواني، فأخرج باكراً من البيت متعمدةً لكي أوفر لهم زيادةً من الطعام، والآن بعد وفاة أبي، أصبح كل من حولنا من أقارب ومعارف وأصدقاء يُعطوننا ويعتنون بنا، كوننا أصبحنا أيتاماً!"، سكتتْ لحظةً ثم قالت لي وفي حلقها غُصةٌ: "تمنيتُ لو أن أبي شبع ولو مرةً قبل أن يموت"، قالتها والدموع ممزوجةٌ بأحرف كلماتها، قالت لي: "كأنهم لم يعرفوا أننا محتاجين إلا عندما مات أبي!"، بكت بحرقةٍ وهي تقول تلك الكلمات، ومازلتُ أحس بحرارة دموعها وحرقتها إلى الآن.

 

وتساءلت راوية القصة: هل يجب أن يموت الإنسان الفقير حتى يشعر الأغنياء بأولاده الأيتام؟! ما بال الناس اليوم؟ أين الإنفاق؟ أين الزكاة؟ أين صلة الرحم؟ أين إغاثة الملهوف؟ أين الرحمة؟

أيها الأخوة والأخوات: تفقدوا الأسر العفيفة، تفقدوا الأقرباء والجيران والأصدقاء لعل فيهم مَن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، والله إن في دهاليز حياة بعضهم آلاماً لا يسمع أنينها إلا الله تعالى. أنفِقوا يُنفق الله عليكم، تصدقوا وادفعوا زكاة أموالكم ولا تخشوا الفقر أبداً، واعلموا أن حاجتكم إلى الصدقة أشد من حاجة مَن تتصدقون عليه.

 

أحبتي في الله.. المتعفف كصفةٍ لفردٍ أو أسرةٍ أصلها من التعفف، وهو من العفة، وهي الترك؛ يقال: عفَّ عن الشيء إذا كف عنه، وتعفف إذا تكلف في الإمساك. والتعفف ترك السؤال، والاستعفاف هو الصبر والنزاهة عن الشيء.

و(المتعففون) وردت سماتهم في الآية الكريمة التي تصف الذين هم أولى الناس بالصدقات؛ يقول تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم﴾. يقول المفسرون إن المعنى العام للآية هو: اجعلوا صدقاتكم للفقراء الذين منعهم الجهاد في سبيل الله من السفر طلباً للرزق، يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء لتعففهم عن السؤال، ويعرفهم المطلع عليهم بعلاماتهم، من الحاجة الظاهرة على أجسامهم وثيابهم، ومن صفاتهم أنهم ليسوا كسائر الفقراء الذين يسألون الناس مُلِحِّين في مسألتهم، وما تُنفقوا من مالٍ وغيره فإن الله به عليم، وسيجازيكم عليه أعظم الجزاء.

 

و(المتعففون) عن السؤال وردت أحاديث نبويةٌ شريفةٌ متعددةٌ تمدحهم وتذم المُلحفين في السؤال؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [ليسَ المِسْكِينُ الذي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَا اللُّقْمَةُ ولَا اللُّقْمَتَانِ، إنَّما المِسْكِينُ الذي يَتَعَفَّفُ، واقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا}]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: [ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن يستعفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ عزَّ وجَلَّ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ تعالى إذا أنعَم على عبدٍ نعمةً، يُحبُّ أن يرى أثرَ النِّعمةِ عليه، ويكره البُؤسَ والتَّباؤسَ، ويُبغِضُ السائلَ الملْحِفَ، ويحبُّ الحييَّ العفيفَ المتعفِّفَ].

 

يقول أهل العلم إن التعفف من سمات الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروفٌ تمنعهم من الكسب قهراً، وتأبى كرامتهم أن يسألوا العون من الناس، فهُم يتجملون كي لا تظهر حاجاتهم، ويحسبهم الجاهل -من حولهم- بما وراء ما يبدو منهم أنهم أغنياء لتعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة النافذة يُدرك سيماهم وهم يُدارونها في حياء.

