الجمعة، 21 أبريل 2017

تبليس إبليس

الجمعة 21 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٨٠
(تبليس إبليس)

قال بلهجةٍ لا تخلو من التهكم وبانفعالٍ لم يستطع أن يخفيه: "العالم وصل القمر، وما زلنا نقول ادخل برجلك اليمين ولا تدخل برجلك الشمال!".
كان هذا ما قاله صاحبنا ونحن نناقش بهدوءٍ أسباب تخلف مجتمعاتنا الإسلامية رغم ما خصنا به الله سبحانه وتعالى من خيرية أشار إليها في قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
تعددت الآراء وتشعبت وذهب كلٌ منا إلى حيث يعتقد أنه سبب تخلفنا عن غيرنا من الأمم:
فمِن قائلٍ أن بُعْدنا عن العلم، وقد أُمرنا أن نأخذ به، هو السبب. ألم يمدح المولى عز وجل في آياتٍ كثيرةٍ في كتابه الكريم العلم والعلماء وحض على التفكر وإعمال العقل؟ ألم يحثنا الرسول الكريم على العلم والتعلم والتعليم في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة؟ فأين نحن من ذلك؟ هل اهتممنا بالعلم والتعليم والبحث العلمي والعلماء بالقدر الكافي؟
ومِن قائلٍ بأننا ابتعدنا عن واجباتٍ شرعيةٍ اشتملت عليها الآية الكريمة التي تخص أمتنا بأنها خير الأمم؛ فبقية الآية تضمنت هذه الواجبات: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه﴾، فأين نحن من هذه التوجيهات الربانية الثلاثة؟ هل نقوم بواجب الأمر بالمعروف على أتم وجه؟ هل نحن نهتم فعلاً بالنهي عن المنكر؟ هل نؤمن بالله سبحانه وتعالى كما ينبغي أن يكون الإيمان عقيدةً وعبادةً ومعاملاتٍ وأخلاقاً؟ بقدر اقترابنا من تحقيق هذه التوجيهات بقدر ما نكون خير الأمم.
تشعبت الأفكار واختلفت الرؤى في إطار من التكامل. لكن ما لم نختلف حوله هو استهجاننا لما قاله صاحبنا وتهكمه على سنة التيامن التي أمرنا بها رسولنا الكريم. أنكرنا عليه ما قال من حيث الشكل: فقد عرض رأيه بشكلٍ مستفزٍ لا يُخفي تهكمه وسخريته بل وازدراءه لهذه السنة المهجورة. ومن حيث المضمون: فإنه يربط ما بين التخلف الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وبين التمسك بسنةٍ من سنن النبي عليه الصلاة والسلام!.
عاتبنا صاحبنا، وأوضحنا له صراحةً رأينا فيما قال فاعتذر، وانتهى اللقاء كما ينتهي دائماً على وعدٍ بلقاءٍ آخر من لقاءات الخير.

أحبتي في الله .. خلْطُ الأمور عندما يكون مقصوداً فإنه يكون من (تبليس إبليس)، ولا يصدر ذلك إلا من جهات أو أفراد بينهم وبين الإسلام عداوة، لا يستطيعون التعبير عنها صراحةً فيلجأون إلى نشر عبارات أو قصص تحمل في ظاهرها الخير لكنها في باطنها تُضمر شراً بالإسلام وأهله. غالباً ما يبدأ الأمر بالاستخفاف ببعض المظاهر الإسلامية كالنقاب والحجاب واللحية والثوب القصير والتيامن وغير ذلك من مظاهر لها مرجعيتها في تشريعنا الإسلامي. وما قول صاحبنا: "العالم وصل القمر، وما زلنا نقول ادخل برجلك اليمين ولا تدخل برجلك الشمال!"، إلا نموذجاً لهذا الخلط المقصود؛ فما دخل تقدم الأمة أو تأخرها بتقديم الرجل اليمنى أو اليسرى؟ مثل هذا القول يعبر عن منهجيةٍ مغرضةٍ تستهدف ربط هذه المظاهر التي أمرنا بها المولى سبحانه وتعالى ورسولنا الكريم بكل ما هو سيء: التخلف والجهل والفساد والإرهاب وغير ذلك من مفردات ذات طابعٍ سلبي. ومع التكرار، وهو من آليات نشر هذا الفكر المغرض، تصبح مثل هذه المقولات بديهيةً لا تحتاج إلى مناقشةٍ عند البعض، بل ويذهب بعض المثقفين إلى نشرها والترويج لها.
بدأ الأمر بالحرب على حجاب المرأة المسلمة عام 1899م حين أصدر قاسم أمين كتابه الشهير «تحرير المرأة»، الذي تضمن دعوته لتعليم المرأة وتحريرها من القيود المجتمعية الظالمة، داعياً للسفور «خلع الحجاب»، بعد ذلك جاءت هدى شعراوي، التي خلعت الحجاب في ميدان التحرير بقلب القاهرة بلد الأزهر الشريف، داعيةً بنات جنسها للتحرر من الحجاب كما لو كانت قطعة القماش تلك التي على رؤوسهن هي سبب تخلف الأمة! وكأن ما تلبسه الراهبات من النصارى ليس حجاباً، لكنها استراتيجية الإساءة لكل ما يرمز إلى الإسلام، إنها استراتيجية (تبليس إبليس) بخلط السم بالعسل، بدأها أعداء الإسلام ثم تلقفها بعض بني جلدتنا وتبنوها كما لو كانت قضيةً مقدسةً لهم!
فهذه أختٌ مسلمةٌ تلبس النقاب كانت تتسوق في سوبر ماركت في فرنسا، وبعد الانتهاء من التبضع ذهبت إلى الصندوق لدفع ما عليها من مستحقات، وخلف الصندوق كانت هناك امرأةٌ متبرجةٌ من أصولٍ عربيةٍ نظرت إلى المنقبة باستهزاءٍ وقالت لها وهي تستفزها: "لدينا في فرنسا عدة مشاكل وأزمات، ونقابك هذا مشكلةٌ من المشاكل التي تسببتن لنا بها، إذا كنت تريدين ممارسة الدين أو وضع النقاب فاذهبي إلى وطنك ومارسي الدين كما تشائين"، قامت الأخت المنقبة بكشف النقاب عن وجهها فإذا هي شقراء زرقاء العينين، وقالت: "أنا فرنسية أباً عن جد، هذا وطني، وهذا إسلامي، أنتم بعتم دينكم ونحن اشتريناه"!.

