الجمعة، 19 مايو 2023

الرزاق ذو القوة المتين

 خاطرة الجمعة /396

الجمعة 19 مايو 2023م

(الرزاق ذو القوة المتين)

يروي أحد الشباب العراقيين هذه القصة، يقول: منذ عدة سنواتٍ جمعني لقاءٌ بشيخٍ عراقيٍّ تجاوز عمرُه وقتئذٍ مائةَ سنةٍ، زارني في بيتي ببغدادَ، وبعد جلسةٍ مؤنسةٍ وادِعةٍ سألتُه مُغتنماً الفرصة: "ما أعجبُ ما مرَّ بك يا عمّ في عُمرك المديد؟!"؛ فأطرق برأسَه هُنيهةً ثم رفعه مُتنهداً وقال: "لقد رأيتُ في حياتي أحداثاً عجيبةً، ولكن أعجبها إليَّ ما سوف أقصُّه عليك، فاحفظ عني وخُذ العبرةَ لك ولمن وراءك!".

قال الشيخ: كُنا في الزمن الغابر، نقتاتُ في بعض مواسم السنة على ما نقومُ بصيده، وكنتُ قد خرجتُ ذاتَ موسمٍ أصطاد، ومرَّت بضعةُ أيامٍ وأنا أتربَّصُ للصيد دون جدوى، حتى بدأ اليأسُ من الحصول على الرزق يدبُّ إلى نفسي في تلك الغدوة. وبينما أنا كذلك أراني الله عجباً؛ لقد رأيتُ ثُعباناً يُراقبُ شيئاً ما ويتحرَّك نحوه ببطءٍ، فتبعتُه حتى رأيتُ أمامَه يربوعاً صغيراً يأكلُ من خَشاش الأرض، سرعان ما صار بين فكيِّ الثُعبان وبدأ بابتلاعه، وأنا في مكمني أتابعُ المشهد، وأرى جسمَ اليربوع يتنقَّلُ في جوف الثعبان ببطءٍ من حلقه إلى وسطه، وعندما وصلَ اليربوعُ إلى نحو نصفِ جسم الثُعبان تحرَّكتُ نحوه وأنا لا أدري لِمَ تحركتُ، وأخرجتُ بُندقيتي وصوبتُ فوهتَها نحو رأس الثُعبان وأطلقتُ رصاصةً خرقَتَه وتركَتَه يتلوى قليلاً ثم سكن.

أقبلتُ على الثُعبان وأخرجتُ حربتي وطعنتُ في الموضع المنتفخ من جلده وشققتُه، فخرجَ اليربوعُ وفيه رمَقٌ، لم يمُت بعد! ركزتُ حربتي في الأرض وجلستُ غيرَ بعيدٍ منه وأنا أتأملُ فيما صنعتُ؛ لا أدري ما الذي دفعني لفعل ذلك! رأيتُ الحياةَ تعودُ إلى اليربوع، بدأ يمشي ويُحاولُ الركضَ لكنه يترنَّحُ يُمنةً ويُسرةً، بدأ يُسرع، رَكْضَتُهُ مُستقيمةٌ، يا الله لقد نجا، لقد نجا! لم أكد أُنهي خاطرَتي إلاّ وصقرٌ كبيرٌ ينقَضُّ من عُلوٍّ كالبرق، فيُنشبُ مخالبَه في جسد اليربوع ليطيرَ به بعيداً ويختفي عن مدى بصري ويتركني في ذهولٍ من مشهدٍ سريعٍ خاطفٍ مرَّ كلمح البصر، ولكني شعرتُ حينئذٍ بأنَّ رسالةً ما قد بلغتني عن ربي مفادُها: [ما أصابَكَ لم يكُن ليُخطِئَك، وما أخطأكَ لم يكُن ليُصيبَكَ]؛ نعم إنَّ الله هو من يُعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع. لقد أفدتُّ من ذلك الدرس ألا أهتم للرزق ما حييتُ، أسعى بقدر استطاعتي ولكني أعلم يقيناً أن الأرزاق بيد الله وحده. وها أنا ذا يا ولدي أمامَك قد جاوزتُ المئة، ومرَّ على تلك الحادثة قُرابة سبعين سنةٍ وأنا أتقلَّبُ في رزقِ ربي، ﴿لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾.

