الجمعة، 11 نوفمبر 2022

الكلمة الطيبة

 

خاطرة الجمعة /369


الجمعة 11 نوفمبر 2022م

(الكلمة الطيبة)

قام أستاذ مادة علم الاجتماع في جامعةٍ ماليزيةٍ بتكليف طلابه بمشروعٍ من مُتطلبات المادة، وهو إسعاد إنسانٍ واحدٍ طوال أربعة أشهرٍ هي مدة الفصل الدراسي، للحصول على الدرجة الكاملة في مادته. وفرض الأستاذ الماليزي على طلبته أن يكون هذا الإنسان خارج مُحيط أسرته، وأن يُقدم الطالب عرضاً مرئياً عما قام به في نهاية الفصل أمام زملائه. لم يكتفِ الأستاذ بذلك، بل اتفق مع شركةٍ ماليزيةٍ خاصةٍ لرعاية المُبادرة عبر تكريم أفضل عشر مُبادراتٍ بما يُعادل ألف دولارٍ أميركي.

في نهاية الفصل الدراسي نجح الطلاب بالحصول على الدرجة الكاملة، وقاموا -عن طريق التصويت- باختيار أفضل عشر مبادراتٍ بعد أن قدم جميع الطلاب عروضهم على مسرح الجامعة، وحضرها آباء وأمهات الطلبة الموجودين في كوالالمبور. نشرت هذه المُبادرات الإنسانية أجواء مُفعمةً بالمفاجآت والسعادة في ماليزيا وقتها، فالجميع كان يُحاول أن يُقدم عملاً إنسانياً مُختلفاً يرسم فيه السعادة على حياة غيره.

من بين الفائزين العشرة طالبٌ ماليزيٌ كان يقوم بوضع هديةٍ صغيرةٍ يومياً أمام باب شقة زميله في سكن الجامعة، وهو هنديٌ مُسلمٌ ابتعثه والده لدراسة الطب في ماليزيا. اختار الطالب هذا الطالب تحديداً لأنه شعر بأنه لا يمتلك أصدقاء أو ابتسامةً طوال مُجاورته له لنحو عامٍ، كان الطالب الهندي لا يتحدث مع أحدٍ، ولا أحد يتحدث معه، يبدو حزيناً وبائساً مما جعل زميله الطالب الماليزي يرى أنه الشخص المُناسب للعمل على إسعاده. أول هديةٍ كانت رسالةً صغيرةً وضعها تحت باب شقته كتبها على جهاز الكمبيوتر في الجامعة دون توقيع: "كنت أتطلع صغيراً إلى أن أُصبح طبيباً مثلك، لكني ضعيفٌ في مواد العلوم، إن الله رزقك ذكاءً ستُسهم عبره بإسعاد البشرية". في اليوم التالي اشترى الطالب الماليزي قُبعةً تقليديةً ماليزيةً ووضعها خلف الباب ومعها رسالة: "أتمنى أن تنال قبولك هذه القُبعة". في المساء شاهد الطالب الماليزي زميله الهندي يعتمر القُبعة، ويرتدي ابتسامةً لم يتصفحها في وجهه من قبل، ليس هذا فحسب بل وشاهد في حسابه في الفيس بوك صورةً ضوئيةً للرسالة الأولى التي كتبها له، وأخرى للقُبعة، التي وضعها أمام باب منزله، وأجمل ما رأى هو تعليق والد طالب الطب الهندي في الفيس بوك على صورة رسالته، والذي قال فيه: "حتى زملاؤك في الجامعة يرونك طبيباً حاذقاً، لا تخذلهم واستمر". دفع هذا التعليق الطالب الماليزي على الاستمرار في الكتابة وتقديم الهدايا العينية الصغيرة إلى زميله يومياً دون أن يكشف عن هويته! كانت ابتسامة الطالب الهندي تكبر كل يومٍ، وصفحته في الفيس بوك وتويتر تزدحم بالأصدقاء والأسئلة: "على ماذا ستحصل اليوم؟"، "لا تتأخر... نريد أن نعرف ما هي الهدية الجديدة؟".

تغيرت حياة الطالب الهندي تماماً، تحول من انطوائيٍ وحزينٍ إلى مُبتسمٍ واجتماعيٍ بفضل زميله الماليزي! بعد شهرين من الهدايا والرسائل أصبح الطالب الهندي حديث الجامعة، التي طلبت منه أن يروي تجربته مع هذه الهدايا في لقاءٍ جماعيٍ مع الطلبة، تحدث الطالب الهندي أمام زملائه عن هذه الهدية، وكانت المُفاجأة عندما أخبر الحضور بأن الرسالة الأولى، التي تلقاها جعلته يعدل عن قراره في الانصراف عن دراسة الطب، ويتجاوز الصعوبات والتحديات الأكاديمية والثقافية التي كان يتعرض لها.

لعب الطالب الماليزي دوراً محورياً في حياة هذا الطالب بفضل عملٍ صغيرٍ قام به. سيصبح الطالب الهندي طبيباً يوماً ما وسيُنقذ بإذن الله حياة العشرات، والفضل بعد الله لمن ربت على كتفه برسالةٍ حانية.

