الجمعة، 23 يوليو 2021

خروف العيد

 

خاطرة الجمعة /301


الجمعة 23 يوليو 2021م

(خروف العيد)

 

أراد رجلٌ غنيٌ أن يتصدق بعددٍ من خراف العيد دون أن يعرف أحد، وكان يضع على خرافه علاماتٍ مميزةً لا يعرفها سواه؛ فأرسل خروفاً سميناً مع أحد عماله إلى إحدى القرى المجاورة الأكثر فقراً، وطلب منه أن يعطي الخروف إلى صاحب بيتٍ معدمٍ فقيرٍ كثير الأبناء، وكان من حُسن أخلاق هذا الرجل الغني أن يتصدق بكثرةٍ ولا يعرف أحدٌ من الناس بالصدقات إلا عماله فقط. ‏وبينما الرجل الغني المتصدق صاحب الغنم يتجول في السوق إذ وجد رجلاً فقيراً يقف ومعه نفس الخروف الذي تصدق به بالأمس؛ فاستغرب وقال في نفسه: "هذا الخروف من مزرعتي، وعاملي أعطاه له فكيف يبيعه؟ من المؤكد أنه غير مستحق، وأن عاملي أخطأ في اختياره"، ثم اقترب المحسن من الفقير وسأله: "هذا الخروف الكبير، هل هو من تربية بيتك أم اشتريته من أحد التجار"؟ فابتسم الفقير قائلاً: "والله لا هذا ولا ذاك، فلهذا الخروف قصةٌ عجيبةٌ؛ وهي أنه بالأمس طرق عليّ الباب أحد الرجال، ولا أعرفه، وقال لي هذا خروفٌ وهبه لك سيدي، ولم يذكر اسم سيده، ومشي. وهذا الخروف كما ترى كبيرٌ جداً، ولي جارٌ فقيرٌ معدمٌ مثلي، وله ذريةٌ كبيرة العدد معدمةٌ لا يستطيع شراء خروفٍ للعيد، ولا حتى لحمٍ أو حتى دجاج، فجئتُ لأبيع هذا الخروف الكبير؛ واشتري بثمنه خروفين صغيرين واحدٌ لي والثاني لجاري المعدم مثلي"، فبكي الغني وقال: "هنيئاً لك قول ربنا في كتابه الكريم: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾؛ فأنت تنفق وأنت في أشد الاحتياج لهذا اللحم، وصدق النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين قال: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ]، هذا هو الإسلام حقاً أن تشعر بجارك؛ وصدق صلى اللَّه عليه وسلم حين قال: [مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ]. أيها الرجل أنا اشتريتُ هذا الخروف الكبير منك فخذ هذا ثمنه، اشترِ به خروفين، وافعل كما شئتَ أيها الصادق المتصدق المتعفف، فأنت أحسن مني ومن أمثالي الأغنياء؛ لأن الأغنياء ينفقون من وسع، وأنت تنفق من ضيقٍ".

 

