الجمعة، 13 مارس 2020

حالقات الزمن


الجمعة 13 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٣٠
(حالقات الزمن)

عندما كنت صبياً صغيراً، قبل نحو خمسين سنة، كنت أزور الحلاق مرةً كل ثلاثة أسابيع أو أربعة لحلاقة شعر رأسي، الذي اختفى اليومَ أكثرُه وأعفاني من تلك المهمة المتعِبة المملة! كان الحلاق مسلماً ولكنه لا يصلي، وكنتُ أستغرب من عدم صلاته لأنني ظننتُ -وأنا في تلك السن المبكرة- أن الكبار كلهم يُصلّون، ثم كبرتُ وأدركتُ أن كثيرين لا يفعلون! لم أرَ ذلك الحلاق ولم أسمع عنه من نحو أربعين سنة، وأحسب أنه مات منذ وقتٍ طويلٍ، وأرجو أن يكون قد عاد إلى الصلاة والتحقَ قبل موته بركب التائبين. لم أرَه ولم أسمع عنه ولكني فكرتُ به كثيراً على مَرّ السنين، تذكرتُه وأنا قاعدٌ أرقبه على كرسيّ الانتظار الذي كان يطول نصفَ ساعةٍ في بعض الأحيان أو يزيد، وتصورتُه واقفاً على رجلَيه اليومَ كله، فكنتُ أرثي له، فإنّ أحدنا إذا وقف في صف انتظار "طابور" ربعَ ساعةٍ أو نصفَها أزعجه الوقوفُ وأعْنَتَه، وهؤلاء الحلاقون لا تنقضي من أعمارهم سنواتٌ إلا وقد أصيبوا بِدَوالي السيقان المؤلمة، فيا لها من مهنةٍ شاقةٍ متعبة!
ولم يكن حلاّقي من كبار الأثرياء؛ كان يقف على رجليه عشر ساعاتٍ في اليوم، ويداه تتحركان طَوال الوقت مع المِقَصّات والأمشاط في حركةٍ سرمديّةٍ، لا يُدرَى متى بدأت ولا يُدرَى متى تنتهي، ليعيش بعد ذلك الجهد كله عَيْشَ الكفاف! لقد رضي أن يقف على رجليه خلف كرسيّ الحلاقة عشر ساعاتٍ في اليوم مقابل بضع عشراتٍ من الأمتار المربعة يقيم فيها هو وأسرته، وثوبين في السنة لكل واحدٍ من أفراد أسرته، ولُقَيماتٍ تبقيهم أحياء، واستكثر نصفَ ساعةٍ يقف فيها بين يدي الله تُورِثه -بإذن الله- مُستقَراً ونعيماً أبدياً في جنةٍ بعرض السماء والأرض، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
على مر السنين تصورتُ ذلك الحلاق البائس، وأنا أتذكر الأعرابي الذي تلقى عرضاً سخياً بدخول الجنة مقابل سبع عشرة ركعةً لا تستغرق -بقيامها وركوعها وسجودها وقعودها- أكثرَ من نصف ساعةٍ في اليوم، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنّ ولا أنقص منهنّ، قال صلى الله عليه وسلم: [لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ].
على أن حلاقي القديم لم يكن صاحبَ القصة المحزنة الوحيدة في الدنيا، فكم له بيننا من أمثال! كم من قصصٍ أخرى من نوع هذه القصة نشاهدها كل يوم! مساكين أصحاب هذه القصص، يبذلون من أجل نعيمٍ زائلٍ محدودٍ جهدَهم كله، ويضنّون بنصف عُشره على الذي يورثهم نعيماً خالداً لا يزول! مساكين، أولئك المحرومون لو كانوا يعلمون.

