الجمعة، 3 سبتمبر 2021

المفسدون في الأرض

 

خاطرة الجمعة /307


الجمعة 3 سبتمبر 2021م

(المفسدون في الأرض)

 

يُحكى أن مدير مدرسةٍ في إحدى الدول العربية تزوج أخت فراشٍ يعمل عنده، وبُحكم النسب أصبح يرعاه على حساب المصلحة؛ فكلما كان يغيب معلمٍ يقول لنسيبه الفراش: "اذهب إلى الطلاب واعطهم حصةً بدلاً عنه"! ‏بعد مرور بعض الوقت، وبغياب الرقيب والحسيب، ثبته معلماً بالمدرسة!

مرت الأيام ودارت الأيام وارتقى مدير المدرسة وأصبح مديراً للتربية والتعليم؛ فرقى نسيبه الفراش فصار مديراً للمدرسة!

ودرات الأيام ومرت الأيام فأصبح مدير التربية نسيب الفراش وزيراً للتربية والتعليم، فرقى نسيبه الفراش فصار مديراً للتربية والتعليم! وصار له مكتبٌ فخمٌ، سياراتٌ، خدمٌ وحشمٌ، وأصبح حوله مفتشون ومدرسون يمسحون له الجوخ ويتملقونه. قهوة الصباح تدور، والجرائد اليومية على مكتبه يتصفحها كل يوم.

وأثناء تصفحه إحدى الصحف ذات يومٍ وقع نظره على عنوانٍ رئيسيٍ مكتوبٍ بخطٍ عريضٍ في الجريدة يقول إن "وزير التربية والتعليم قرر تشكيل لجان لتقييم شهادات العاملين والعاملات، وإعادة النظر بمواقعهم الوظيفية، بعد الاطلاع على مستوياتهم العلمية والثقافية بوزارة التربية". ارتبك الرجل وأصابه الذُعر من القرار، وخشي على نفسه، فهو فراشٌ، ولا شهادة لديه تؤهله للمنصب الذي هو فيه؛ فقام على الفور بالاتصال بنسيبه وزير التربية والتعليم الموقر وسأله مندهشاً: "يا نسيبي هل أغضبتك بشيء؟!"، رد عليه الوزير ضاحكاً: "لا"، قال: "إذاً ما هذا القرار الذي سيُدمر حياتي ويقلبها رأساً على عقب؛ فأنت تعلم أن لا شهادة لديّ؟!"، فضحك الوزير وقال له: "لا تخف، لقد وضعتك رئيساً للجان التقييم هذه!".

 

أحبتي في الله .. هذه صورةٌ من صور الفساد، يمارسها (المفسدون في الأرض) ربما بغير أن يتبينوا وجه الفساد فيها. حدثت هذه القصة بالفعل في بلدٍ عربيٍ شقيقٍ، بينت شكلاً من أشكال الفساد المدمر؛ حين تُعطى الإدارة والمناصب وتُوسد لغير أهلها!

 

