الجمعة، 30 ديسمبر 2016

حُسن الظن بالناس

الجمعة 30 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٤
(حُسن الظن بالناس)

أرسل لي صديقي العزيز قصةً يتداولها بعض الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، تقول القصة:
{إذ جاء طائر إلى بركة ماء ليشرب منها، وجد أطفالاً بقربها، فخاف منهم حتى غادر الأطفال وابتعدوا. وبالصدفة جاء رجل ذو لحية طويلة إلى البركة، فقال الطير في نفسه: هذا رجل وقور ولا يمكن أن يؤذيني. فنزل إلى البركة ليشرب من الماء، فأخذ الرجل حجراً ورماه به ففقأ عينه. فذهب إلى نبي الله سليمان شاكياً، فاستدعى نبي الله سليمان ذلك الرجل وسأله: ألك حاجة في هذا الطائر حتى رميته؟! قال: لا. عندها أصدر عليه النبي حكماً بأن تُفقأ عينه. غير أن الطائر اعترض قائلاً: يا نبي الله إن عين الرجل لم تؤذيني، بل اللحية هي التي خدعتني، لذا أطالب بقص لحيته عقوبة له، حتى لا يخدع بها أحداً غيري}.
واُختتمت القصة بالتعليق التالي: ‏{ترى إن حضر هذا الطائر زماننا هذا كم لحية سيطالب بقصها؟!!}
كتبت له رداً مختصراً قلت فيه:
{عزيزي، اللحية هي المشكلة، هذا تفكير طائر! أما تفكير الإنسان الذي ميزه ربه بالعقل فيرى أن المشكلة الحقيقية تكمن في قيم الرجل وما يؤمن به من مبادئ .. فهي التي تمنعه أو لا تمنعه من إيذاء غيره طائراً كان أو غير طائر .. فكم من حليقِ لحيةٍ آذى الكثير من البشر .. وكم من طويلِ لحيةٍ كان خيراً على البشرية جمعاء .. وعليه فلا يجب أن نقع في خطأ التعميم .. ولنبتعد عن الحكم على الناس من مظهرهم .. علي الأقل حتى لا نقع في إثم الظن؛ فإن بعضَ الظنِ إثمٌ كما تعلم}.
ويقول أحدهم في مدونته على شبكة الإنترنت تعقيباً على هذه القصة:
{لا يخفى أن هذه القصة كذب سمج وهي مخترعة ولا وجود لها في شيء من الكتب. لا شك أن التدين الظاهر أمرٌ يشترك فيه الصالح والمنافق، ولكن هل يجوز أن نذم الصالحين بزلل المتشبهين بهم؟ هذا منتهى الظلم. من الناس من يصلي نفاقاً ومن يحج نفاقاً ومن يجاهد نفاقاً ومن يتصدق نفاقاً فهل يجوز أن نُمنع من هذه الأمور؟
واتهام أهل الخير بالرياء طريقة المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، فكانوا يقولون عن المتصدقين مرائين، ولما كانوا هم المراءون ظنوا هذا في أهل الإيمان}.

أحبتي في الله .. أحسن الطائر الظن بالرجل الملتحي، لكن الأخير لم يكن عند حسن الظن به، فوقع الطائر في خطأ الحكم على ذلك الرجل من خلال مظهره، وهكذا يفعل كثير من الناس؛ قال أحد العلماء: "كثر كلام الناس بعضهم في بعض بلا زمام ولا خطام؛ وانشغل عدد من الدعاة وطلاب العلم عن العلم والدعوة بالحكم على الناس"، وذكر عدداً من الضوابط الشرعية التي علينا الالتزام بها عند الحكم على واحد من الناس، منها:
أن لا يحكم على الناس إلا عالمٌ خبيرٌ بأحوالهم؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، معه شاهد يشهد، قال: ائت بمن يعرفك، فجاء برجل، قال: هل تزكيه؟، هل عرفته؟، قال: نعم، فقال عمر: وكيف عرفته؟، هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟، قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم التي تُعرف بهما أمانة الرجال؟، قال: لا، قال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟، قال: لا، قال: عمر: فلعلك رأيته في المسجد راكعًا وساجدًا فجئتَ تزكيه، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عمر: اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك.
ومن الضوابط الشرعية وجوب العدل والإنصاف؛ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. ومن ضوابط الحكم على الناس ألا يكون بالظن؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، وقال: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾، وقال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ]. ومن الضوابط الشرعية كذلك: أن الأصل إحسان الظن بالمسلمين، وإساءة الظن لا تكون إلا إذا قامت أسبابها، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ فدلت الآية على أن التبين والتثبت إنما يكون من خبر الفاسق المعروف بالفسق. ومن تلك الضوابط: التبين والتثبت وعدم التسرع؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. ومن بينها أيضاً النهي عن التجسس والتحسس؛ قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا﴾. وقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [... وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا].

