الجمعة، 8 يوليو 2016

حلاوة الإيمان


8 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٩

(حلاوة الإيمان)

في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، كان يقف بجانبي في صلاة الوتر، كنا في الصف الثاني خلف الإمام نؤمن على دعائه، فإذا بي أسمع صوت نهنهة مكتومة تبينت أنها صادرة منه، وتتحول النهنهة بالتدريج إلى بكاء، ويرتفع صوت البكاء فيصير نشيجاً ونحيباً، وكلما علا صوت الإمام وازداد تباكيه وهو يدعو بالعتق من النار، كلما ازداد تأثر جاري بما يسمع. بعد انتهاء الصلاة نظرت إليه؛ فإذا هو شاب في الثلاثينات من عمره، لاحظت أن عينيه مغرورقتان بدموع تسيل بقاياها على خديه، أعطيته منديلاً ورقياً ليمسح دموعه، أخذ مني المنديل ومسح به دموعه بصمت. بادرته بالقول: "دعاء الشيخ مؤثر"، أجابني بصوت متهدج: "لا تتصور كيف حرك مشاعري"، قلت مخففاً عنه: "واضح طبعاً!"، ابتسم ابتسامة خفيفة، وسألني: "هل صحيح أن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة من كل الذنوب؟"، قلت له: "ومَنْ غير الله يقبل توبة عباده؟"، ثم أردفت: "المهم الإخلاص في التوبة والصدق فيها، ورد المظالم إلى أهلها كلما أمكن ذلك"، قال وكأنما يحدث نفسه: "اللهم أنت تشهد على صدق نيتي وإخلاصي في توبتي"، قلت له: "أبشر، فقد قبل الله توبتك"، رد متسائلاً: " وما أدراك أنه قبلها؟"، قلت: "ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾؟"، تغير شكل وجهه وبدا متهللاً، سألني بصوت منخفض: "وماذا لو كانت هذه الذنوب من الكبائر؟"، قلت له: "يقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾"، ظهرت على وجهه علامات السكينة والطمأنينة، وقال: "ما أكرمه سبحانه وتعالى وما أحلمه، آهٍ لو تعلم ما كنت عليه من المعاصي والذنوب. كم زين لي الشيطان سبل الغواية والانحراف ولا أدري كيف كنت مستسلماً له، هل تتصور يا أخي أني لم أكن أصلي، وكان صيامي نوماً طوال النهار حتى موعد الإفطار، لم أفكر يوماً في قيام الليل فقد كنت مدمناً على مشاهدة الأفلام أنتقل من قناة إلى أخرى لأشاهدها طوال الليل وحتى قرب الفجر، ولا تسألني عن نوعها، فالقمر الأوروبي والقنوات المشفرة تعرض تلك الأفلام التي كنت أشاهدها، فإذا حدث وسألت نفسي ولو للحظات هل ما أنا عليه يرضي الله سبحانه وتعالى؟ كان رد الشيطان جاهزاً: <الدين المعاملة، وربك رب قلوب وأنت لا تؤذي أحداً بما تفعل، وإن كان ضميرك يؤنبك لعدم الصلاة ففي العمر متسع، استمتع بوقتك الآن ثم تُب فيما بعد، والله تواب رحيم، أما عن تلك الأفلام التي تشاهدها فأنت لست ملاكاً وكثير من الشباب يفعل مثلك>. هكذا كان الشيطان يزين لي. الأسوأ هم أصدقائي؛ الذين كانوا يسخرون مني لو أردت أن أمتنع عن طريق الحرام"، قلت مقاطعاً: "هذه أمور أصبحت من الماضي، اتركها وراء ظهرك، انظر لحياتك الجديدة كم هي نظيفة طاهرة"، قال مؤكداً: "لم أحس في حياتي كلها براحة وطمأنينة إلا بعد أن مَنَّ الله علي بالهداية"، قلت له: "صدق الله العظيم إذ يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِـحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، فهنيئاً لك الحياة الطيبة، وهنيئاً لك الأجر الرباني العظيم الذي يدخره لك الله سبحانه وتعالى في الآخرة، المهم الثبات، وعدم الانتكاس"، قال بثقة: "لا تخش علي، فقد انشرح صدري وتذوقت (حلاوة الإيمان) وأحسست بلذة لا تعادلها لذة أخرى، لست على استعداد أن أخسر نفسي بعد أن عرفت طريق الحق. أرجوك، لا تحرمني من دعواتك الطيبة"، قلت: "لك ذلك، لكنك لم تكلمني عن السبب المباشر لهدايتك"، قال وهو ينصرف: "فليكن هذا موضوع حديثنا في لقاء قادم إن قدر الله وشاء"، وتركني ومضى دون أن نتبادل أرقام هواتفنا، بل ومن غير أن يعلم أي منا اسم الآخر!.
أحبتي في الله .. ما أروع تلك اللحظة الإيمانية الصافية الصادقة التي تبدل حياة الإنسان تبديلاً كاملاً، وتنتقل به من حال إلى حال، وتجعله فرحاً سعيداً بعد أن كان مكتئباً ذليلاً مما يحمل من أوزار وآثام.
أحبتي .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً]، كما قال: [ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يَكْرَهَ الْعَبْدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الإِسْلاَمِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ، وَأَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ الْعَبْدَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ ِللهِ، عَزَّ وَجَلَّ].
و(حلاوة الإيمان) لا يحسها ولا يعايشها أي أحد، إلا من تاب توبة نصوحاً؛ يقول أحدهم من شدة سروره بتلك النعمة: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف". وقال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبَّة الله تعالى ومعرفته وذكره". يقول ابن تيمية: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة". وقال أيضاً: "ليس للقلوب سرور ولا لذَّة تامة إلا في محبة الله والتقرُّب إليه بما يحبه، والإعراض عن كلِّ محبوبٍ سواه".
إنها (حلاوة الإيمان)، أدعو إخواننا في الدين، اللاهية قلوبهم عن ذكر الله، أن يبادروا بالعودة إلى طريق الحق ولا يُسَوِّفوا فيطول عليهم الأمد فتقسوا قلوبهم، وليتدبروا الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾. اللهم اكتب لهم (حلاوة الإيمان)، كذلك كنا من قبل فمَنَّ الله علينا، إنها حلاوة لا توصف، وهي لذة في القلب لا تدانيها لذة من لذات الدنيا الحسية.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/h95aX4