الجمعة، 25 مارس 2016

قصة كفاح

25 مارس، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٤

(قصة كفاح)

[كنت فقيراً لدرجة أنني عجزت عن الاشتراك في رحلة للمدرسة قيمة المشاركة فيها ريال سعودي واحد رغم بكائي الشديد لأسرتي التي لم تكن تملك الريال. وقبل يوم واحد من الرحلة أجبت إجابة صحيحة فما كان من معلم الفصل إلا أن أعطاني ريالاً مكافأة مع تصفيق الطلبة. حينها لم أفكر وذهبت مسرعاً واشتركت في الرحلة، وتحول بكائي الشديد إلى سعادة غامرة استمرت أشهراً. كبرت وذهبت الأيام وغادرت المدرسة إلى الحياة، وبعد سنوات من العمل وبفضل الله، عرفت العمل الخيري، هنا بدأت أتذكر ذلك المدرس الفلسطيني الذي أعطاني الريال، وبدأت أسأل نفسي هل أعطاني ريال صدقة أم مكافأة فعلاً؟ لم أصل إلى إجابة، لكنني قلت إنه أياً كانت النية فقد حل لي مشكلة كبيرة وقتها ودون أن أشعر أنا أو غيري بشيء. هذا جعلني أعود إلى المدرسة وإلى جهات التعليم بحثاً عن هذا المدرس الفلسطيني، حتى عرفت طريقه، فخططت للقائه والتعرف على أحواله. التقيت هذا المدرس الفاضل ووجدته بحال صعبة بلا عمل ويستعد للرحيل، فلم يكن إلا أن قلت له بعد التعارف: "يا أستاذي الفاضل لك في ذمتي دين كبير جداً منذ سنوات"، قال وبشدة: "لي ديون على أحد؟"، هنا سألته: "هل تذكر طالباً أعطيته ريالاً لأنه أجاب كذا وكذا؟"، بعد تذكر وتأمل قال المدرس ضاحكاً: "نعم...نعم.... وهل أنت تبحث عني لترد لي ريالاً؟"، قلت له: "نعم"، وبعد نقاش أركبته السيارة معي وذهبنا، وقفنا أمام فيلا جميلة، ونزلنا ودخلنا، فقلت له: "يا أستاذي الفاضل هذا هو سداد دينك، مع تلك السيارة، وراتب تطلبه مدى الحياة، وتوظيف ابنك في مؤسستي". ذُهل المدرس وقال: "لكن هذا كثير جداً"، قلت له: "صدقني إن فرحتي بريالك وقتها أكبر بكثير من حصولي الآن على عشر فلل كهذه، ما زلت لا أنسى تلك الفرحة"].
كانت تلك بالنص كلمات الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي، الملياردير السعودي.
نشأ في أسرة فقيرة، بدأ حياته العملية في العاشرة من عمره بتجارة "الكيروسين" فكان يربح من هذه التجارة قرشاً أو قرشاً ونصف خلال اليومين، وعمل بعد ذلك حمّالاً مقابل نصف قرش في اليوم، ثم انتقل ليعمل طباخاً بإحدى الشركات. وفي عام 1365هـ اختار محلاً صغيراً لتجارة "البقالة"، وكانت ثروته وقتها حوالي 400 ريالاً، وبعد ذلك بخمس سنوات بدأ العمل في مجال الصيرفة، فكان يبيع ويشتري العملات من الحجاج.
يمتلك الآن ويدير "مصرف الراجحي" الذي يُعد من أهم المؤسسات المالية في المملكة العربية السعودية، وأحد أكبر المصارف الإسلامية في العالم، تأسس عام 1957م، وله قرابة 500 فرع، تبلغ أصوله 124 مليار ريال سعودي (33 مليار دولار أمريكي)، ويبلغ رأس ماله 15 مليار ريال سعودي (4 مليارات دولار)، ويعمل فيه أكثر من 8 آلاف موظف. يحتل الشيخ سليمان المرتبة الـ107 عالمياً في قائمة "فوربس" لأثرياء العالم، والمرتبة السابعة عربياً، واستطاع أن يبني إمبراطورية اقتصادية من خلال المشاريع التي طورها وجعلها من أفضل وأنجح المشاريع المتخصصة في نشاطها، ومنها إلى جانب مصرف الراجحي، "الشركة الوطنية للدواجن وإنتاج البيض"، التي تعتبر من أكبر مزارع الدواجن في العالم، و"مشروع تربية الأغنام" في الجوف، ومشروع "شركة الروبيان الوطنية" في الليث، وغيرها من المشروعات الكبرى.
