الجمعة، 11 يناير 2019

ألا بذِكر الله تطمئن القلوب


الجمعة 11 يناير2019م

خاطرة الجمعة /١٦٩
(ألا بذِكر الله تطمئن القلوب)

كتب أحد المسلمين الجدد في مذكراته أنه من بين أسباب تفكيره في الإسلام أيام شبابه أنه كان في عام 1978م يعمل طبيب امتياز في قسم التجميل والحروق بالمستشفى الرئيسي الجامعي بالإسكندرية، وأنه كان وقتئذٍ من الشمامسة الكبار وأستاذاً للغة القبطية وأستاذاً في مدارس الأحد في كنيسة العذراء مريم في محرم بك بالإسكندرية. يقول الكاتب: ذات يومٍ كنت في عنبر الحروق للرجال وحدث حريقٌ في مطبخ مطعم سانتا لوتشيا في محطة الرمل، وجاءت سيارات الإسعاف بالمصابين إلينا، وكان مريضي هو أشدهم إصابةً؛ فقد كان هو الطباخ، كانت نسبة الحروق في جسده مائة بالمائة، وكان يصرخ صراخاً فظيعاً من شدة الألم، وكنا نعرف بحكم الخبرة أنه سيموت خلال 24 ساعة. ولكني بدأت معه الإسعافات الطبية كالعادة وأعطيته مسكناً للألم حتى أتمكن من تطهير الحروق في جسده. فلما هدأ وبدأت الإسعافات وأولها تركيب قسطرة للبول، قال لي بهدوءٍ شديدٍ جعل شعر رأسي يقف: "يا دكتور انتظر .. وفر جهودك وأدويتك لزملائي"، فتعجبت جداً، أضاف: "أنا رجلٌ مسلمٌ مؤمنٌ وموحدٌ بالله، وكنت ممرضاً في الجيش ودخلت الحرب وتعلمت إسعاف الحروق وأعلم أنني سأموت حتماً خلال ساعاتٍ قليلةٍ فلا تتعب نفسك وتضيع الأدوية هباءً، تكفيني الحقنة المسكنة كلما شعرت بالألم واتركني أموت في سلامٍ فأنا لا أخاف من الموت وأتمنى لقاء الله وأنا أتلو القرآن". كاد شعر رأسي يشيب في تلك اللحظة. أشاح بوجهه عني وأخذ يرتل القرآن في هدوءٍ وكلما رتل ازداد هدوءاً. وفي صباح اليوم التالي لم أجده، سألت عنه الممرضات، فقالت لي إحداهن أنه ظل يرتل القرآن حتى خرجت روحه بهدوء، ولم يطلب إلا شربة ماءٍ وحقنةً مسكنةً واحدةً فقط. ظلت صورته في مخيلتي، وما زالت إلى اليوم، كلما تذكرته أراه شاباً قوي البنيان وجسده كله محترق. ودمعت عيناي يومئذٍ وما زالتا. وأخذت أسأل نفسي: "كيف لا يخاف من الموت؟ هل بسبب الإسلام؟ أم بسبب القرآن؟ أم كلاهما معاً؟ ما هذا اليقين؟ ما هذه الطمأنينة؟ ما هذا السلام مع الله وحب لقائه؟ ما هذا الدين؟ وما سر هذا الكتاب الذي يرتل كلماته فيزداد سكينة؟". ولم أنس هذا الرجل حتى أسلمت بعد حوالي خمسة عشر عاماً، سنة 1993م، وفهمت ما قاله بعد إسلامي بسنين، لما تثبّت إيماني وتعلمت القرآن وتفسيره. وكلما تذكرته أقول: "اللهم ارحمه، واغفر له وسامحه، واجعل قبره روضةً من رياض الجنة، واجعل كلامه معي في ميزان حسناته إلى يوم ألقاك". ولا أملُّ من قولي: "الحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على نعمة التوحيد، الحمد لله على نعمة القرآن، الحمد لله على نعمة الإيمان واليقين".
قرأت هذه القصة الحقيقية فتذكرت على الفور الآية الكريمة: (ألا بذِكر الله تطمئن القلوب).

