الجمعة، 7 مايو 2021

لا يعملون بما يعلمون

 

خاطرة الجمعة /290


الجمعة 7 مايو 2021م

(لا يعملون بما يعلمون)

 

كان يحلم دائماً بمستقبلٍ باهرٍ مشرقٍ يجمع فيه بين المال والجاه والسُلطة، وقد وجد الطريق إليهم جميعاً في العلم؛ فأقبل عليه بنهمٍ حتى وصل إلى قمة الهرم العلمي بحصوله على الإجازة العالمية «الدكتوراه» في العلوم الشرعية، وتخصص في فرعٍ دقيقٍ منها وهو الفقه المقارن، لكن شيئاً من آماله لم يتحقق بعد. وذات يومٍ أحس أن حلمه قد بزغ فجره، وأوشك أن يتحقق شيءٌ منه؛ بعدما قرأ إعلاناً في إحدى الصحف المحلية أنَّ إحدى الدول تطلب أساتذةً في الفقه المقارن تنطبق شروطها عليه تماماً وكأنها تعنيه هو! لبس الأستاذ أبهى حلةٍ لديه وانطلق مسرعاً إلى سفارة تلك الدولة متفائلاً ومبتهجاً باقترابه من تحقيق حلمه.

في السفارة أدخلوه على اللجنة العلمية التي شكلتها إدارة الجامعة من أكبر علمائها لاختيار اللائقين من المتقدمين للوظائف المطلوبة، قدَّم لهم أوراق ترشحه وسيرته الذاتية والعلمية؛ فاستقبله أعضاء اللجنة بحفاوةٍ شديدةٍ ورحبوا به أبلغ ترحيب، إذ انبهروا بسيرته الذاتية وجعلتهم يُعظِّمون من شأنه. بدأ أعضاء اللجنة مقابلتهم له بالأسئلة الشفهية والمناقشات العلمية، كانت إجاباته دقيقةً بليغةً، وردوده موفقةً بارعةً، زادتهم انبهاراً بعلمه وفقهه، وإعجاباً بذكائه وفطنته، وقد حصل على الدرجة النهائية في جميع الفروع: "القرآن، والحديث، والفقه" بإجماع أعضاء اللجنة. وبدأ في تلقي التهنئة بالنجاح والقبول من رئيس اللجنة وأعضائها، غير أنه أحس بالعطش الشديد بعد هذه المناقشات الحامية فطلب ماءً؛ فأشار أحد أعضاء اللجنة إلى قلة ماءٍ موضوعةٍ على النافذة، فانطلق نحوها فشرب منها ثم عاد إلى رئيس اللجنة يسأله: "متى سيكون السفر إن شاء الله"؟ فأجابه رئيس اللجنة: "لا سفر"، تساءل الأستاذ مندهشاً: "وكيف ذلك؟! ألم تخبرني منذ قليلٍ أنني نجحت وقُبلت"؟! قال: "بلى، لقد نجحتَ في الاختبار النظري الشفهي لكنك رسبتَ في الامتحان العملي"، فتعجب الأستاذ وزادت دهشته وقال: "لكنى لم أمتحن عملياً"! فأجابه رئيس اللجنة: "بل اُمتحنت عملياً ورسبتَ"، قال: "متى؟! وكيف"؟! قال رئيس اللجنة: "عندما تقدمتَ لتشرب الماء تناولتَ القلة بشِمالك، ولم تُسمِ الله، ولم تجلس لتشرب كالسُنة، ولم تشرب ثلاثاً، ثم لم تحمد الله بعدها، فعلمنا أنك لا تعمل بعلمك، وأنك من الذين يقولون ما لا يفعلون، فلا حاجة لنا بك، إننا نريد لأبنائنا قدوةً يقتدون بهم في عملهم قبل أن يأخذوا عنهم علمهم"!

فكان الأستاذ إذا سُئل عن نتيجة المقابلة تلك قال: "نجحتُ في جميع العلوم الشرعية، ولكن سقطتُ في القُلَّة"!

 

أحبتي في الله .. في ذم من (لا يعملون بما يعلمون) يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾، ويقول تعالى عن نبيِّه شعيب عليه السلام: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾.

وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [يُجَاءُ بِرَجُلٍ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابُهُ -أَي تخرُج أمعاؤه- وَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَأْتِيهِ أَهْلُ النَّارِ وَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانٌ! مَا شَأْنُكَ، أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟! قَالَ: بَلَى؛ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المنْكَرِ وَآتِيهِ]. ورأى النَّبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ- قَوْمًا تُقَرَّضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟! قَالُوا: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ؛ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ]، وقَال عليه الصلاة والسلام: [اطَّلَعَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَقَالُوا: بِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ، وَإِنَّمَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ بِتَعْلِيمِكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَفْعَلُ].

ومن لم يعمل بعلمه سوف يُحاسب عليه؛ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: [لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعن عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وعن مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفيمَ أَنْفَقَهُ، وعن جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ].

ومما رُويَ عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: [مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ، كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ]، وقوله: [مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيامَةِ عَالِمٌ لَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ]، وقوله: [وَيْلٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ عَلِمَ ثُمَّ لَا يَعْمَلُ].

 

وعن عليٍ ابن أبي طالب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال فِي خُطْبَةٍ له: "هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلَّا ارْتَحَلَ".

فالشرع ودلائل الكتاب والسُّنَّة وفعل الصحابة جاء فيهم وعيدٌ لمن (لا يعملون بما يعلمون)، ومن يدعون إلى شيءٍ ولا يعملون به؛ فيكون حظُّ النَّاس من علمهم أكثر من حظِّهم هم مِنْ علمهم.

 

قال الشاعر:

واعْمَلْ بِعِلْمِكَ تَغْنَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ

لَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَحْسُنِ الْعَمَلُ

وقال آخر:

مواعظُ الواعظِ لن تُقبلا

حتى تعيَها نفسُه أولا

يا قومِ مَن أظلمُ مِن واعظٍ

خالفَ ما قد قاله في الملا

أظهرَ بين الناسِ إحسانَه

وبارزَ الرحمنَ لمّا خلا

 

ويُقال: "إن العلم من دون عملٍ شجرٌ بلا ثمر"، و"كل علمٍ وبالٌ على صاحبه ما لم يعمل به"، و"العلم حجةٌ لك أو حجةٌ عليك".

 

أحبتي .. كم منا مَن يحرصون على نيل أعلى الشهادات في مجال علمهم ثم هم (لا يعملون بما يعلمون)؛ فينقلب علمهم وبالاً عليهم؟ هذه دعوةٌ لكل واحدٍ منا أن يُراجع نفسه ويعاهد الله سبحانه وتعالى على أن يعمل بما يعلم، ولا يخالف فعله قوله؛ حتى لا نكون ممن يمقتهم الله فيسخط عليهم، ويكون علمنا وبالاً علينا.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً. اللهم اجعل علمنا حجةً لنا، ولا تجعله حجةً علينا.

 

https://bit.ly/3epSD2g