الجمعة، 26 فبراير 2021

العودة إلى الله

 

خاطرة الجمعة /280


الجمعة 26 فبراير 2021م

(العودة إلى الله)

 

كتب قصته وأرسلها إلى صحيفةٍ يوميةٍ تنشر بريد القراء في عددها الأسبوعي الذي يصدر كل يوم جمعة، وأقدمها لكم مختصرة. يقول الكاتب:

جئتُ أنا وزوجتي إلى «لندن» في أوائل السبعينات، وتعاونا في بناء أسرتنا الصغيرة، وكافحنا كفاحاً شاقاً لتأمين مستقبل أسرتنا الصغيرة، إلى أن استقرت بنا الأحوال، وصار لدي مشروعٌ تجاريٌ خاصٌ بي، وشقةٌ صغيرةٌ جميلة. أنجبنا طفلتنا فأضافت إلى حياتنا لمساتٍ من البهجة، والتحقتْ بالمدرسة وأظهرتْ تفوقاً واضحاً، ثم أنجبنا طفلي الوحيد، واكتملت أسرتنا الصغيرة السعيدة واستقرت أوضاعنا المالية.

خلال ذلك واصلتْ ابنتي تقدمها في دراستها حتى دخلتْ المرحلة الثانوية، وبدأتْ تستعد لتحقيق حلمها الكبير في الشهادة الجامعية. لاحظتُ ذات يومٍ أن رقبتها منتفخةٌ بعض الشيء؛ فعرضتها على أطباء مستشفىً كبيرٍ، فلم يكشف الفحص الأول عن شيءٍ؛ فتم احتجازها في المستشفى لإجراء الفحوص والأشعات والتحاليل لكل جزءٍ في جسمها. لكننا فوجئنا بتدهورٍ سريعٍ وعجيبٍ في صحتها وقواها، وكانت تنتقل من سيءٍ إلى أسوأ؛ فبدأتْ تفقد سيطرتها على عملية الإخراج، ثم فقدتْ القدرة على تحريك ذراعيها وساقيها، ثم فقدتْ القدرة على الكلام والبلع وتناول الطعام أو الشراب، وبدأتْ تفقد بعد ذلك ذاكرتها؛ فلا تكاد تتعرف عليّ أو على أمها، ثم وصلتْ حالتها إلى الحضيض؛ فلازمتْ الفراش في العناية المركزة مفتوحة العينين لا تعي شيئاً ولا تُحس بشيءٍ من حولها؛ فقد راحت ضحيةً لمرضٍ نادرٍ غامضٍ اسمه "لوباس" أو اختلال جهاز المناعة في الجسم، وهو يؤدي إلى أن يُحارب جهاز المناعة الجسم ويُهاجم أعضاءه بدلاً من أن يُدافع عنه. قام الطبيب المعالج بتغيير البلازما الملوثة بڤيروس "لوباس" القاتل في دمها كله ببلازما جديدةٍ نظيفةٍ منه. وزاد من همي أن ابني الذي يبلغ من العمر تسع سنواتٍ قد انتابته هو الآخر حالةٌ غريبةٌ؛ فراح يأكل بلا وعي ويزداد وزنه بشكلٍ مخيفٍ، ويسألني أسئلةً تُعبر عن مخاوفه من المستقبل، وأصبح في حاجةٍ إلى علاجٍ نفسي. انفجرتُ في البكاء وأنا أحس بأن أسرتي تنهار أمامي. في هذه الفترة أكد لي كل مَن قابلتهم مِن الأطباء أنه لا أمل في نجاة ابنتي من المصير المحتوم.