اجتاز الطالب الماليزي مادة علم الاجتماع، لكنه ما زال مُرتبطاً بإسعاد شخصٍ في كل فصلٍ دراسي، بعد أن لمس الأثر الذي تركه، اعتاد قبل أن يخلد إلى الفراش أن يكتب رسالةً أو يُغلِّف هديةً، بل واتفق مع شركة أجهزةٍ إلكترونيةٍ لتحويل مشروعه اليومي إلى عملٍ مؤسسيٍ يُسهم في استدامة المشروع واستقطاب مُتطوعين يرسمون السعادة في أرجاء ماليزيا.

 

أحبتي في الله.. إنها (الكلمة الطيبة) لها وقع السحر في النفوس؛ يقول أحدهم: «في زيارتي لعمتي ببيتها العامر، تذوقتُ الشاي فأعجبني؛ فقلت لها: "طعم الشاي جميل جداً"، فارتسمت الابتسامة على شفتيها، وبدا السرور يُضيء كالنور في وجهها».

ويقول آخر: «أذكر ذات مرةٍ أني ذهبتُ لإنجاز مُعاملةٍ، كان الموظف كئيباً وكأنه يحمل الدنيا كلها فوق رأسه، وقفتُ أمامه وهو يتعامل مع الأوراق بجفاءٍ شديد، كأن أحدهم سلب الابتسامة منه! قلتُ له: "قميصك جميل"، ابتسم تلقائياً وقال: "والله؟"، قلتُ: "والجاكيت أجمل"، تهلل وجهه ضاحكاً مُستبشراً، ثم بدأ الحديث معي والأخذ والرد، وكأن ذلك الشخص العابس قد رحل وجاء غيره وحلَّ مكانه!».

ويقول ثالث: «ذات مرةٍ كنتُ في المسجد، وحضر شابٌ وصلى بالناس إماماً، شدني صوته الحسن والجميل، انتظرتُ خروجه من المسجد ثم خرجتُ اتبعه وسلمتُ عليه بحرارةٍ، وقلتُ له: "ما شاء الله.. صوتك جميل جداً وتلاوتك رائعة لا يُشبع منها"، رسمت كلماتي البسيطة على وجهه ابتسامةً حلوةً عريضةً واسعةً».

 

السؤال: "ما الذي يمنعنا من أن نفعل ذلك مع كل الناس؟"، "لماذا غالبية الناس شحيحةٌ كل الشُح بالكلمة الحسنة، بخيلةٌ جداً في قولها، وهُم في المقابل سريعو الهجوم إذا ما وجدوا فرصةً سانحةً للانتقاص والنقد والتجريح؟!".

 

عن (الكلمة الطيبة) يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾. ويقول سبحانه: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.

و(الكلمة الطيبة) هي القول الحسن؛ يقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. وهي القول المعروف؛

يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾. وهي القول الميسور؛ يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾. وهي القول الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾. وهي القول اللين؛ يقول تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾. فيحق لنا أن نقول إن (الكلمة الطيبة) هي: "كل قولٍ حسنٍ معروفٍ ميسورٍ كريمٍ ولين".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [...والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ...].

كما قال: [إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ]. وقال أيضاً: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]. وقال كذلك: [إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظَاهِرِها] قيل: لمن هي يا رسول الله؟ قال: [لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وباتَ قائِمًا والناسُ نِيامٌ]. وكان -صلوات الله وسلامه عليه- يُحب البشارة ويُكثر من قول "أبشر" -وهي من الكلام الطيب- وفي الحديث الشريف: [بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا].

 

وقال العلماء (الكلمة الطيبة) إنّ الكلمة الطيبة تنقسم إلى قسمين: طيبةٌ بذاتها، وطيبةٌ بغاياتها. أما الطيبة بذاتها كالذكر؛ لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الذكر قراءة القرآن. وأما الكلمة الطيبة في غايتاها فهي الكلمة المُباحة؛ كالتحدث مع الناس إذا قصدتَ بهذا إيناسهم وإدخال السرور عليهم، مما يُقربك إلى الله عزَّ وجلَّ، إنها الكلمة التي تسر السامعين، وتؤلف القلوب، وتُحدث أثراً طيباً في نفوس الآخرين، وتفتح أبواب الخير، وتُغلِق أبواب الشر، وهي التي تُثمر عملاً صالحاً و﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾.

 

أحبتي.. (الكلمة الطيبة) مفتاحٌ للقلوب؛ فلا تحبسوا الكلام الطيب في قلوبكم أبداً؛ امدحوا واشكروا وادعو الله لمن تُحبون، وقولوا خيراً للجميع؛ فالكلام الطيب عبادةٌ وهداية.

اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، واجعل اللهم الكلام الطيب والقول الحسن سبيلنا إلى لَمّ الشمل ورأب الصدع وكسب الود وتأليف القلوب وتعزيز أواصر المحبة والمودة بين الناس، خاصةً المسلمين المأمورين بأن ﴿يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وأن يدخلوا السرور على نفوس الناس.

https://bit.ly/3hywm6C