الجمعة، 10 مارس 2023

فضيلة التغافل

 

خاطرة الجمعة /386


الجمعة 10 مارس 2023م

(فضيلة التغافل)

 

يقول رجلٌ: ركبتُ سيارة أجرة ذات يومٍ متجهاً إلى المطار، وبينما كان سائق السيارة مُلتزماً بمساره الصحيح، قفزت سيارةٌ من موقف السيارات بشكلٍ مُفاجئٍ أمامنا؛ ضغط السائق بقوةٍ على المكابح، لتنزلق السيارة وتتوقف قبل لحظاتٍ من الاصطدام. أدار سائق السيارة الأخرى رأسه نحونا وانطلق بالصُراخ تجاهنا، لكن سائق سيارة الأجرة ابتسم ولوّح له بود. استغربتُ جداً مما فعله وسألته: "لماذا فعلتَ ذلك؟ هذا الرجل كاد يُرسلنا للمستشفى برعونته"، هنا لقنني السائق درساً، أصبحتُ أُسميه فيما بعد «قاعدة شاحنة النفايات»، قال: "كثيرٌ من الناس مثل شاحنة النفايات، تدور في الأنحاء محملةً بأكوام النفايات؛ الإحباط، الغضب، وخيبة الأمل، وعندما تتراكم هذه النفايات داخلهم يحتاجون إلى إفراغها في مكانٍ ما، في بعض الأحيان يحدث أن يُفرغوها عليك، لا تأخذ الأمر بشكلٍ شخصيٍ، فقد تَصادف أنك كنتَ تمر لحظة إفراغها، فقط ابتسم، لوّح لهم، وتمنَ أن يُصبحوا بخير، ثم انطلِق في طريقك، احذر أن تأخذ نفاياتهم تلك وتُلقيها على أشخاصٍ آخرين في العمل، في البيت أو في الطريق!".

صدق هذا السائق؛ ففي النهاية، الأشخاص الناجحون لا يدعون شاحنات النفايات تستهلك يومهم، فالحياة أقصر من أن نُضيعها في الشعور بالأسف على أفعالٍ ارتكبناها في لحظة غضبٍ؛ لذلك، أُشكر من يعاملونك بلطفٍ، وادعُ لمن يُسيئون إليك، وتذكر دائماً: حياتك محكومةٌ 10% بما تفعله، و90% بكيفية تقبلك لما يجري حولك.

(فضيلة التغافل) أدبٌ عظيمٌ، وخُلُقٌ شريفٌ تأدب به الحُكماء، ونوَّهَ بفضله العُلماء، فيجب على صاحب المروءة أن يتغافل ويتجاوز عن أهله وأصحابه وموظفيه إن هُم قصروا بشيءٍ ما، فلا يستقصي مكامن تقصيرهم فيُبرزها لهم ليلومهم ويحاججهم عليها، ولا يُذكّرهم بحقوقه الواجبة عليهم تجاهه عند كل زلةٍ، وإنما يتغافل عن اليسير وهو يعلمه.

 

أحبتي في الله.. يحكي القرآن الكريم عن قمة الرُقي في التغافل، فيقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ إنها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، دعته للتغافل عن بعض الأمور، كرماً منه صلى الله عليه وسلم، وحلماً، ودرساً لنا للتعامل في مثل هذه المواقف. وفي درسٍ آخر منه عليه الصلاة والسلام؛ كان كفار قريشٍ يشتمونه وينادونه مُذمماً، فما كان منه إلا أنه قال: [أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؟! يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ].

أما عن يوسف عليه السلام فيصور القرآن الكريم تغافله؛ يقول تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾؛ فهو يتغافل عن اتهامه بالسرقة لأنه يُريد حب إخوته وكسب قلوبهم، مع قدرته على الرد، فالتغافل قوةٌ وليس ضعفاً، وأصحاب النفوس الراقية والهمم العالية يتغافلون لأن التغافل من شيم الكرام.

 