في وسط هذه الأفكار السوداء ذهبتُ إلى المسجد الكبير الذي كنتُ أؤدي فيه من حينٍ لآخر صلاة الجمعة، فسمعتُ الخطيب يروي الحديث القدسي، عن الله سبحانه وتعالى، الذي منه: "وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"؛ فصرختُ في المسجد: "يا ربِ أتيتك هرولةً فاقبلني في عبادك التائبين، واعفُ عن ابنتي، أو فارحمها وعجل بنهايتها"، ولم أبالِ بنظرات المصلين. واظبتُ على الصلاة من يومها، وبدأتُ أستشعر سكينةً غريبةً وأنا ساجدٌ لربي أصلي، لم أكن أحس بمثلها من قبل، وازدادت سكينتي حين سألتُ الطبيب الكبير: "ألا من أملٍ في شفاء ابنتي ذات يوم"؟ فأجابني بصراحةٍ بأنه كان يتوقع لها الموت قبل ذلك لكنها لم تمت في الموعد الذي توقعه فتجدد الأمل لديه، ثم حدثت لها نكسةٌ أخرى وتوقع وفاتها في موعدٍ آخر فنجت منها أيضاً، وأضاف أن ذلك كله لا علاقة له بالطب، لكن ربما يكون لإرادتها القوية في الحياة أثرٌ في اجتيازها لهذه المحن المتتالية.

شعرتُ في هذه اللحظة فقط بأن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عن ابنتي، ولن يُسلمني لليأس من رحمته، وعند زيارتي للمستشفى فوجئتُ بزوجتي في حالةٍ معنويةٍ عاليةٍ؛ فما إن رأتني حتى صاحت في وجهي بأن ابنتنا قد تكلمتْ، نعم تكلمتْ في الليل ونطقتْ بضع كلماتٍ ثم عادت للصمت والذهول. الله أكبر؛ إذن فهناك أملٌ في أن تعود لحالتها الطبيعية ذات يومٍ بعد شهورٍ من الرقاد بلا حراك ولا كلام. ثم بدأتْ الأخبار السعيدة تتوالى من حينٍ لآخر، ومن أتفه الأشياء كنا نستشعر الأمل في الله؛ لقد تأوهتْ، لقد بدا على وجهها تعبيرٌ يوحي بأنها تعرف أمها، لقد بدتْ كما لو كانت تريد الكلام أو طلب شيء، لقد أدارت وجهها يميناً وشمالاً ترقب المكان! وشيئاً فشيئاً بدأتْ ابنتي – بعد أربعة شهورٍ قاسيةٍ – تستعيد وعيها وتتعرف علينا، ويوم تعرفتْ عليّ لأول مرةٍ سالت الدموع من عينيّ كالمطر، ويوم تحدثتْ إليّ كنتُ أرقص من الفرح. قال لي الطبيب بعدها إن علاج ابنتي بالأدوية قد انتهى عند هذا الحد، وإن الأمل في استعادتها لقدرتها على الحركة والمشي معقودٌ على العلاج الطبيعي الطويل، وإنه حتى إذا لم يتحقق ذلك فإن ما حدث يُعد معجزةً لا علاقة لها بالطب، ولا يستطيع هو نفسه أن يفسرها، خصوصاً فيما يتعلق بذاكرتها التي بدأتْ تستعيدها تدريجياً برغم إصابتها المتكررة في المخ.

سجدتُ لربي حامداً له وشاكراً وأنا لا أصدق نفسي، ونقلنا ابنتنا إلى مستشفى العلاج الطبيعي، وهناك توالت المعجزات الإلهية؛ فقد بدأتْ تستعيد قدرتها على تحريك ذراعيها، ثم ساقيها، ثم استعادت ذاكرتها بقوةٍ، وبعد ثلاثة شهورٍ أخرى غادرت المستشفى تمشي على قدميها، وقد استعاد جسمها وظائفه كلها، ما عدا أصابع يدها اليمنى التي لا تستطيع الانقباض والإمساك بالقلم من تأثير إصابات المخ.

أحسستُ بأن الله سبحانه وتعالى قد أخرجنا من ظلمات اليأس والخوف إلى النور من جديد. وسوف تبدأ ابنتي دراستها في سبتمبر القادم، بعد أن ضاع عليها عامٌ دراسيٌ، وستؤدي الامتحان بالكتابة على الكمبيوتر، وليس بالقلم بسبب حالة يدها اليمنى. كما مَنَّ علينا الله بفضله؛ إذ عاد ابني إلى ما كان عليه قبل مرض أخته، ولم يعد بحاجةٍ إلى العلاج النفسي. فماذا أقول بعد كل ذلك سوى: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر"؟

لقد أردتُ أن أروي قصتي للمهمومين، وللمرضى وأقول لهم: ﴿لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾، ولا تفقدوا الأمل فيه أبداً، مهما كانت شدة الظلام، عودوا إلى الله بإخلاصٍ، وأحسنوا الظن به؛ فليس بالطب وحده يشفى الإنسان.