أحبتي في الله .. الحديث عن (خروف العيد) ذكرني بقصةٍ أخرى حدثت منذ عدة سنوات، قبل عيد الأضحى بأيام، إذ طلب رجلٌ من زوجته أن تعطيه مبلغاً من المال كان قد ادخره لشراء أضحية العيد؛ فأعطته زوجته المال الذي ادخروه لذلك طوال ثلاثة شهور. ذهب الرجل إلى سوق الأضاحي ليشتري الخروف، وأخذ يتمشى ويعاين الخرفان يريد خروفاً سميناً يليق بالأضحية ويفرح به زوجته وأبناءه، فوجد طلبه واشترى الخروف وذهب به إلى منزله، فلما أراد إنزال الخروف فلت من يديه وراح يركض في الحي، وأخيراً وقف الخروف أمام باب منزل الجيران ثم دخل مسرعاً، وصاحبه خلفه، فلما أراد أن يطرق الباب سمع الأولاد يهللون ويصرخون، يظنونه خروف عيدهم، وهؤلاء الأولاد يتامى الأب ومساكين معروفين في الحي، فلم يستطع الرجل أن يُفسد علي الأولاد فرحتهم؛ فدخل عليهم وقال: "نعم، هذا خروفكم"، وأخذ يمزح معهم ويلاعبهم وترك لهم الخروف وعاد إلى منزله. في المساء ذهب يتمشى في سوق الأضاحي ليسلي نفسه، فوجد مجموعة من أصدقائه فصار يتحدث معهم، وقد نسي تماماً ما حدث معه وأنه ظل بلا أضحية عيد. وهو واقف في السوق إذ بشاحنةٍ صغيرةٍ تصف بجانبه، تحمل خرفاناً، فوقع نظره على خروفٍ أعجبه فتقدم من السيارة وظل يعاين الخروف من باب الفضول فقط، وسأل البائع صاحب السيارة: "بكم هذا الخروف"؟ رد عليه البائع: "أخي، لقد عاهدت الله أن أول شخص يضع يده على خروف من خرافي يأخذه صدقةً لوجه الله "، فقال له الرجل: "لا يا عم، أنا أسال فقط"، فرد عليه البائع: "يا أخانا أنا لم أعاهدك أنت، أنا عاهدت الله ربي وربك، فلا تحنثني في عهدي، خُذ الخروف وانطلق". فحصل هذا الرجل الطيب على أضحيته، وكذلك اليتامى حصلوا على خروفهم، ورضي الجميع، وكأن الله يقول للرجل: "لستَ أكرم مني يا عبدي".

والحديث عن (خروف العيد) لا يكتمل إلا بالحديث عن "صكوك الأضاحي"؛ ففي السنوات الماضية انتشرت فكرة هذه الصكوك باعتبارها وسيلةً جديدةً مستحدثةً تُسهل عملية شراء وذبح الأضاحي وتوزيع لحومها على المحتاجين؛ حيث يشتري المضحي صكاً بقيمةٍ ماليةٍ محددةٍ، من إحدى الجهات الرسمية الحكومية أو من مؤسسةٍ أهليةٍ خيريةٍ، تتولى بالوكالة عنه شراء الأضحية وذبحها وتوزيعها، والملاحظ أن هذه الصكوك صارت مجال تنافسٍ كبيرٍ بين مختلف الجهات التي تصدرها، ومن كثرة الحملات الإعلانية -الكثيرة والمكلفة- بات بعض المسلمين يختارون صك الأضحية لمن يقدم لهم أقل سعرٍ وأكبر كميةٍ من لحم الأضحية!

صدرت فتاوى من المؤسسات الدينية المختصة بإجازة هذه الصكوك، وامتدحها كثيرٌ من رجال الدين البارزين وشاركوا في الترويج لها، لكن آخرين يرون أنها بدعة.

يقول المؤيدون لفكرة صكوك الأضاحي إنها بدعةٌ حسنةٌ، وإنها مطابقةٌ للشريعة الإسلامية، وهي وسيلةٌ تُمكن الذي يرغب في التضحية ولا يستطيع القيام بذلك بنفسه من توكيل غيره للقيام نيابةً عنه بذبح الأضحية وإطعام الفقير. ويؤكدون على أن ذبح الأضاحي سوف يتم على الطريقة الشرعية، وفي الوقت الشرعي للذبح، ويجري إعداد قوائم المستحقين في المناطق الأكثر احتياجاً للأسر الأولى بالرعاية.

على الجانب الآخر ظهرت أصواتٌ تطالب بالتخلي عن صك الأضحية، باعتباره بدعةً، وتركز على أنه يجب التمسك بشعائر الدين وكل السُنن، وأن التنازل عن أي شيءٍ منها مهما كان صغيراً سيكون عند الله كبيراً، وسيؤدي تدريجياً إلى التنازل عن غيره من الشعائر والسنن. يقول أصحاب هذا الرأي إن الصكوك لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن من شروط قبول الأعمال الاتباع وهذا غير موجودٍ في الصكوك، كما أن العبادات توقيفيةٌ وغير خاضعةٍ للتغيير، ولا يمكن الابتداع بسبب عدم وجود مكانٍ تُذبح فيه الأضاحي؛ فالأولى المحافظة على الشعائر الدينية والعمل على إنشاء وتوفير المجازر وأماكن الذبح المناسبة.