ولأن الشيء بالشيء يُذكر؛ فإن قصةً أخرى تُروى عن رجلٍ غنيٍ وتقيٍ سافر لبريطانيا لعمل فحوصاتٍ طبيةٍ بسبب مرضٍ أصابه؛ وعندما قابله الطبيب المختص بادره قائلاً: "أظن من طريقة لباسك أنك عربيٌ مسلمٌ"، فقال الرجل: "نعم". قال الطبيب أريد أن أستفسر منك عن أمر". وبدأ الكلام قائلاً: "أنا كما تعلم طبيبٌ بريطانيٌ شهيرٌ، ومهنتي تجعلني في مستوىً اجتماعيٍ راقٍ ومستوىً ماديٍ ممتاز، وقد جربت كل أنواع الملذات التي تخطر ولا تخطر ببالك، وسافرت لأجمل الأماكن، وجربت كل المتع، ولكني رغم ذلك لستُ سعيداً حتى أنني فكرت بالانتحار وذهبت لأشهر الأطباء النفسيين دون جدوى، وأنت غنيٌ مثلي فهل لديك شعوري؟!". يقول الرجل: "تفاجأت بكلامه، ولكن الله ألهمني فدار بيننا الحديث التالي:
الرجل: أنت إن أردت أن تمتع سمعك، ماذا تفعل؟ استغرب الطبيب وأجاب: اسمع الموسيقا. الرجل: وإن أردت أن تمتع أنفك، ماذا تفعل؟ أجاب الطبيب: أشم العطور والورود. الرجل: وإن أردت أن تمتع بصرك، ماذا تفعل؟ أجاب: انظر لحديقةٍ غناء أو امرأةٍ جميلة. فرد الرجل: لماذا لا تمتع سمعك برائحة الورود؟، فضحك الطبيب وأجاب كيف؟ لا يمكن. فأتبع الرجل: لماذا لا تمتع بصرك بالموسيقا؟ فأجاب الطبيب: لا يمكن؛ لكل جارحةٍ من الجوارح التي ذكرتها متعتها! فسأل الرجل: الضيق الذي تشكوه هل هو بعينيك أو انفك أو أذنيك؟ فرد الطبيب: هو ضيقٌ بصدري وقلبي. فسأل الرجل: كيف تمتع قلبك؟
فاحتار الطبيب وسكت. هنا قال الرجل: كما أن لكل جارحةٍ متعتها، فإن القلب متعته بالقرب من خالقه؛ هذا هو سر ذهاب شعور الضيق وسبب انشراح الصدر.
صدق من قال: (ألا بذِكر الله تطمئن القلوب).