 

أحبتي في الله .. يقولُ اللَّهُ تَعالَى في الحديث القدسي: {أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ].

إنها (العودة إلى الله)؛ وكما يقول أحد العلماء إن الله عزَّ وجلَّ، بحكمته البالغة، يبتلى عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، وبالنعم والنقم، ليمتحن صبرهم وشكرهم، فمن صبر عند البلاء، وشكر عند الرخاء، وضرع إلى الله سبحانه عند حصول المصائب، يشكو إليه ذنوبه وتقصيره ويسأله رحمته وعفوه، أفلح كل الفلاح وفاز بالعاقبة الحميدة؛ يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾، والمقصود بالفتنة في هذه الآية الاختبار والامتحان حتى يتبين الصادق من الكاذب، والصابر والشاكر. كما يقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، والمقصود بالخير وبالحسنات نعم الله من الخصب والرخاء والصحة والعزة، والنصر على الأعداء ونحو ذلك، أما الشر والسيئات فالمقصود بهما المصائب؛ كالأمراض وغيرها، وأنه سبحانه قدَّر الشر والخير، والحسنات والسيئات، ليرجع الناس إلى الحق، ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم، ويسارعوا إلى طاعة الله ورسوله، و(العودة إلى الله) لأن الكفر والمعاصي هما سبب كل بلاءٍ وشرٍ في الدنيا والآخرة. وقد بيَّنَ سبحانه أن الذنوب والمعاصي هي سبب المصائب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾، وأمر عباده بالتوبة، والضراعة إليه عند وقوع المصائب؛ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وفي هذا حثٌ من الله سبحانه لعباده وترغيبٌ لهم -إذا حلت بهم المصائب- في (العودة إلى الله)، وأن يتضرعوا إليه فيسألوه العون، ثم بيَّن سبحانه أن قسوة قلوبهم، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة، كل ذلك بسبب صدهم عن التوبة والضراعة والاستغفار.

 

وعن (العودة إلى الله) يقول الشاعر:

قُلْ لِلَّذِي أَلِفَ الذُّنُوبَ وأَجْرَمَا

وغَدا على زلاتهِ مُتَنِدِمًا

لا تَيْأسَنْ واطلب كريمًا دائِمًا

يُوْلِي الجَميل تَفَضُلاً وتكرُّمًا

يا مَعْشرَ العاصينَ جُوْدٌ واسعٌ

عند الإلهِ لِمنْ يتوبُ ويَنْدَمَا

يا أيُّها العبدُ المُسيْء إلى متى

تُفْني زمانكَ في عسى ولَرُبَّمَا؟

بادِرْ إلى موْلاكَ يا مَن عُمْرُه

قد ضاعَ في عصيانهِ وتَصَرَّمَا

واسألهُ توفيقًا وعفوًا ثمَّ قلْ:

يا ربِّ بصّرْنِي وزلْ عَنِّيْ العَمَا

 

أحبتي .. أختم بما كتبه عالمٌ جليلٌ ناصحاً؛ كتب يقول: يا معشر المسلمين حاسبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم واستغفروه، وبادروا إلى طاعته، واحذروا معصيته، ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، وأعدوا العدة الصالحة قبل نزول الموت، وارحموا ضعفاءكم، وواسوا فقراءكم، وأكثروا من ذكر الله واستغفاره، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لعلكم تُرحمون، واعتبروا بما أصاب غيركم من المصائب بأسباب الذنوب والمعاصي، والله يتوب على التائبين، ويرحم المحسنين، ويُحسن العاقبة للمتقين؛ يقول سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

 

اللهم رُدنا إليك رداً جميلاً، واجعلنا من الصابرين ومن المتقين، وأحسن عاقبتنا، واجعلنا اللهم ممن يعتبرون بغيرهم، ويبادرون إلى (العودة إلى الله)، وثبتنا بعد العودة إليك حتى لا نكون ممن وصفتهم في كتابك الكريم: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا ربنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/3bN7Msa