يقول الشاب: الآن وبعد مُرور سنين عديدةٍ على لقائي مع ذلك الشيخ ما زلتُ أتأمل في ذلك الدرس الذي تعلمته منه، وأعلم يقيناً أن الرزق والأجل كلاهما بيد الله وحده، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.

لقد وافى الثعبانَ أجلُهُ في لحظةٍ ظفرَ فيها برزقٍ وافرٍ كان يظنُّ أنَّه سوف يستمتعُ به، وإذا به رزقُ غيره سيخرجُه الله له من داخل جوف الثُعبان وهو لا يعلم! وأما اليربوع فقد أُكِلَ مرَّتين، وكانت المرةُ الثانيةُ في اللحظة التي ظنَّ فيها أنه نجا بالفعل، ولم يعلم أن مُستقرَّهُ سوف يكون في بطنٍ آخر بعد أن يُقطَّعَ إرَباً! وأما أمرُ الطائر فهو الأعجبُ عندي، فقد أخرجَ اللهُ له رزقَهُ من أغرب مكانٍ، من بطن الثُعبان، وسخَّر له المخلوقَ الأرقى في الأرض ليقومَ بتلك المُهمة ويُقرِّب إليه رزقه!

يا الله ما أبلغَهُ من درسٍ. لعلَّ الشيخ قد فارقَ الحياة على الأغلب، لكنَّ صورته لم تُفارق مُخيلتي، وكلما ضاقت أبوابُ الرزق أتذكَّرُ ذلك الشيخَ وأقول: «الزَمها فهي موعظةُ مُعمِّر».

 

أحبتي في الله.. لا شك في أن الله هو وحده الرزاق؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾. وهو المُتفرد بالرزق وحده لا شريك له؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾. يتفضل برزقه على من يشاء من عباده بغير حدٍ ولا عدٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. ورزقُ الله للعباد صورةٌ من صور لُطفه بهم؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾. والرزق عطاءٌ من رب العزة لا يختص به المؤمنين دون غيرهم، بل هو لجميع البشر؛ المؤمن منهم والكافر، البَرّ منهم والفاجر؛ يقول تعالى: ﴿كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾. ورزق الله واسعٌ لا ينفد، باقٍ لا يزول؛ يقول تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾. ولا يقتصر رزقه على البشر فقط، فالرزاق سبحانه تكفّل بأرزاق الخلائق جميعاً، من إنسانٍ وحيوانٍ وطيورٍ وغيرهم من المخلوقات، وقسَم لكلٍ منهم رزقه؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾.

يقول أهل العلم إن الله سبحانه قائمٌ على كل نفسٍ، وَسِع الخلقَ كلهم برزقه، يسوقه إلى الضعيف الذي لا حيلة له، كما يسوقه إلى القوي المُعافَى، مُتكفلٌ بالأقوات وإيصالها؛ فهو سُبحانه (الرزاق ذو القوة المتين) ما من مخلوقٍ إلا وهو مُتمتعٌ برزقه، مغمورٌ بكرمه، يبعث إليه من الرزق ما يُصلحه، حتى الذرّ في باطن الأرض {الذر صغار النمل}، والطير في الهواء، والحيتان في الأعماق، والأجنّة في الأرحام، والحشرات في الصخور، فسُبحان الرزاق العليم، يُسبغ نعمه على جميع مخلوقاته. إن خزائن الله عزَّ وجلَّ مملوءةٌ بكل شيءٌ، يُعطي منها جميع الخلائق، ولا تنقص إلا كما تنقص إبرة الخياطة إذا أُدخلت البحر، ولو سأله جميع الخلائق فأعطاهم لم ينقص ذلك من مُلكه شيئاً؛ يقول الله في الحديث القدسي: [.. يَا عِبَادِي: لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ]. وأرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى كيفية طلب الرزق فقال: [أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ]. وتطمئن النفوس إلى كفاية من تكفّل بأرزاقها، فرزقُها يطلبها كأجلها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنَّ ابنَ آدمَ هرَبَ من رزقِهِ كما يهرَبُ من الموتِ، لأدْرَكَهُ رزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ الموتُ].