صور الفساد كثيرةٌ ومتعددةٌ، من ذلك ما وقع في دولةٍ عربيةٍ أخرى إذ تناقل الناس قصة رجلٍ فقيرٍ له أخٌ وزير، قالت زوجة الفقير له: "اذهب لأخيك الوزير ربما يساعدك ببعض المال"، ذهب الرجل الفقير إلى أخيه الوزير وقال له: "تعلم أن حالتي المادية صعبةٌ وأحتاج بعض المال؛ أرجو أن تتكرم عليّ وتساعدني"، رد عليه الوزير وقال: "لا بأس يا أخي، مُر عليّ غداً بالمكتب، ولا يصير إلا الخير". توجه الرجل الفقير إلى مكتب أخيه الوزير في اليوم التالي؛ فرحب به وقال له: "اجلس ولا تتكلم ولا بكلمةٍ واحدةٍ؛ عليك أن تظل صامتاً، أنا فقط من يتكلم"، ثم قام الوزير واتصل بأحد المقاولين، وقال له: "المناقصة التي وعدتك بها للأسف تم ترسيتها على مقاولٍ آخر"، رد المقاول وقال: "كيف يا معالي الوزير؟! أنت وعدتني بها، وأنا بأمس الحاجة لها"، قال الوزير: "من حُسن حظك أن المقاول الذي رست عليه المناقصة موجودٌ عندي الآن بالمكتب، تعالَ وتفاهم معه ربما يتنازل لك عنها". وصل المقاول وقال لأخِ الوزير: "أنا مستعدٌ أن أعطيك ما تطلبه مقابل أن تتنازل لي عن المناقصة"، ظل أخُ الوزير صامتاً، لم يرد عليه، ولم يفتح فمه ببنت شفة، رد نيابةً عنه الوزير وقال للمقاول: "أعطه 3 مليون دينار ويتركها لك"، فتح المقاول حقيبةً كانت معه، وأخرج منها 3 مليون دينار وضعها على الطاولة أمام معالي الوزير، ثم خرج من المكتب. أخذ الوزير مليوناً وأعطى أخاه مليونين. عندما عاد الرجل الفقير إلى بيته سألته زوجته: "بَشِّر، هل أعطاك أخوك شيئاً؟"، قال لها: "أخي سرق مني مليون دينار، عيني عينك!".

أليس هؤلاء وأمثالهم هُم (المفسدون في الأرض)؟

 

لقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من الفساد ونهانا عنه: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وأوضح لنا أن أعمال المفسدين مهما بدت للغافلين مفيدةً وكثيرةً ومبهرةً فإن الله يُبطلها: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾، وإن اختلط الأمر على بعض الناس فلم يستطيعوا التمييز بين من يُفسِد ومن يُصلِح، فإن الله يعلم ما لا يعلمه هؤلاء: ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾، ﴿فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾. وبيّن الله عاقبة المفسدين: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾، وأخبرنا بأنه يزيدهم عذاباً يوم الحساب: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾، ودعانا للاعتبار واستيعاب الدرس وأخذ العظة: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾.

 

والفساد لا يتعلق فقط بالمصالح العامة والمبالغ الكبيرة، وإنما يبدأ وينشأ كقيمةٍ سلبيةٍ تُغرس للأسف في نفوس الأبناء من صغرهم -ولو بغير قصدٍ- ثم تنمو معهم حتى يتعايشوا معها فتكون جزءاً عادياً من حياتهم اليومية ومسلكهم المعتاد فيصبحون هُم وغيرهم عندما يكبرون أغلبيةً يُسميهم الناس (المفسدون في الأرض).

وفي ذلك المعنى تُروى طرفةٌ عن فتىً عاد من مدرسته وأخبر أمه أن إدارة المدرسة طلبت من الطلاب المقتدرين التبرع ببعض المال لتوزيعه على الطلاب اليتامى، فقالت له أمه: "انتظر حتى يعود أبوك من العمل وأعرض عليه الأمر". عندما عاد الأب أخبرته الأم بموضوع التبرع فأعطاها ٣٠٠ درهم للتبرع بها، ودخل إلى غرفة النوم ليرتاح قليلاً. نادت الأم على ابنها وأعطته ٢٠٠ درهم ليتبرع بها! مرت عدة أيام وتسلم الأب رسالةً من إدارة المدرسة تشكره فيها على التبرع بمبلغ ١٠٠ درهم!

 

وهذه طرفةٌ أخرى عن ذات الموضوع تقول إن أخوين فاشلين في الدراسة، تسلم كلٌ منهما شهادته آخر العام، مكتوبٌ فيها في خانة النتيجة "راسب"، تردد كلٌ منهما في عرض شهادته على والده خوفاً من عقابه، لكن الوالد -الذي يشغل وظيفةً حكوميةً بسيطةً في إحدى وزارات الخدمات- سألهما عن الشهادة، فلم يجدا مفراً من عرض شهادتيهما عليه. قدَّم الابن الأول شهادته لأبيه؛ فنال عقابه على الفور ضرباً وركلاً وشتماً وتأنيباً، أما الابن الآخر فعندما قدَّم شهادته لأبيه لم يضربه ولم يُعنفه وإنما اكتفى بقرصة أُذنٍ خفيفةٍ وهو يقول له: "هذه آخر مرةٍ أقبل فيها أن ترسب، اجتهد أكثر كي تنجح!". بعد أن ذهب الأب سأل الابن الأول أخاه: "ماذا فعلتَ كي تتجنب عقاب الوالد؟"، أجابه: "لقد وضعتُ تحت الشهادة -وأنا أسلمها له- ورقةً ماليةً من فئة ٢٠ جنيهاً!".

