الجمعة، 27 مايو 2016

التخفف من الذنوب


27 مايو، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٣

(التخفف من الذنوب)

سألته: "ما بك يا عزيزي؟ أراك تحمل هماً، ما الموضوع يا ترى؟"، قال لي متأثراً: "أخ فاضل، أعرفه منذ زمن، متعلم تعليماً راقياً، ومثقف، له أعماله الحرة التي حقق فيها نجاحاً ملحوظاً حتى بات ممن يُستشارون في مجال التخصص، نتواصل معاً بشكل يومي عن طريق الواتس آب، لا أذكر أني التقيته من قبل، نتبادل الاحترام عن بعد، ونحتفظ دائماً بمسافة بيننا، فنحن مختلفان في الاهتمامات والآراء ووجهات النظر، وهذا ظاهر مما أكتب ومما يكتب .. من جانبي أتحاشى أن أرسل له ما قد يضايقه أو لا يحبه أو يتعارض مع ما يعبر عنه من أفكار، أريد أن أحتفظ به أخاً في الله حتى لو اختلفنا في الرأي، أدعو له بالهداية دائماً، وأقول في نفسي ربما يتغير، ربما يفيق من غيبوبته كما أفاق غيره، ربما تنزاح من أمام عينيه غمامة تجعله يرى الحق باطلاً ويرى الباطل حقاً .. أما من جانبه فهو يصر على أن يرسل لي بشكل شبه يومي ما يعبر به عن وجهة نظره التي يعلم تماماً أننا مختلفين فيها"، قلت له: "خفف عن نفسك، الاختلاف بين الناس، وحتى بين الأصدقاء شيء طبيعي، لا تضخم الأمر يا عزيزي، هون عليك"، قال: "لا يزعجني أننا مختلفان في الرأي، ما يزعجني هو الأسلوب والطريقة التي يتبعها، وللأسف يتبعها كثيرون غيره، وهي تسفيه رأي الغير بأساليب غير موضوعية؛ فبدلاً من أن يركز على توضيح صحة موقفه ووجهة نظره بحوار عقلاني هادئ ومقبول، أجده يفضل السب والشتيمة والتطاول والافتراء على ما يعتقد أني أؤمن به أو على من يظن أني أميل إليهم، ويتحفني دوماً، دون ملل، بالجديد مما ينتجه غيره من أكاذيب وادعاءات وافتراءات منها ما هو مكتوب ومنها ما هو مصور، يغلب على صياغتها إسفاف وابتذال إذا صدر عن جاهل ربما عذرته، لكن أن يصدر عن متعلم مثقف ذي مكانة اجتماعية مرموقة فهذا أمر من الصعب تفسيره"، قلت له: "أخبرني بموضوع الخلاف عسى يوفقني الله سبحانه وتعالى إلى حله"، رد علي: "ليس المهم موضوع الخلاف، المهم هو أسلوبه وطريقته في التعامل معي، أحس أنه يريد استفزازي، وهذا لم ولن يحدث بإذن الله، ومع هذا فإن ما يشغلني ويؤرقني حقاً أنه هو وغيره ممن يسيرون على نهجه بدلاً من أن يسعوا إلى (التخفف من الذنوب) يُحَمِّلُون أنفسهم أوزاراً لا داعي لها، كما لو كانوا يجتهدون ما وسعهم الجهد أن تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙوَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾. سألته: "ألم تنصحه بما تقوله لي الآن؟"، أجاب: "نصحته لكنه لم يأخذ بنصيحتي". واستطرد: "وصل بي الأمر إلى أن أتساءل بيني وبين نفسي ألا يظن هذا الشخص وأمثاله أنهم محاسبون على كل كلمة ينطقون بها أو يكتبونها إذ يقول المولى سبحانه: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾؟ ألا يعتقدون أنهم سيقفون يوماً للحساب أمام الله سبحانه وتعالى؟ ألم يقرأوا الآية الكريمة: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؟، ألا يعلمون أنهم محاسبون حساباً دقيقاً عادلاً لا يترك مثقال الذرة، خيراً كان أو شراً، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾؟ لماذا يفعل هؤلاء بأنفسهم ما يفعلون؟ ماذا سيجنون من تحميلهم أنفسهم كل هذه الخطايا والذنوب؟ الغريب في الأمر هو أن معظم أولئك يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم، ألا يدركون أن غيرهم لن ينفعهم عند الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى وقت الحساب؛ يقول المولى جل شأنه: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾، ويقول عز من قائل: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾"، قلت له: "تتحدث وكأنك أنت على صواب كامل، وكأنه هو المخطئ على الدوام"، ثم أردفت: "وقد تكونا أنتما الاثنان مخطئين"، رد سريعاً: "لم لا؟