 

في خضم هذا الجدل المستمر اطلعتُ على مقالٍ نُشر منذ عدة سنواتٍ، قالت كاتبته في مقدمته: "لم يعد لنا في هذا الزمان سوى اتخاذ موقع المشاهدة ليتناسب وإيقاع هذا العصر، وليواكب آخر التقاليع العصرية المستحدثة. فإذا كان الفرد منا لم يعد يحتمل بعض الوقت لكي يقف على أضحيته بين يدي الله، يكبر عليها ثم ينحرها، بل وتقف عليها الأسرة كلها من طفلها حتى شيخها. فأهلونا قد علمونا أن الحسنات بعدد شعراتها إذا ما وقف الفرد على نحرها، ثم تتجمع الأسرة في فرحةٍ غامرةٍ للإفطار من كبدها، وذلك بعدما نتصدق بالثلث ونهدي الثلث وندخر بالثلث. ثم إن وقوفنا عليها حين نحرها يغرس في نفوسنا كأطفال ما لن نتنازل عنه أبداً فيما بعد، وهو النحر يوم العيد". ثم أشارت كاتبة المقال إلى الآثار الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والتربوية لعملية النحر، وكيف أن صكوك الأضاحي لا تحقق أياً من هذه الآثار، وتساءلتْ: "صك الأضحية كسلٌ أم رفاهية"؟ وجعلتْ هذا التساؤل عنواناً لمقالها. أعجبني المقال وقمتُ بإعادة نشره، وإذ بالتعليقات تنهال عليّ ما بين مؤيدٍ ومُعارض!

وكان ردي أن فتاوى الجهات الرسمية التي أجازت هذه الصكوك، أجازتها للحالات الخاصة فقط، مسلمٌ قادرٌ مادياً يريد أن يُضحي ولا يستطيع لأسبابٍ خاصةٍ أن يقوم بذلك بنفسه فهو يوكل غيره -شخصاً كان أو مؤسسة- للقيام بذلك. ولا شك أن هذا رأيٌ شرعيٌ صحيح، لكن ما أود التنبيه إليه هو ألا يعتبر الناس هذه الإجازة هي الأصل فيما يتعلق بشعيرة الذبح، فهي شعيرةٌ من شعائر الله تستوجب التعظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ ويقول عنها سبحانه: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى﴾، ويقول كذلك: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما عملَ آدميٌّ منْ عملٍ يومَ النحرِ، أحبَّ إلى اللهِ منْ إهراقِ الدمِ إنها لتأتي يومَ القيامةِ بقرونِها، وأشعارِها، وأظلافِها، وإنَّ الدمَ ليقعَ من اللهِ بمكانٍ، قبلَ أن يقعَ على الأرضِ، فطيبُوا بها نفسًا]، وقال عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة: [يَا فَاطِمَةُ قَوْمِي إِلَى أُضْحِيَّتِكَ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ]. ولصكوك الأضاحي مزايا معتبرةٌ وفوائد لا يُنكرها إلا جاحد، لكنها لا ترقى أبداً لمزايا وفوائد التمسك بالسُنة النبوية الشريفة، وتبقى الصكوك رخصةً فقط لمن لا يستطيع، حتى لا نُفوِّت على أنفسنا ثواب الالتزام بالسُنة.

أحبتي .. عرضتُ عليكم رأي المؤيدين لفكرة الصكوك، كما عرضتُ رأي المعارضين لها، وحددتُ موقفي من هذين الرأيين، وأقول لمن له رأيٌ مخالفُ، كما قال الإمام الشافعي: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب". وكل عام ونحن وأنتم والأمة الإسلامية بخيرٍ، سواءً اشترينا (خروف العيد) أو تشاركنا في أضحيةٍ من البقر أو الجاموس أو الجمال وعظَّمنا شعائر الله والتزمنا بسُنة نبينا في أضاحينا، أو قمنا بشراء صك أضحيةٍ؛ فالخلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية، نسأل الله القبول.

اللهم تقبل منا طاعاتنا، واهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا اللهم سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/3rsSuQs