 

هكذا تنشأ النار من مستصغر الشرر؛ فيكبر الأبناء وهم يعتقدون أن مثل هذه الأمور عاديةٌ ولا شيء فيها، فيتفننون في أدائها، ويُبدعون في أساليبها وأشكالها، ويبرعون في التخطيط لها وتنفيذها. يكبر الأبناء في بيئةٍ تمارس الفساد وتتعايش معه، فتجدهم يُطلقون على الرشوة مرةً "الشاي"، ومرةً إكرامية، ومرةً هدية، بل والأدهى أنك تجدهم يُلبسون فسادهم ثوباً دينياً؛ فيقولون لمن يتظاهر بعدم قبول الرشوة "النبي قَبِل الهدية"! إلى هذا الحد زيّن لهم الشيطان أعمالهم، ويكبر وينمو حزب الشيطان؛ ألا إنهم هُم (المفسدون في الأرض)!

 

وقد اقترح أحد المهتمين بالأمر عدة مؤشراتٍ تُبين استعداد الشخص للفساد؛ فقال تحت عنوان: "محاربة الفساد تبدأ من الذات - الفحص الذاتي للفساد":

- إذا وضعتَ كميةً من السكر أو الحليب في الشاي وأنت في فندقٍ، أكثر مما تفعل في المنزل، فإن لديك استعداداً للفساد.

- إذا كنتَ تستخدم المزيد من المناديل الورقية أو الصابون أو العطور في المطعم أو المكان العام، أكثر مما تفعل في المنزل، فإنه إذا أُتيحت لك الفرصة للاختلاس فسوف تختلس.

- إذا كنتَ تُقدِّم لنفسك المزيد من الطعام الذي يُمكنك التهامه في الأفراح والبوفيهات المفتوحة لمجرد أن شخصاً آخر سيُسدد الفاتورة، فإذا أُتيحت لك فرصة أكل المال العام فستفعل.

- إذا كنتَ تتخطى الناس عادةً في الطوابير، فستكون لديك إمكانية التسلق على أكتاف غيرك للوصول إلى السلطة.

-إذا اعتبرتَ أن ما تلتقطه من الشارع من مالٍ وغيره هو حقك، فلديك بوادر لصوصية.

- إذا كنتَ تتجاوز إرشادات المرور، ولم يكن لديك أي اعتبارٍ لإشارات المرور، فإن لديك استعداداً لكل التجاوزات ولو سقط فيها أبرياء.

وختم بقوله: "فلنحاول أن نكون أشخاصاً يتمتعون بالتميز أينما وُجدنا. وتذكر أن الأمانة هي ما تفعله بينك وبين نفسك، وليس ما تفعله في حضور الناس".

 

أحبتي .. يجب علينا أن نعترف بأن معظمنا -إلا من رحم ربي- فاسدون ومفسدون بدرجةٍ أو أخرى، في الكثير من مجالات الحياة: داخل الأسرة، في علاقاتنا مع الآخرين، في أعمالنا ووظائفنا، والأسوأ أننا ناقلون ثقافة الفساد لأبنائنا من غير أن نشعر.

علينا أن نفيق ونُحاسب أنفسنا، ونتوقف عن ممارسة جميع أشكال الفساد والإفساد، ولا نكون ممن قال عنهم المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اجعلنا من المصلحين، ولا تجعلنا ممن يُقال عنهم أنهم هُم (المفسدون في الأرض).

 

https://bit.ly/3kTPDx8