أحبتي في الله .. يحثنا ديننا الحنيف على ذِكر الله كثيراً لتزكو نفوسنا وتتطهر قلوبنا. وبالذِكر نستمد من الله سبحانه وتعالى العون والتوفيق؛ لأجل هذا جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المشرفة ما يدعو إلى الإكثار من ذِكر الله عزَّ وجلَّ في كل وقتٍ وعلى كل حال؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾، وقال سبحانه: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وقال جلَّ شأنه: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾. وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ، ذِكْرُ اللَّهِ].
وقال صلوات الله وسلامه عليه: [مَنْ قَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ وبحَمدِهِ، غُرِستْ لهُ نَخْلَةٌ في الجَنَّةِ].
وقال صلى الله عليه وسلم: [سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ]، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: [الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ].
وجاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَليّ؛ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: [لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ].
يقول أهل العلم إن ذِكر الله عزّ وجلّ عبادةٌ تملأ قلب الإنسان بالطمأنينة، وتؤثّر على حياته بغرس السكينة فيها، ويدلّ على ذلك قول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. قال المفسرون في تفسير هذه الآية الكريمة: "إذا سمع المؤمنون ذكر الله سبحانه أحبّوه، واستأنست قلوبهم بذكره، والمراد بالقلوب الواردة في الآية قلوب المؤمنين"، وقالوا: "إنّ معنى الاطمئنان الوارد في الآية؛ هو السكون"، وقالوا: "إنّ ذلك يكون بالقرآن، والسكون يكون بحصول اليقين في قلب الإنسان، أمّا الاضطراب فيكون في حصول الشكّ، فيكون معنى الآية بذلك؛ أنّ قلوب المؤمنين تسكن بذكر الله، ويستقرّ فيها اليقين"، ولذلك قيل: "إنّ في الدنيا جنةٌ، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، والمراد بذلك جنة ذِكر الله سبحانه وتعالى. إن استئناس الإنسان بذِكر الله سبحانه، يتبعه سكون قلبه، وراحته، واستشعاره لعظمة ربّه جلّ وعلا، ورحمته، وحكمته، وقوته، وقهره، وكذلك سننه التي يُجريها في هذا الكون، ممّا يُطمئن قلبه لكلّ ما يجري حوله من تقلّبات الحياة، واضطرابها، فيكون مستبشراً متفائلاً حتى حين يقلق ويرتاب الناس من حوله، كما أنّه يصبر على البلاء الذي قد يصيبه في حياته، لأنّه يرجو بذلك مثوبة الله سبحانه.
ولذِكر الله سبحانه فوائدٌ وثمراتٌ كبيرةٌ؛ فهو يعدّ قوتاً للقلب، وغذاءً للروح، وشفاءً للأسقام، وإزالةً للهموم. إنه سببٌ لحصول النور في قلب الإنسان، ووجهه، وفي انفتاح أبواب المعرفة أمامه، وفي قُربه من الله تعالى. يلين قلب الإنسان، ويزيد في رزقه، وينزل عليه نصر الله تعالى، ومعونته. ذِكر الله تعالى يعدّ عوناً للإنسان على طاعته، فهو يدفع الإنسان إلى القيام بالطاعات، ويصرفه عن المعاصي، والذنوب. وهو سببٌ في تنزّل الرحمة والسكينة على الذاكرين، وسببٌ في حفوفهم بالملائكة. فالذكر حياة القلب، وسبيل لانشراح الصدر، به تُجلى الكروب، وتزول الهموم، وتُطرد الشياطين، وعلى الضد من ذلك، التارك للذكر يتمكن منه الشيطان ويتخذه قريناً؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، كما أنه يلقى عقوبة الدنيا في ضيق العيش، وتكون عقوبته في الآخرة أشد خزياً؛ قال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

أحبتي .. ذِكر الله سبحانه وتعالى عبادةٌ يسيرة الأداء عظيمة الأجر والثواب؛ لا تكلف مالاً، ولا تتطلب جهداً، ولا يُشترط لأدائها طهارةٌ ولا استقبال قبلةٍ، ومع ذلك يغفل عنها كثيرٌ من الناس فلا تكونوا منهم؛ اذكروا الله في كل وقتٍ وحين؛ عند قيادة السيارة، أو ركوب وسيلةٍ من وسائل النقل العام، وفي الطائرة وفي الباخرة، وعند انتظار دورٍ في عيادة طبيب أو مشفى، عند المشي إلى المسجد أو إلى السوق أو جهة العمل، قبل النوم، وبعد الاستيقاظ .. اذكروا الله دائماً وفي كل حال.
يقول أحد العارفين: "الإكثار من ذكر الله براءةٌ من النفاق، وفكاكٌ من أسر الهوى، وجسرٌ يصل به العبد إلى مرضاة ربه وما أعده الله له من النعيم المقيم".
اللهم لا تجعلنا من الغافلين، واجعلنا بإحسانك وفضلك من الذاكرين لك كثيراً، واجعل قلوبنا مطمئنةً بذكرك؛ (ألا بذِكر الله تطمئن القلوب).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.
https://goo.gl/ggg5LE