وحيث أن (فضيلة التغافل) مهمةٌ ومفيدةٌ، فإن عدم التغافل قد يكون ثمنه كبيراً؛ يقول أحد الموظفين: عندما ترقيتُ إلى منصب مُدير كان من ضمن الموظفين عندي شابٌ نشيطٌ جداً، وناجحٌ في عمله، وكان يقوم بكل ما يُطلبُ منه بذكاءٍ وسُرعةٍ ودقةٍ، كما أنه يُحقق نسبةَ إنجازٍ عاليةً، لكنه كان لعوباً إلى حدٍ ما؛ فقد كان يُغادرُ مقرَّ عملهِ كثيراً بدون إذن، حتى أن إجازاتُه وأذوناتُه كانت أكثر من المُعتاد. ذاتَ مرةٍ تقدّم بطلب إجازةٍ ليُسافر مع أصدقائهِ في رحلةٍ لكنني رفضتها؛ فما كان منه إلا أن تقدَّم بإجازةٍ مرضيةٍ، واتصل مُدعياً المرض مُعتذراً عن الحضور. ولأنني أعرف أنه ليس مريضاً ذهبتُ صباحاً وانتظرتُه باكراً أمام منزله، ثم قابلته وهو يحمل عدّة الرحلات، كاد الموظف يذوبُ خجلاً، ووجههُ يتقلّب بين الخجلِ والحرج للأسف، بينتُ له أنه لا يستطيع خِداعي، وأنني لستُ بتلك السذاجة التي يظنُّها، وبرهنتُ له أنه كاذبٌ، وخصمتُ عنه أجرَ ذلك اليوم مُضاعفاً. لكن حصل بعد ذلك بعدة أيامٍ أن تقدَّم الشابُّ باستقالته. من جهتي خسرتُ جُهده ونسبةَ الإنجاز العالية التي كان يُحققها، ولم يعُد بالإمكان أن أرفع لإدارتي العليا نسبَ الإنجاز السابقة، وصرتُ بحاجةٍ للبحث عن شابٍ يُمكنه أن يُحقِّق ذات الإنجاز، وهُم قليلون. لقد كان غباءً منقطعَ النظير مني، فما الذي استفدتُه من ذلك؟ يومها اكتشفت أنَّ بعض ما نخسره في حياتنا يكون بسبب التضييق على الآخر، وإغلاق منافذ الهروب أمامه ما يجعله أمام خيارين: إما أن يهربَ مِنك وتَخسره، أو يتخذك عدواً فيكيد لك ويدعو عليك ويتراجع نشاطه كنوعٍ من الدفاع عن النفس، وفي كلتا الحالتين ستكونُ خاسراً، لذلك فمن الأفضل أن تسمحَ لخصمك -ببعض التغافل- أن يتراجَع، وتفتحَ له طريقاً يخرجُ منه كريماً فيحترمُك، بدل أن تُحرجه فيُعادِيك. لابد أن تكسب الجميع بنوعٍ من التغافل الذكي والتجاوز، وذلك ليس غباءً، بل هو مُنتهى الذكاء والفطنة.

 

قال أهل العلم إنّ (فضيلة التغافل) عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإن الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلةٍ وخطيئةٍ تعب وأتعب غيره، والعاقل الذكي من لا يُدقق في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ مع أهله وأحبابه وأصحابه وجيرانه؛ ولهذا قيل: "تسعة أعشار حُسن الخُلُق في التغافل". وقيل: "الكيس العاقل هو الفطن المتغافل". وقيل: "التغافل فنٌ من فنون التعامل مع الناس لا يُحسنه إلا الكرام الأفاضل ذوو المروءة، ولا يتقنه إلا كل حليم". وقيل: "التدقيق في أتفه التصرفات قد يهوي بك إلى الجنون، لذا تغافل مرةً وتغابى مرّتين!". وقيل أيضاً: "من المروءة التغافل عن عثرات الناس وإشعارهم أنك لا تعلم لأحدٍ منهم عثرة". وقيل كذلك: "لا تكن كمن يُفتش عن أخطاء الآخرين وكأنه يبحث عن كنز؛ فالتغافل عن أخطاء الآخرين أرقى شيم المكارم".

كما قيل: (فضيلة التغافل) هي أن تغض الطرف عن الهفوات، وألا تُحصي السيئات، وأن تترفع عن الصغائر، ولا تُركِّز على اصطياد السلبيات، فالتغافل فنٌ راقٍ لا يتقنه إلا محترفو السعادة.

التغافل إذاً أساس السعادة؛ فهو الذي يُقلل الرغبة في الصدامات والمشاحنات، أو التفكير في الانتقام، أو الانشغال بالردود على هذا وذاك. ويوفر صحةً جيدةً، وعلاقاتٍ هادئةً، بعيدةً عن الاستفزازات والمُهاترات، ويجعل الناس قلوبهم بيضاء، ونياتهم صافية، يعرفون معنى الحب والعفو والصفح والتسامح، ويُقدِّرون حقوق القرابة والصداقة والجيرة ويُحافظون عليها.

 

قال الشاعر:

لَيْسَ اَلْغَافِلُ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ

لكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَافِلُ

وقال آخر:

وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ

وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ

وَمَنْ يَتَطَلّـَبْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ

يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ

وقال ثالث:

أُحبُ من الإخوانِ كلَ مواتي

وكلَ غضيضِ الطرفِ عن هفواتي

 

أحبتي.. (فضيلة التغافل) من فضائل المؤمنين، ومن شيم الأذكياء، ومن أخلاق كبار النفوس؛ يتجاهلون أخطاء وزلات غيرهم وهم يعلمون، بل ويُظهرون أنهم لا يعلمون! والتغافل في مواقف كثيرةٍ يكون هو العقل ومنتهى الحكمة والمروءة؛ فلنتغافل ونغض الطرف عن الهفوات والأخطاء في كل معاملاتنا، وفي أغلب مواقف حياتنا. وأحق الناس بالتغافل وغض الطرف عن أخطائهم الصغيرة وزلاتهم غير المقصودة أقرب الناس إلينا وأكثرهم احتكاكاً بنا، ويكفي أن من ثمرات التغافل دوام المودة والعشرة والصلات الطيبة سواءً بين الأزواج أو بين الوالدين والأبناء أو الأقارب أو الأصدقاء، وسلامة الصدر من الأحقاد.

اللهم اغفر لنا ولكل من تغافل عن أخطائنا وللمؤمنين والمؤمنات. اللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.

 

https://bit.ly/3mC7zRv