أحبتي في الله .. تلك كانت خاطرةً كتبها أحدهم ونشرها على موقعٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، لا ليكون حديثه عن حلاقٍ بعينه، بل ليكون حديثه عنه كمثالٍ لكثيرين غيره شغلتهم الدنيا، وكمثالٍ لكل من يترك وقته لتذهب به (حالقات الزمن)، تلك التي تحلق أوقاتنا كما تحلق الأمواس رؤوسنا!
فهناك كثيرٌ مما يحلق بغير موس، منها فساد ذات البين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: [أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ، وَالصَّلاةِ، وَالصَّدَقَةِ؟]، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: [صَلاحُ ذَاتِ الْبَينِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ]، ويُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: [هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: هي تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ].
وما أكثر الحالقات هذه الأيام؛ حالقات الدين، حالقات القيم والأخلاق، و(حالقات الزمن). وهذه الأخيرة منها؛ السعي على الرزق. ومنها الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي، والانشغال المبالغ فيه بتطبيقات وألعاب الحاسوب. والهواتف الذكية، والاستخدام غير المفيد لشبكة الإنترنت. ومنها الإسراف في إجراء المكالمات الهاتفية بغير حاجةٍ ماسةٍ أو ضرورةٍ ملحةٍ. ومنها الانخراط إلى درجة الهوس في تشجيع الأندية الرياضية المحلية والعالمية ومشاهدة مباريات كرة القدم. ومنها متابعة ما يُبث على القنوات الفضائية من أفلامٍ وتمثيلياتٍ ليل نهار. ومنها الاهتمام المبالغ فيه بتنمية القدرات الشخصية -رياضيةً أو فنيةً- عند أبنائنا الصغار. كل ذلك وغيره يستحوذ على الوقت كله فلا يترك وقتاً لأنشطةٍ أخرى أولى بالاهتمام والرعاية! فلا عيب أن نستقطع بعض وقتنا لكسب العيش، أو تنمية هواياتنا أو قدرات أبنائنا، أو لشيء مقبولٍ من الترفيه، لكن العيب أن ننشغل طوال الوقت بهذه الأمور، التي هي في الأصل أمورٌ دنيويةٌ زائلةٌ ومؤقتةٌ، فلا نعمل لآخرتنا الباقية التي نخلد فيها بإذن الله! مثلنا في ذلك مثل مَن يسكن بيتاً يستأجره فيسعى دائماً إلى العناية به وتجميله وتوسيعه وتعليته، وهو تاركه ومفارقه، طال الزمن أو قصر، ثم هو يترك أرضاً ملكاً له لا يبنيها ولا يُعَّمِرها -ولن يكلفه بناؤها وتعميرها إلا أقل مما يصرفه على تجميل بيت الإيجار- رغم أنها داره التي سيعيش فيها مُخلداً أبداً، يقول الله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾، يقول المفسرون لهذه الآية إن ثواب الله سبحانه في الدار الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دَنيةٌ فانيةٌ، والآخرة شريفةٌ باقيةٌ، فكيف يُؤْثِر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى؟ ويهتم بما يزول عنه قريباً، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخُلد؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفراغُ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اغتنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: حَياتَك قبلَ موتِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وفراغَك قبلَ شُغْلِك، وشبابَك قبلَ هَرَمِك، وغِناك قبلَ فقرِكَ].

الزمن أو الوقت هو موردٌ رباني حابانا الله به، يُنعم علينا به بشكلٍ يوميٍ بانتظامٍ ودون انقطاع، يشحن رصيد كل إنسانٍ ما يزال على قيد الحياة بأربعٍ وعشرين ساعةً كاملةً كل يومٍ إلى أن يحين أجله. إنه موردٌ، رغم أنه مستمرٌ ومتكررٌ، إلا أنه مرتبطٌ بأجلٍ سوف ينتهي فيه لا محالة، كما أنه موردٌ ينتهي من تلقاء نفسه ولا يمكن تعويضه أو إيجاد بديلٍ له، يمضي ولا يعود، سواءً أحْسَنّا الاستفادة منه أو أسأنا استخدامه، أو أهدرناه بالكامل؛ لا استفدنا منه ولا أضعناه فيما لا يفيد، أنه موردٌ متفردٌ في خصائصه يعرض نفسه علينا كل ثانيةٍ للاستفادة منه وإلا مرَّ كأن لم يكن!
كتب أحد العلماء عن خصائص الوقت؛ فقال: للوقت خصائص عديدة، لابدّ من أن نعرفها كي نتمكن من استثمارها جيداً، منها أنه لا يمكن تخزينه لاستخدامه فيما بعد، كما أن ما يمضي منه لا يعود ولا يُعوَّض؛ قال حكيمٌ: "ما من يومٍ ينشقُّ فَجْرُه إلا ويُنادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد منِّي فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة".
والوقت يمضي سريعاً، ومهما طال عمر الإنسان فهو قصيرٌ ما دام الموت في انتظاره؛ قال نوحٌ عليه السلام -وهو أطول الأنبياء عمراً- فيما يُنسب إليه حينما سُئل كيف رأيتَ الدنيا: "مثل رجلٍ بُنيَ له بيتٌ له بابان، فدخل من واحدٍ وخرج من الآخر".
والوقت هو أغلى ما نملكه على الإطلاق؛ فالوقت هو الحياة، فما حياة الإنسان إلّا الوقت الذي يقضيه من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة، وفي هذا قال أحد العارفين: "يا ابن آدم؛ إنما أنت أيامٌ، كلّما ذهبَ يومٌ ذهب بعضُكَ!".
واستثمار الوقت بشكلٍ فعّالٍ يزيد من قيمته، وكيفية قضائنا لوقتنا تحدّد مدى جودة استثمارنا له، ونحن ندرك جيداً أنّ الوقت يمضي سريعاً ولا يُمهلنا لاستغلاله.
كما أن هناك تفاضلاً للأعمال في أوقاتٍ مخصوصةٍ، إذا لم يتم إنجاز هذه الأعمال في وقتها ضاعت قيمتها أو قلت وضعفت، كالصلاة على وقتها مثلاً؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾، ومن الملفت للنظر أن هذه الآية نزلت في سياق الحديث عن الصلاة وقت الحرب ومواجهة الأعداء، مما يبين أهمية المحافظة على أداء الصلاة، وعدم التفريط أبداً في أدائها على وقتها، حتى لو كان العذر هو حالة الحرب الفعلية، فما بالنا بأعذارٍ أضعف كثيراً من ذلك؟

