الجمعة، 16 سبتمبر 2016

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟

الجمعة 16 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٤٩
(عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟)

قبل أيام، عند احتفالنا بعيد الأضحى المبارك، تذكرت بيت الشعر المشهور للمتنبي:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ                        بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
فقد كانت فرحة هذا العيد ممزوجة بكثير من الآلام والأحزان.
فقد غيب الموت، وهو علينا حق، بعضاً من أحبائنا خلال الفترة القصيرة الماضية، آخرهم قريب لنا، لا نزكيه على الله، لكن نشهد له بالصلاح، كان رجلاً طيباً هادئاً بشوشاً قليل الكلام، لو قابلته لأول مرة فكأنك تعرفه من زمن، يتسرب حبه إلى قلبك دون أن تدري، ابتلاه الله سبحانه وتعالى في آخر أيامه بمرض عُضال، فكان مثالاً للصبر، لم يتوقف لسانه عن حمد الله لحظة حتى وافاه الأجل المحتوم، غاب وغاب قبله آخرون، أحباء لنا، اختارهم المولى عز وجل فصاروا في ذمته، رحمهم الله جميعاً، تركوا في النفس أحزاناً كيف لفرحة العيد أن تخفف منها؟!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. وآخرون يعانون من أمراض زادت أشكالها وتنوعت آلامها وأصرت على ألا تأتي فرادى، فتراهم وقد صارت أيامهم تدور في دائرة لا مخرج منها إلا برحمة من الله؛ يترددون على عيادات الأطباء والمستشفيات وأقسام العناية المركزة ومراكز الأشعة والتحاليل، وهم في بحث دائم عن دواء قد اختفى من السوق .. وكأن آلام المرض التي توهن الجسم وترهق النفس لا تكفي، فتأتي آلام العوز والاحتياج لكثيرين لا يجدون ما يسددون به أجور الأطباء العالية وأثمان الأدوية الغالية وتكلفة الأشعات والتحاليل المتزايدة، وغير ذلك من مصاريف العلاج الباهظة .. تراهم أشبه ما يكونون بمن يسيرون في حقل أشواك تحيط بهم من كل اتجاه .. يعيشون أيامهم وكأنها كابوس متصل، فأنى لفرحة العيد أن تخفف من هذه الآلام؟!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. عدت وفي نفوسنا حسرة، وفي حلوقنا غصة، من حالة اغتراب نحس بها ونكابدها في وطن عشنا عمرنا كله فيه ثم نجد أنفسنا الآن وكأننا غرباء عنه، أو كأنه غريب عنا! .. اختلف الناس واختلفت طبائعهم وتغيرت قيمهم وتبدلت نفوسهم وانحدرت أذواقهم وانحطت سلوكياتهم، حتى أنك لتتساءل: هل هؤلاء الناس منا؟ وقبل أن تحاول الإجابة يقفز إلى ذهنك السؤال الأشد مرارةً: وهل نحن حقاً منهم؟. ما الذي حدث لنا وسبب كل هذا التغير وحوَّلنا من حالٍ إلى حال نجد أنفسنا فيه محاصرين بكل ما هو محبط ومؤلم ومحير في ذات الوقت؟!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. وقد تفنن الناس في أشكال الظلم والكذب والافتراء وخيانة الأمانة والفساد وأكل الأموال بالباطل، وابتكروا ما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين من أساليب النفاق والرياء، وأبدعوا في توظيف الجهل وتسويق الأباطيل وبيع الوهم وتضييع الحقوق .. كأنهم في سباق مع الزمن للسعي طواعيةً إلى كل ما هو باطل، والتخلي عن إنسانيتهم وكرامتهم بإرادتهم الحرة! وكلما أراد شخص أن ينصح لهم اجتمع عليه البعض يريدون تجريده من وطنيته كما لو أنهم هم المقصودون بالآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. والناس يبتعدون عن الحياة الكريمة يوماً بعد يوم .. يبتعدون عن كل ما هو طيب .. يبتعدون عن طريق الحق رغم وضوحه .. ويسيرون في طريق الباطل كأنهم مغيبون .. وافقوا وصف حافظ إبراهيم لهم حين قال:
وشعبٌ يفرُّ من الصالحاتِ                             فرارَ السَّليم من الأجربِ
وصُحْفٌ تطنُّ طنينَ الذُّبابِ                            وأخرى تشنُّ على الأقربِ
وهذا يلوذ بقصر الأميرِ                                ويدعو إلى ظِلِّه الأرحبِ
وهذا يلوذ بقصر السَّفيرِ                                ويُطنِب في وِرده الأعذبِ
وهذا يصيحُ مع الصائحينَ                             على غير قصدٍ ولا مأربِ
(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. والعداوة والبغضاء والكراهية والاتهامات الباطلة والأكاذيب والإشاعات يتقاذفها أناس يكذبون كما يتنفسون، يخلطون السم بالعسل، لا تستطيع الهرب منهم فهم يحيطون بك ويحاصرونك ليل نهار، تراهم على شاشات تلفازك وتسمعهم في مذياعك وتقرأ ما يكتبون في الصحف والمجلات وعلى شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ومن عجب أنك ترى من يتابعهم ويترقب مشاهدتهم والاستماع إلى أباطيلهم وقراءة أكاذيبهم وضلالاتهم ثم يتحول بدوره إلى بوق جديد ينعق بما رأى وسمع وقرأ دون إدراك وتمييز بين حق وباطل!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. وقد أطبق علينا التخلف بكل أشكاله من جميع الجوانب في جميع المجالات، وأصبحت المسافة بيننا وبين غيرنا من الأمم كالمسافة بين الكواكب والنجوم، تحولنا من العمل إلى الكلام، ومن الإنتاج إلى الاستهلاك، ومن التصدير إلى الاستيراد، ومن الوحدة إلى الفرقة، ومن الحب إلى الكراهية، ومن الأمانة إلى الخيانة، ومن الصدق إلى الكذب، ومن العلم إلى الجهل .. تحول الكثير منا، إلا من رحم الله، من النور إلى الظلام، ومن الحق إلى الضلال، واختاروا البعد عن الطريق الصحيح، طريق الحق الذي اختاره لنا الله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾!

