الجمعة، 18 نوفمبر 2016

تزودوا

الجمعة 18 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٨
(تزودوا)

أخيراً وصلته تأشيرة دخول تمهيداً لسفر كان يتوقعه .. كان قد أعد نفسه للسفر قبل وصول التأشيرة .. أحضر الكثير من الكتب التي تتحدث عن المكان الذي ينوي السفر إليه.. واستمع إلى كثير ممن كانوا يتكلمون عن هذا المكان .. وكلما خطر على ذهنه سؤال أو استفسار كان يسارع للبحث عن إجابات عن أسئلته .. باختصار، كان قد استعد نفسياً استعداداً كاملاً لهذه الرحلة.
وكان عليه أن يستعد بشكل عملي؛ رجع إلى قائمة تحقق check list مدون فيها كل ما يحتاج إليه المسافر في رحلته إلى هذا المكان .. وضع القائمة في مكان محدد على مكتبه ووضع بجوارها قلماً ليضع علامة على كل شيء يكون انتهى من تحضيره وإنجازه.
ومع كل هذا الاستعداد فقد انتابته بعض هواجس خوف، لكنه أقنع نفسه بأن الخوف من المجهول ظاهرة إنسانية وأنه إنسان .. برر لنفسه هذا الخوف الذي أحس به.
وفي خطوة عملية أخيرة جهز حقيبة سفره واستعد لبدء الرحلة .. لاحظ أن هناك أشياء في القائمة لم يتسع وقته لتجهيزها ووضعها في حقيبة السفر .. لم يكن يستطيع تدارك الأمر فالوقت كان قد نفد .. وحان وقت انتقاله إلى المطار للسفر .. وصل إلى المطار محاطاً بعدد كبير من أهله وأصدقائه ومحبيه الذين حضروا خصيصاً لوداعه .. لم يبخلوا عليه بدعواتهم الطيبة أن ييسر الله سبحانه وتعالى له رحلته ويوفقه في حياته الجديدة في ذلك المكان البعيد.
هذا سيناريو يحدث بشكل اعتيادي مع أي شخص منا يسافر تاركاً مكاناً تعَوَّد أن يعيش فيه إلى مكان جديد لم يألفه بعد .. ربما أهم ما في هذا السيناريو هو الاستعداد الجيد للرحلة، فكلما كان الاستعداد جيداً ومخططاً له كلما كانت النتائج مُرضية، وإذا سألك بعضهم عن كلمة السر لنجاح الرحلة قلت لهم: (تزودوا)!
هذا فيما يتعلق برحلة عادية من مكان إلى آخر لا يختلفان كثيراً إلا في تفاصيل بسيطة وصغيرة نسبياً .. فما بالنا برحلة غير عادية .. رحلة من مكان ألفناه واعتدنا عليه إلى آخر مختلف تمام الاختلاف في كل شيء .. ما أقصده هو تلك الرحلة التي لا مفر منها لكلٍ منا، رحلة الموت، وهو حقٌ علينا جميعاً؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾، ويقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾، ويقول: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾، ويقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، ويخاطب حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، ولا مجال للهروب من الموت؛ يقول عز وجل: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾، ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، ويقول: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، بمعنى هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص.
يا لها من رحلة؛ تأشيرة الدخول فيها هي قرب انتهاء الأجل، والمكان الذي نغادره هو دار الدنيا، والمكان الذي نسافر إليه هو الدار الآخرة، وقائمة التحقق check list هي الأعمال التي ينبغي علينا أن نؤديها من عبادات ومعاملات، أما حقائب السفر فغير مسموح لنا أن نحمل فيها سوى أعمالنا التي قمنا بها بالفعل في حياتنا الدنيا؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله]، والمطار هو القبر الذي يوماً ما سيدخله كلٌ منا ليصل إلى الدار الآخرة فلا طريق آخر ولا بديل، والأهل والأحبة والأصدقاء المودعون هم المشيعون لنا إلى آخر مكان لنا في دار الدنيا ينظرون إلينا ولا يملكون لنا أي شيء سوى الدعاء؛ يقول سبحانه: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ*وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ*فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ*تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وتبقى كلمة واحدة هي الأهم في الاستعداد لهذه الرحلة، هي كلمة السر: (تزودوا)!