أحبتي .. واجبٌ علينا أن نحسن الظن بالناس .. ولا نتسرع في إصدار أحكام يجانبها الصواب.
عن (حُسن الظن بالناس) يقول أهل العلم: الإسلام دين يدعو إلى حسن الظن بالناس والابتعاد كل البعد عن سوء الظن بهم؛ لأن سرائر الناس ودواخلهم لا يعلمها إلا الله تعالى وحده. وسوء الظن يؤدي إلى الخصومات والعداوات وتقطع الصلات؛ قال تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ*إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. والمسلم مأمور بأن يُحسن الظن بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محملٍ حسنٍ ما لم يتحول الظن إلى يقينٍ جازم. لذا فإنه ينبغي للمسلم ألا يلتفت كثيراً إلى أفعال الناس، يراقب هذا، ويتابع ذاك، ويفتش عن أمر تلك، بل الواجب عليه أن يُقبل على نفسه فيصلحَ شأنها، ويُقوِّمَ خطأها، ويرتقي بها إلى مراتب الآداب والأخلاق العالية، فإذا شغل نفسه بذلك، لم يجد وقتاً ولا فكراً يشغله في الناس وظن السوء بهم.
فالواجبُ على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإنَّ من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنَه ولم يُتعب قلبَه، فكلَّما اطَّلع على عيبٍ لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإنَّ من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه وتعذَّر عليه ترك عيوب نفسه.
و(حُسن الظن بالناس) مندوبٌ ومستحب، مع البعد عن تتبع عورات الناس ورصد معايبهم؛ قال الإمام الشافعي:
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ  **   فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُــنُ
وَعَـينكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَيكَ مَعَـايِباً ** فَصُنْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ
علينا أن نحمل الكلام على أحسن المحامل؛ فكما ورد في الأثر عن عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلمٍ شرًا وأنت تجدُ لها في الخيرِ محملًا".
وعلينا التماس الأعذار للآخرين، قال ابن سيرين: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعرفه".
ويقول الشاعر:
سَامِحْ أَخَـاكَ إِذَا وَافَاكَ بِالْغَلَــطِ * * وَاتْرُكْ هَوَى الْقَلْبِ لا يُدْهِيْكَ بِالشَّطَطِ
فكم صَدِيْقٍ وفيٍّ مُخْـلِصٍ لَبِــقٍ   * *   أَضْحَى عَدُوًّا بِـــمَا لاقَاهُ مِنْ فُرُطِ
فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَعْصُوْمٌ سِوَى رُسُلٍ  **   حَمَاهُـمُ اللهُ مِـنْ دَوَّامَـةِ السَّقَـطِ
أَلَسْتَ تَرْجُـوْ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِـرَةً  * *  يَوْمَ الزِّحَـامِ فَسَامِحْ تَنْجُ مِنْ سَخَـطِ

أحبتي .. عودةً إلى القصة المذكورة .. دعونا ننتبه إلى أن (حُسن الظن بالناس) يجب ألا ينسينا ما يخطط له أعداؤنا.. فلننتبه إلى مكائدهم وحربهم المستمرة على الإسلام .. يبدأون بمحاربة المظاهر كاللحية والثوب والنقاب، ثم يشككون في أصح كتب الأحاديث، وينتقلون إلى سُنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ويقولون لا نأخذ إلا بالقرآن، ثم يأتون إلى آيات القرآن الكريم فيفسرونها وفق أهوائهم حتى أن أحدهم تجرأ على القول بأن بعض هذه الآيات لم تعد تصلح لزماننا؛ فهي كانت تصلح فقط للزمن الذي نزلت فيه! .. علينا أن نكون واعين لأمرٍ واضحٍ وضوح الشمس في رابعة النهار؛ أنه من يفعل سوءاً فليس العيب في دينه بل على العكس تماماً العيب في قلة دينه. ليس أيُ فردٍ منا حجةً على الإسلام؛ ذلك الدين الذي أكمله الله لنا وأتمم به علينا نعمته ورضاه لنا ديناً؛ يقول عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فالإسلام هو الحُجة، إما لنا أو علينا، ولا يجوز لعاقل أن يحكم على الإسلام من واقع المسلمين وسلوكيات بعض أتباعه، بل من الإنصاف أن يكون العكس، ويكون مدى التزام المسلمين بدينهم هو معيار الحكم لهم أو عليهم.
فلنحذر وننتبه لمن يخلطون السم بالعسل ويسوقون أفكاراً يقصدون بها إلصاق التهم جزافاً بالإسلام، والإسلام منها براء، ولنثق في قول المولى عز وجل: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾، ولنتقِ الله في ديننا الذي يصر أعداؤه على الحكم عليه من خلال أقوالنا وأفعالنا، فلنجعلها منضبطة بضوابط الإسلام، ولنكن خير سفراء لهذا الدين القيم بأن نقيم وجوهنا له حنفاء؛ امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/BKrESv