و(المتعففون) لهم سمات تُميزهم قيل إنها التخشع والتواضع، وقيل إنها أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقيل إنها صُفرة ألوانهم من الجوع والضُر، وقيل رثاثة ثيابهم، وقيل: إذا كان عندهم غداءٌ لا يسألون عَشاءً، وإذا كان عندهم عشاءٌ لا يسألون غَداءً.

 

وهذا شاعرٌ متعفف يصف نفسه:

لَقَدْ زادَني تِيهاً عَلَى النَّاسِ أنّني أرانيَ

أَغْناهُمْ، وَإِنْ كُنْتُ ذا فَقْرِ

فوَاللهِ لا يُبْدي لِساني لَجاجَةً إِلَى أحَدٍ

حَتَّى أُغَيَّبَ في القَبرِ

فَلَو لَمْ أرِثْ فَخْراً لَكانَتْ صِيانَتي فَمي

عَنْ سُؤالِ النَّاسِ حَسْبي مِنَ الفَخْرِ

 

و(المتعففون) يرى علماء الاجتماع أنّهم أصحاب مميزاتٍ وصفاتٍ خاصةٍ؛ فهُم شريحةٌ من الفقراء والمعوزين يتصفون بالقناعة والتعفف وعزة النفس، إنهم صنفٌ من البشر سترهم الله بستره فتسربلوا بستره والتحفوا بالتعفف، فمهما كانت حاجتهم أظهروا الستر والاستغناء لا يسألون إلا الله، وهؤلاء يحتاجون من المنفقين والمحسنين بعض العناء في البحث عنهم، لذا فإن علينا كأفراد وعلى المؤسسات الخيرية بذل مجهودٍ أكبر للوصول لهم واتباع أحسن سُبل حفظ ماء الوجه عند مساعدتهم وإعانتهم.

 

أحبتي.. أختم بما أوصى به بعض الأفاضل؛ إذ قالوا: لا شك أن الدلالة على الأسر المتعففة من أفضل القُرب. ينبغي أن ينبري كلٌّ مِنَّا ليدُلّ المحسنين على أهل العفاف والكفاف حيثما كانوا، والدَّال على الخير كفاعله. إنّ الأمل أنْ تتسع دائرة الشعور بالمسؤولية ليشترك فيها الجميع؛ فيشعر كل واحدٍ منا بمسؤوليته تجاه المتعففين؛ قد يكون (المتعففون) من أقرب الناس إلينا دون أن ننتبه؛ فقد يكونون من قرابتنا أو جيراننا ونظن أنّ أحوالهم طيبةٌ، فقط لأنهم لم يطلبوا منا حاجةً، ولم نسمع منهم شكايةً، يصطبرون على معاناتهم بصمتٍ دون ضجيج؛ فلنبحث عنهم ونُقدم لهم ما استطعنا من مساعدةٍ، أو ندل المحسنين أو المؤسسات الخيرية عليهم حتى نكفيهم مؤونة السؤال. نحن جميعاً مسئولون أمام الله عنهم. إن قضاء حوائج الناس والستر عليهم في ميزان رب العزة والجلالة أكبر من تصورنا. وحين نقضي حاجةً لمسلمٍ سيقضي الله حوائجنا ويُيسّر لنا من الناس من يقف معنا في وقت ضيقنا واحتياجنا، ومَن نُسعده ستكون دعوته شفيعةً لنا في يومٍ نبحث فيه عن كل حسنةٍ وكل فعلٍ يُقربنا من الجنة ويُبعدنا عن النار. فلنبحث عن المتعففين ونُساعدهم بسريةٍ وتكتم، ولتكن قلوبنا نحن أيضاً متعففةً عن التباهي والتفاخر والعُجب بالنفس والرياء، لتكون أعمالنا خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وجعلنا ممن يرحمهم ويغفر لهم ويعتقهم من النار.

 

https://bit.ly/3ECOnba