يقول الشيخ سليمان: "إن رأس الإنسان هو كمبيوتر إذا ما استُخدم في التفكير الجاد والعمل الدؤوب، وقنوات العمل مفتوحة أمام الجميع تنتظر دخولها". بهذا المنطق استطاع أن يبني ويدير صروحه الاقتصادية، ورغم أن الرجل لم يكمل تعليمه إلا أنه نجح في إدارة موظفيه، والذين يحمل معظمهم شهادات وخبرات اقتصادية كبيرة، وفعلاً استطاع أن يستعمل نعمة العقل جيداً، وبدأ يطور أمواله وأعماله شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح من أغنى أغنياء العرب. كانت ثروته تقدر ب 25 مليار ريال سعودي قبل أن يفاجئ الجميع حوله، كما فعل مع مدرسه الفلسطيني، فيتبرع بثلث ثروته للوقف الخيري ويوزع الباقي علي ورثته، ولا زال حياً أطال الله عمره، تغطي أعماله للبر والخير ميادين كثيرة كالتعليم والصحة والإسكان، ومجالات متنوعة كرعاية الأيتام وتحفيظ القرآن الكريم وإنشاء الجامعات والمكتبات العامة وغيرها.
أحبتي في الله .. عَلِمَ الشيخ سليمان أن ليس للكفن جيوب، وعَلِمَ أن المصرف الوحيد الذي له فروع في الدنيا والآخرة، تُودِع فيه في الدنيا لتسحب منه في الآخرة، هو مصرف الصدقة والإنفاق وعمل الخير، ففعل ما فعل بنفس مطمئنة تحسن الظن بالله سبحانه وتعالى وتثق في وعده ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾. وأحسب أنه عاهد الله وأوفى بعهده مصداقاً لقوله تعالى ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
أحبتي في الله .. أشرت في خاطرتين سابقتين (رقم 5، ورقم 14) إلى نموذجين فريدين من أهل الخير تضيف إليهما خاطرة اليوم النموذج الثالث. هؤلاء الثلاثة جمع بينهم الإيمان والإخلاص وحب الخير، لكلٍ منهم (قصة كفاح)، كفاح في الحياة، وكفاح مع الذات تمثل في مجاهدة النفس التي فُطرت على الشُح، فسلكوا درب الذين ﴿يُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. كأني بهم وقد فهموا المعنى الصحيح للآية الكريمة ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، لقد فرحوا بفضل الله، وفرحوا برحمته، وكانت فرحتهم خيراً لهم مما يجمعون.
أما أخونا المدرس الفلسطيني فقد نفعه إخلاصه في عمله، وإتقانه له، ومعاملته لتلاميذه وكأنهم أبناؤه، وحفزه وتشجيعه لهم، وهذا كله دليل صلاح وتقوى، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.
هؤلاء جميعاً نماذج شامخة، تعمل في صمت، تعطينا دروساً في الحياة، ويبقى عملها مثالاً يُحتذى به. نفع الله بهم، وأكثر من أمثالهم، وجعلنا وإياكم ممن يكتبون لأنفسهم (قصة كفاح) تنفعهم في دينهم ودنياهم؛ فنكون من المفلحين الفائزين بإذن الله.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/8EAWsT