، نحن بشر نصيب ونخطئ، وهل منا من يملك الحكمة الكاملة أو الحقيقة المطلقة؟"، قلت: "الآن اطمأننت على أن غضبك لم يذهب بك بعيداً عن موضوعية تعجبني في تفكيرك"، عقب قائلاً: "المشكلة لا تكمن في موضوع الخلاف، ومن منا المصيب ومن الذي جانبه الصواب، المشكلة في الأسلوب والطريقة التي يتعامل بها، لست غاضباً منه، وإنما غاضب له، يتملكني إحساس بالشفقة عليه والرثاء لحاله"، قلت له: "يمكنك ببساطة أن تحذف اسمه من جهات الاتصال، أو تقوم بحظره"، رد علي: "أعلم ذلك، لكن لأنه أخ لي في الإسلام، فإني أحب له ما أحب لنفسي، أحمل همه، وأخاف أن يكون يوم الحساب من المفلسين الذين وصفهم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سأل أصحابه: [هَلْ تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ]". واستمر قائلاً: "أُشفق عليه وعلى أمثاله وأرثي لحالهم؛ فهم يخسرون أنفسهم، باعوا أنفسهم لشياطين الإنس الذين زينوا لهم الباطل فابتعدوا عن طريق الصواب، خضعوا لأهواء غيرهم، وقبلوا أن يتنازلوا طواعية عن فطرتهم الصادقة وعقولهم الواعية فسلموا عيونهم وأسماعهم وقلوبهم للآخرين، أسكتوا صوت الفطرة السليمة الذي تحرك يوماً في صدورهم؛ فتراهم يجادلون بغير حق، وكأني بالآية الكريمة تنطبق عليهم: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ واصلين مرحلة الخصومة ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾، ترى الجدل لديهم غايته نصرة الباطل ومدافعة الحق عن عمد وقصد، صدق رب العزة في وصفهم: ﴿وَمِـنَ النَّـاسِ مَنْ يُجَـادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْـمٍ وَلا هُـدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾، وصدق عندما قال في شأنهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾"، وختم كلامه: "والله إني أحب له ولأمثاله الخير، وأخشى عليهم سوء العاقبة"، قلت له: "لو التزمنا كلنا بالضوابط الشرعية للحوار والجدال، لارتحنا، وخف توترنا، وقَلَّت مشاكلنا. ولو أن كل فرد منا فعل كما فعلت أنت وأحب لأخيه ما يحبه لنفسه لتغيرت أحوالنا وانصلحت أمورنا".
أحبتي في الله .. لقد حدد لنا ديننا الحنيف أساليب النقاش والحوار التي تستند إلى العقل والمنطق وتبعد عن الإساءة والإسفاف .. وضرب لنا الكثير من الأمثلة في ضرورة التعامل بالحسنى واجتناب الإساءة للغير .. يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .. ويقول في مواضع كثيرة: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾، ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ﴾، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ .. كلها دعوات لتنشيط أدوات الفطرة السليمة لتعمل عملها فتتغير القلوب .. وطالبنا شرعنا الحنيف بالبعد عن الجدل بغير الحسنى؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، لأن الجدال بغير الحسنى يكون مدعاة للإثارة، يدفع إلى المشاحنة والسخرية والتهكم، ويغري بالاجتراء على الحقيقة واستباحة طمسها بالحيلة والكذب والافتراء، مما يوقع أطرافه في الكثير من المعاصي والمحظورات، ويحملهم ذنوباً هم في غنى عنها.
أحبتي .. لماذا يبتعد البعض منا عن الروح السمحة لديننا الحنيف؟ لماذا نُحَمِّل أنفسنا أوزاراً فوق أوزارنا ونجتهد في اكتساب الذنوب بدلاً من التخفف من الموجود منها؟ ألا تكفينا سيئات كثيرة ندعو الله ليل نهار أن يغفرها لنا؟
علينا أن نستعد لموتٍ قادمٍ لا محالة، وحسابٍ قائمٍ لا شك فيه، بأن يخفف كل منا من ذنوبه وسيئاته ما استطاع.
اللهم اهدنا، واهدِ قومنا فإنهم لا يعلمون، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وبدل سيئاتنا حسنات؛ إنك أنت الغفور الرحيم ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/II5j7C