أحبتي في الله .. أعلم أن حديث الموت لا يحبه الكثيرون، بل ويهربون من مجرد ذكره .. وأعلم أن الكثيرين لن يكملوا قراءة هذه الخاطرة إلى نهايتها! .. والسبب أننا مقصرون وغافلون، أعمالنا قليلة وأمانينا كثيرة وقلوبنا لاهية، ينطبق على أغلبنا قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ*مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ*لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ..﴾، ومع ذلك فعلينا أن نتذكر الموت دائماً ونستعد له لنكون "أكيس المؤمنين"، تأمل رد الرسول عليه الصلاة والسلام على رجل من الأنصار سأله: أي المؤمنين أكيس؟، قال: [أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس]، والكَيِّسُ هو العاقل المتبصر في الأمور، الناظر في العواقب، كما أن العاقل من يتعظ بالموت؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا ..].

أحبتي .. كلنا يعلم أن وجودنا في الدنيا هو ابتلاء واختبار، إنه امتحان لنا ليرى المولى عز وجل أينا أحسن عملاً؛ قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، فهل انتبهنا وأفقنا من غفلتنا وأحسنا العمل؟ وهل اتعظنا من كل تلك الآيات الكريمة وتدبرنا معانيها؟ أم نحن كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟
وبلغة العصر نقول أن أي طالب مقبل على امتحان يكون منتهى أمله أن يعلم أسئلة الامتحان قبل أن يبدأ، فما بالنا في امتحان الدنيا، جميع الأسئلة معلومةٌ لنا مسبقاً ويعلم كلٌ منا ما سيُسأل عنه عند وقوفه بين يدي ربه سبحانه وتعالى يوم الحساب، ولا نعمل لهذا اليوم، بل والبعض يرسب في الامتحان رغم أن الأسئلة مكشوفة ومعلومة ومعروفة وتم تسريبها عمداً؟!

لنحذر أحبتي من التسويف، ولنبادر إلى العمل لما بعد الموت، ولنطرد الهوى والأمل الكاذب والأماني الخادعة التي تجعلنا عاجزين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ]، ولتكن الكلمة التي نتواصى بها فيما بيننا هي (تزودوا)، فإذا سأل سائل: "ما هو الزاد الذي علينا أن نتزود به؟" جاءت الإجابة واضحة ومحددة لا لبس فيها: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، إذن فالزاد هو تقوى الله سبحانه وتعالى، والتقوى هي أن يأخذ العبد وقايته من سخط الله عز وجل وعذابه؛ وذلك بامتثال المأمور، واجتناب المحظور، ونلاحظ في هذه الآية الكريمة التأكيد على التقوى بلفظين مختلفين: المصدر وفعل الأمر، كما نلاحظ أن الآية انتهت بتوجيه هذا الأمر للعقلاء ذوي الأفهام والألباب.

هيا أحبائي نقتنص كل فرصةٍ ولا نضيع دقيقةً واحدةً حتى نملأ حقائب سفرنا بخير زادٍ لرحلةٍ آتيةٍ لا شك فيها، ندعو الله سبحانه وتعالى أن تكون وجهتنا الأخيرة فيها الفردوس الأعلى من الجنة، وهذا هو الفوز العظيم.
أما أحبتنا الذين ما تزال حقائبهم خاوية أو قليلة المتاع، فبادروا أعزتنا إلى توبةٍ نصوحٍ أخلصوا فيها النية وصححوا مسيرة حياتكم، ارجعوا إلى قائمة التحقق، نفذوا ما تستطيعون تنفيذه منها، فلا يعلم أحد منا موعد سفره أو تاريخ رحلته!
اجعلنا اللهم ربنا من المسارعين إلى مغفرةٍ منك، واجعلنا من المتقين؛ لنكون من أصحاب الجنة مصداقاً لوعدك، ووعدك حق: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/3MkSbm