الجمعة، 30 أبريل 2021

نور الهداية

 

خاطرة الجمعة /289


الجمعة 30 إبريل 2021م

(نور الهداية)

 

فنانةٌ صار لها أكثر من عشرين عاماً في مجال الدعوة إلى الله، ارتبط اسمها بالفنانات التائبات، وكان لها دورٌ دعويٌ بينهن، روت قصة توبتها فقالت:

درستُ في إحدى المدارس التبشيرية، ثم تخرجتُ في قسم الصحافة بكلية الآداب، عشتُ مع جدتي والدة فنانٍ معروفٍ؛ فهو عمي. كنتُ أجوب طرقات حي «الزمالك»، وأرتاد النوادي وكأنني أستعرض جمالي أمام العيون بلا حرمةٍ تحت مسمى التحرر والتمدن. وكانت جدتي العجوز لا تقوى عليّ، بل حتى أبي وأمي. كنتُ في غيبوبةٍ عن ديني، لا أعرف من الإسلام سوى اسمه. ‏لكنني برغم المال والجاه كنتُ أخاف من شيءٍ ما؛ أخاف من مصادر الغاز والكهرباء، وأظن أن الله سيحرقني جزاء ما أنا فيه من معصيةٍ، وكنتُ أقول في نفسي إذا كانت جدتي مريضةً وهي تُصلي، فكيف أنجو أنا من عذاب الله غداً؟ فأهرب بسرعةٍ من تأنيب ضميري بالاستغراق في النوم أو الذهاب إلى النادي.

عندما تزوجتُ، ذهبتُ مع زوجي إلى «أوروبا» لقضاء ما يُسمى بشهر العسل، وكان مما لفت نظري هناك أنني عندما ذهبتُ إلى «الفاتيكان» في «روما» وأردتُ دخول المتحف البابوي أجبروني على ارتداء البالطو أو الجلد الأسود على الباب؛ هكذا يحترمون ديانتهم .. وهنا تساءلتُ بصوتٍ خافتٍ: "فما بالنا نحن لا نحترم ديننا"؟! وفي أوج سعادتي الدنيوية المزيفة قلتُ لزوجي: "أريد أن أصلي شكراً لله على نعمته"، فأجابني: "افعلي ما تريدين، فهذه حريةٌ شخصية"! وأحضرتُ معي ذات مرةٍ ملابس طويلةً وغطاءً للرأس ودخلتُ المسجد الكبير في «باريس» فأديتُ الصلاة، وعند خروجي من باب المسجد أزحتُ غطاء الرأس وخلعتُ الملابس الطويلة وهممتُ أن أضعها في الحقيبة، وهنا كانت المفاجأة؛ اقتربت مني فتاةٌ فرنسيةٌ ذات عيونٍ زرقاء، لن أنساها ما حييت، ترتدي الحجاب، أمسكت يدي برفقٍ وربتت على كتفي، وقالت بصوتٍ منخفضٍ: "لماذا تخلعين الحجاب؟!

ألا تعلمين أنه أمر الله"!! كنتُ أستمع لها في ذهولٍ، والتمست مني أن أدخل معها المسجد بضع دقائق، حاولتُ أن أُفلت منها لكن أدبها الجم، وحوارها اللطيف أجبراني على الدخول. سألتني: "أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ أتفهمين معناها؟ إنها ليست كلماتٍ تُقال باللسان، بل لابد من التصديق والعمل بها"؛ اهتز قلبي، وخضعت مشاعري لكلماتها ثم صافحتني قائلةً: "انصري يا أختي هذا الدين". لقد علمتني هذه الفتاة درساً في حياتي لن أنساه أبداً، خرجتُ من المسجد وأنا غارقةٌ في التفكير لا أحس بمن حولي، ثم صادف هذا اليوم أن صحبني زوجي في سهرةٍ إلى مكانٍ إباحيٍ يتراقص فيه الرجال مع النساء شبه عرايا، ويفعلون كالحيوانات، بل إن الحيوانات لتترفع من أن تفعل مثلهم، كرهتهم وكرهتُ نفسي الغارقة في الضلال، لم أنظر إليهم، ولم أحس بمن حولي، وطلبتُ من زوجي أن نخرج حتى أستطيع أن أتنفس، ثم عدتُ فوراً إلى «القاهرة»، وبدأت أولى خطواتي للتعرف على الإسلام.