يقول العلماء إن الإيمان والتقوى سببان عظيمان للحصول على البركات والأرزاق؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾. والمعاصي تذهب بالأرزاق؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [.. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ]. وتزيد الأرزاق بالشكر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. ومن الأرزاق ما هو خفيٌ؛ كالقناعة والرضا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللّهُ بِمَا آتَاهُ]. ومِن جميل رزقه وأرفعه أن يرزق عبده عِلماً هادياً، ولساناً مُرشداً مُعلِماً، ويداً مُنفقةً مُتصدقةً. وإن أعظم رزقٍ يرزقه الله عباده، وأحسنه وأكمله وأفضله وأكرمه وأعلاه وأدومه، وهو الذي لا ينقطع ولا يزول، هو أن يرزقهم الجنة بفضله ومنّه وكرمه.

 

أحبتي.. إنه هو الله وحده عزَّ وجلَّ (الرزاق ذو القوة المتين) يرزق من يشاء بما شاء كيفما شاء، رزقه وفيرٌ وفضله كبيرٌ، لا يُشاركه في ذلك أحد. فما بال أقوامٍ يظنون أن أرزاقهم بيد غيرهم من البشر؟! فيُطيعونهم طاعةً عمياء ويُقدِّمون لهم فروض الولاء في كل أمرٍ بغير ترددٍ، أما إذا ذُكِّروا بالواحد الأحد الفرد الصمد الذي يرزقهم حقيقةً فالأمر وقتها فيه نظر! لو طُلب منهم أن يحضروا لمقر العمل قبل صلاة الفجر وجدتهم يُسارعون إلى الالتزام بغير مُناقشةٍ ولا اعتراض، وإذا دعاهم ربهم إلى الصلاة واستمعوا إلى صوت المؤذن يُنادي "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح" فلديهم حينئذٍ ألف عُذرٍ وعُذرٍ للتفلت والنكوص وتأجيل الصلاة أو حتى التهرب من أدائها! تراهم يُفكرون في الرزق ليل نهار، ولا يكادوا يتذكرون الرزاق سُبحانه وتعالى! هؤلاء في خطرٍ كبيرٍ، عليهم أن يُراجعوا أنفسهم؛ وليتذكروا الآية الكريمة: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾؟ وعلينا جميعاً أن نوقن بأن الله هو (الرزاق ذو القوة المتين) وأن غيره من البشر ليسوا إلا أسباباً لا يملكون لأنفسهم -ولا لغيرهم- نفعاً ولا ضَراً إلا بإذنه تعالى؛ فلنثق في الله سُبحانه وتعالى ونُحسن الظن به ونتوكل عليه ونتقرب إليه بما يُحبه من فروضٍ ونوافل، ثم نأخذ بالأسباب إلى مداها، واثقين أنه لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا، موقنين أننا لو حفظنا الله واتقيناه لحفظنا وزاد رزقه لنا؛ فلا نسأل غيره، ولا نستعين إلا به. متأكدين من أن الناس لو اجتمعوا جميعاً لن ينفعونا ولن يضرونا إلا بما قد كُتب لنا أو علينا؛ قال عليه الصلاة والسلام: [احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ].

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا من المؤمنين المُخبتين وممن ترزقهم ربنا بغير حساب، وأعنّا اللهم على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

https://bit.ly/3WfZSyd