أما عن اللحية فقد انتشرت قصةٌ على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شبكة الإنترنت، تناقلها وأعاد نشرها كما هي عددٌ كبيرٌ من الأصدقاء دون أن يدركوا الهدف الخفي من تعميمها. تقول القصة أنه في زمن سيدنا سليمان عليه السلام، جاء طائر إلى بركةٍ ليشرب الماء، فوجد أطفالاً بالقرب منها فانتظر حتى غادر الأطفال وابتعدوا عن البركة، ثم جاء رجلٌ ذو لحيةٍ إلى البركة، فقال الطير في نفسه هذا رجلٌ وقورٌ لا يمكن أن يؤذيني؛ فنزل الطائر إلى البركة ليشرب الماء، فرمى الرجل الطائر بحجرٍ ففقأ عينه، فذهب الطائر إلى نبي الله سليمان عليه السلام شاكياً؛ فاستدعى سيدنا سليمان هذا الرجل وسأله: "ألك حاجةٌ بهذا الطائر فرميته؟"، قال الرجل: "لا"، فأصدر النبي عليه السلام حكمه بفقء عين الرجل. لكن الطائر اعترض وقال: "إن عين الرجل لم تؤذيني بل لحيته هي التي خدعتني؛ لذا أطالب بقص لحيته حتى لا ينخدع بها أحدٌ غيري". وتنتهي القصة بالتساؤل: تُرى إن حضر هذا الطائر زماننا هذا كم لحيةً سيطالب بقصها؟
أخطأ الرجل، لا شك في هذا، لكن (تبليس إبليس) يكمن في تعمد ربط الخطأ أو الإساءة باللحية وليس بصاحبها! ماذا إذن لو كان الرجل غير ملتحٍ ويلبس زي رجل أمن، وهو بِسَمْتِه هذا يجعل الطائر يحس بالأمان معه ربما أكثر من صاحب اللحية، فهل كانت القصة لتنتهي بطلب الطائر أن يخلع جميع رجال الأمن ملابسهم الرسمية بزعم أنها هي التي انخدع بها؟
يقول أحد الأفاضل تعليقاً على تلك القصة المزعومة: لا شك أن التدين الظاهر أمرٌ يشترك فيه الصالح والمنافق، ولكن هل يجوز أن نذم الصالحين بزلل المتشبهين بهم؟ هذا منتهى الظلم. مِن الناس مَن يصلي نفاقاً ومنهم من يحج نفاقاً ومنهم من يجاهد نفاقاً ومنهم من يتصدق نفاقاً فهل يجوز أن نمتنع عن هذه الأمور الطيبة لمجرد أن بعض المنافقين يقومون بها؟
كون المرء له تدينٌ ظاهرٌ في ملبسه أو مظهره لا يعني أنه معصومٌ من الخطأ، لكن يبقى عليه وزره، فلو أن مسلماً صلى ثم ارتكب معصيةً بعد الصلاة هل يمكن لعاقل أن يقول إن صلاته هي سبب المعصية وأن يطالب الجميع بترك الصلاة؟!
إننا لسنا حجةً على الإسلام، إن أخطأنا، وإنما الإسلام حجة علينا جميعاً.
خلاصة القول، أنه لا يضير أحدٌ أبداً، إلا من كان قلبه يحمل الحقد على الإسلام، أن يأخذ المسلم بكل الأسباب المادية العلمية والعملية التي تقود الأمة نحو التقدم وتبتعد بها عن التخلف الذي ترزح فيه، مع تمسكه في ذات الوقت بثوابت الدين الظاهر منها والباطن.

أحبتي .. كم من أفرادٍ ليسوا مسلمين ارتكبوا المعاصي والسيئات، وعاثوا في الأرض فساداً وإفساداً وتدميراً، بل إن بعضهم قتل ملايين البشر في حروبٍ عالمية وبواسطة قنابل ذرية! فهل سمعتم من ينسب أفعالهم تلك إلى دينهم؟
إن الخلط المقصود بين ما يقع فيه بعض المسلمين من زللٍ وما يرتكبه بعضهم من أخطاءٍ وحماقات وبين دين الإسلام خلطٌ متعمدٌ وهو  من باب (تبليس إبليس) فانتبهوا: لا تنخدعوا أحبتي بهذا التبليس، ثم لا تسارعوا بنشر وتعميم مثل هذه الأقوال والقصص المغرضة فتكونوا سبباً في انخداع البعض من بسطاء المسلمين بها فتحملوا أوزاراً وأوزاراً مع أوزاركم يوم الحساب.

اللهم يسِّر لنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن نؤمن بك كما ينبغي أن يكون إيمان المسلم تماماً وكمالاً .. اللهم اجعلنا ممن يجمعون الحسنيين: التمسك بجوهر دينك الحنيف، والالتزام بمظاهره والاعتزاز بها والفخر بأنها تعبر عن هويتنا وعن ديننا الذي ارتضيته لنا، لنكون بحق ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/V9iIu9