وعلى الرغم مما كنتُ فيه من زخرف الحياة الدنيا إلا أنني لم أعرف الطمأنينة والسكينة، لكني أقترب إليها كلما صليتُ وقرأتُ القرآن. واعتزلتُ حياة الجاهلية التي كنتُ أعيشها، وهجرتُ حياة النوادي وسهرات الضلال، وعكفتُ على قراءة القرآن ليلاً ونهاراً، وأحضرتُ كتب ابن كثيرٍ وغيره؛ كنتُ أنفق الساعات الطويلة في حجرتي للقراءة بشوقٍ وشغفٍ، قرأتُ كثيراً، وبدأتُ أتعرف على أخواتٍ مسلمات. رفض زوجي في بداية الأمر بشدةٍ حجابي واعتزالي لحياتهم الجاهلية، لم أعد أختلط بالرجال من الأقارب وغيرهم، ولم أعد أصافح الذكور، وكان امتحاناً من الله، لكن أولى خطوات الإيمان هي الاستسلام لله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليّ مما سواهما. وحدثت مشاكل كادت تُفرق بيني وبين زوجي، ولكن الحمد لله فرض الإسلام وجوده على بيتنا الصغير، وهدى الله زوجي للإسلام، وأصبح الآن خيراً مني، داعيةً مخلصاً لدينه، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً. وبرغم المرض والحوادث الدنيوية، والابتلاءات التي تعرضنا لها فنحن سعداء ما دامت مصيبتنا في دنيانا وليست في ديننا.

 

أحبتي في الله .. يقول أحد العلماء تعليقاً على هذه القصة: من هذه القصة نأخذ دروساً وعظاتٍ وعبراً، منها أن حال هذه المرأة التائبة نموذجٌ لحال كثيرٍ من المسلمين والمسلمات الغارقين في بحار الظلمات والشهوات، البعيدين عن منهج الله سبحانه وتعالى، وهُم في أمسِّ الحاجة إلى من يُذكِّرهم بالله سبحانه، ويدلهم على شرعه وهديه، وهذا الأمر يؤكد لنا ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين حثنا عليهما القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

ومنها عدم احتقار أي جهدٍ يُبذل في سبيل دعوة الناس إلى الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ويتضح ذلك من خلال ما قالته الفتاة الفرنسية من كلماتٍ قليلةٍ كانت بمثابة (نور الهداية)، وسبباً في عودة امرأةٍ مسلمةٍ كانت غارقة في الملذات والشهوات إلى دين ربها، تلك الكلمات غيرت مجرى حياة المرأة رأساً على عقب، وتعدى هذا التغيير إلى زوجها فأصبح داعيةً إلى الله سبحانه وتعالى.

ومنها ضرورة العمل على إيقاظ الضمير ومخاطبة القلوب التي غطت عليها أغشية المعاصي، فهذه المرأة من خلال قصتها نرى أنها مع ما كانت فيه من سوء الحال إلا أنها كانت تخاف من الله أن يعذبها، وتطلب من زوجها أن يتركها تصلي، وتستنكر ما تفعله مقابل تمسك النصارى بشعائرهم، وهي مسلمةٌ ولكنها قد تخلت عن قيمها وشعائر دينها.

ومنها أن تفريط الراعي يُضَيِّع الرعية، فهذه المرأة لم يُحسِن الأبوان تربيتها، ولم يرعياها كما أمر الله، وانتقلت إلى زوجها فأضافت إلى ضياعها ضياعاً آخر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ عبدٍ يسترْعيه اللهُ رعيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ، وهوَ غاشٌّ لرعِيَّتِهِ، إلَّا حرّمَ اللهُ عليْهِ الجنَّةَ].

ومنها بيان أثر الرفق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرفق الفتاة الفرنسية ترك الأثر البالغ في قلب المرأة العائدة إلى الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ]، وقال: [إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ].

ومنها أهمية الحرص على حُسن الخطاب وجودة الأسلوب الذي تميزت به الفتاة الفرنسية؛ ويظهر في خطابها الجميل وأسلوبها الرائع الذي أسرت به قلب أختنا التائبة.

 

يتعرض القرآن الكريم إلى (نور الهداية) في عدة مواضع منها قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾؛ فالله سبحانه وتعالى نورٌ، والنور نوره، وهو الهادي إليه. ويقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ فالنور هو كتاب الله يهدي به من يشاء. ويقول تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ فالنور هنا مقرونٌ بالقرآن الكريم يهدي به من اتبع رضوانه، ويُخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم.

والمفلحون حقاً هم الذين هداهم الله لنوره، وأورثهم الجنة بما كانوا يعملون، تجدهم آنذاك يقولون: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾.

 

أحبتي .. إنه (نور الهداية) يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده؛ فيَرِق قلبه بعد قسوةٍ، وتدمع عيناه بعد طول جفاف، وتخف عليه الطاعة بعد ثِقَل؛ كأنما وُلد من جديد. هو (نور الهداية) عندما يشع في قلب الإنسان يُغيِّر حياته تغييراً شاملاً، ويضعه على بداية الطريق القويم، والصراط المستقيم؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.

اللهم أنر قلوبنا بنورك واجعلنا من المهتدين. اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، بالقدوة الحسنة والكلمة الطيبة التي تأسر القلوب، عسى الله أن يوفقنا إلى هداية الغير فننال عظيم الأجر وجزيل الثواب؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ].

 

https://bit.ly/3xCx85V