أحبتي في الله .. ليس لنا للخروج مما أوقعنا أنفسنا فيه إلا العودة إلى جادة الصواب والرجوع إلى سبيل الحق ..
ليس من العيب أن يخطئ الإنسان، لكن من العجيب أن يكابر بعد أن يرى بأم عينيه ما وصلنا إليه من أحوال، ويعلم ما قد نصل إليه في قادم الأيام، ويتأكد من خطأ اختياراته، ويوقن بأنه لا مخرج ولا منجى إلا بالعودة لطريق الحق، ومع ذلك يظل مدافعاً عن الباطل مستمسكاً بالسير في طريق الضلال .. أما آن لنا من فواق؟!
طريق الحق واضح جلي، من سلكه فاز ونجا، ومن رغب عنه ورضي لنفسه بالبعد عنه فقد رضي لنفسه بالعمى! ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾، فهل ننتظر مصير ثمود الذين اختاروا الباطل بدلاً من الحق ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أم ننتظر مصير قوم فرعون الذين استخف بهم فرعون ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾!

أحبتي .. لله در أبو الطيب المتنبي حين قال في ذات القصيدة:
أكُلّمَا اغتَالَ عَبدُ السّوْءِ سَيّدَهُ                        أوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهِيدُ
نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصرٍ عَنْ ثَعَالِبِها                      فَقَدْ بَشِمْنَ وَما تَفنى العَنَاقيدُ
نرجو من الله سبحانه وتعالى ألا نكون ممن ورد وصفهم في قصيدة حافظ إبراهيم التي أشرنا إليها، حيث قال في آخرها:
أمّةً ضاقَ عن وصفها                                     جَنانُ المفوَّهِ والأَخْطَبِ
تضيعُ الحقيقةُ ما بيننا                                ويَصلى البريءُ مع المذنبِ
ويُهضَمُ فينا الإمامُ الحكيمُ                              ويُكْرَم فينا الجهولُ الغَبِي

هدانا الله، وأصلح أحوالنا، وأرانا الحق حقاً ورزقنا اتباعه، وأرانا الباطل باطلاً وأعنا على اجتنابه .. وقتها يمكن أن نحس بفرحة العيد، ولا نعود نتساءل (عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟).

خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم.



https://goo.gl/mG34S7