وقد خلصت دراسةٌ علميةٌ حديثةٌ أُجريت في ١٤ دولةً ناميةً إلى أن عدم تحديد الأهداف بوضوح، وعدم ترتيب الأولويات، وضعف الهمة، والافتقار إلى الانضباط الذاتي، وعدم إدراك أهمية الوقت، والتسويف والتأجيل هي من أهم الأسباب التي تُمكِن (حالقات الزمن) من تضييعه. ألا تذكرنا هذه النتيجة بما ورد في الأثر: "إن قوماً غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"، والمعنى واضحٌ أنهم قومٌ أضاعوا أوقاتهم في غير ما ينفعهم في آخرتهم، وكان الأجدر أن يُحسنوا العمل باستغلال أوقاتهم فيما يفيد.

وإن أفضل ما يمكن أن نشغل به أوقاتنا -بعد العبادات المفروضة والنوافل- هو قراءة القرآن؛ يقول أحد الصالحين: اجعل حياتك ممزوجةً بالقرآن لا تنفك عنه، تلاوةٌ دائمةٌ -من المصحف أو من حفظك- واستماعٌ دائمٌ في غير وقت التلاوة، خصص له وقتاً، واستغل فراغك وأوقاتك البينية، ووقت المواصلات، وفي الطرقات، ووقت انشغالك بأعمال لا تحتاج تركيزاً، واللهِ لتجدن بركةً في وقتك، وتيسيراً في كل شأنك، وسعادةً غامرةً في صدرك ما كنتَ لتجدها إلا ببركة كلام الله؛ يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ ومن بركته: أنه ما زاحم شيئاً إلا باركه ببركته! وأما عن الوقت الذي لا تتهيأ فيه نفسك لتلاوة القرآن، فاستمع له وأنصت من أحب أصوات القُرَّاء إليك، فما الرحمة إلى أحدٍ بأسرع منها إلى مُستمع القرآن؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ و"لعل" من الله واجبةٌ، وقد كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من غيره مع أنه عليه أُنزِل وكان يقول: [إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي]. وعلى قَدْر نصيبك من كلام الله يكون نصيبك من رحمة الله؛ يقول تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وكذلك ترشد الآية إلى أن شفاء صدرك وزوال همك يكون بالقرآن، وإن لم يكن لك إلا قول النبي عليه الصلاة والسلام: [اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ] لكان ذلك سبباً كافياً لتعكف عليه آناء الليل وأطراف النهار! سيشفع لك هذا الرفيق المبارك يوم يفر منك أقرب الناس إليك. ولنحذر أن نهجر القرآن أو نغفل عنه؛ فكل بُعْدٍ عن القرآن هلاكٌ لأنفسنا؛ يقول تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أي يبعدون عنه، ثم يقول: ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
واللهِ إني لأخجل من نفسي إن لم أقرأ في مصحفي صفحةً واحدةً على الأقل كل يومٍ، لا تستغرق قراءتها عُشْر ما أصرفه من وقتٍ للاطلاع على رسائل ومنشورات الواتس آب أو الفيس بوك، أو مشاهدة مباراةٍ لكرة القدم، أو أحد البرامج الحوارية اليومية، أو حلقةٍ من مسلسلٍ على التلفاز!

أحبتي .. المؤمن -كما ورد في الأثر- كيسٌ فطنٌ، عليه أن يكون ذكياً في اختياراته؛ فلا يَدَع فرصةً إلا واستثمرها، ولا وقتاً إلا واستفاد منه. علينا أن نسارع إلى تحديد أهدافنا في الحياة بدقةٍ، وأن نرتب أولوياتنا بوضوحٍ، وأن نختار من الأعمال والأنشطة التي نشغل بها أوقاتنا ما يفيدنا وينفعنا، ولنتذكر أنّنا محاسبون يوم القيامة على ما أفنينا من أعمارنا، وما أبلينا من أجسادنا -فضلاً عن العلم والمال- يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ]. فلنحسن الاستفادة من أوقاتنا -التي هي أعمارنا- ونبتعد عن (حالقات الزمن) التي تُهدر أوقاتنا فيما لا يفيد، ولنشغل أوقاتنا بقراءة القرآن، وحضور مجالس العلم، والإكثار من ذكر الله والتسبيح والتهليل، وصلاة التطوع، وعيادة المرضى، والسعي على الأرامل والمساكين، وقضاء حوائج الناس، والإصلاح بين المتخاصمين، وغير ذلك من الأعمال الصالحة وأوجه الخير والبر والتقوى؛ ليزداد رصيدنا من الحسنات بإذن الله.
هدانا الله جميعاً إلى ما فيه الخير والصواب.

http://bit.ly/2wP8pAt