الجمعة، 29 ديسمبر 2023

قوة الإيمان

 

خاطرة الجمعة /427

الجمعة 29 ديسمبر 2023م

(قوة الإيمان)

هذه قصةٌ من قصص الصبر و(قوة الإيمان)، يرويها طبيبٌ استشاريٌ وجراح أمراض قلبٍ سعوديٍ، قال الدكتور حفظه الله: أجريتُ عمليةً لطفلٍ يبلغ من العمر سنتين ونصف، وبعد يومين وبينما هو جالسٌ بجوار أمه بحالةٍ جيدة، إذا به يُصاب بنزيفٍ في القصبة الهوائية ويتوقف قلبه لمدة 45 دقيقة وتتردى حالته، فأتيتُ إلى أُمه فقلتُ لها: "ابنك هذا أعتقد أنه مات دماغياً"، أتدرون بماذا ردّت عليّ؟ قالت: "الحمد لله. اللهم اشفهِ إن كان في شفائه خيراً له" وتركتني! كنتُ أنتظر منها أن تبكي، أن تفعل شيئاً، أن تسألني، لم يكن شيءٌ من ذلك! وبعد عشرة أيامٍ بدأ ابنها يتحرك، وبعد 12 يوماً يُصاب بنزيفٍ آخر كما أُصيب من قبل، ويتوقف قلبه كما توقّف في المرة الأولى، وقلتُ لها ما قلتُ لها من قبل؛ فردّت عليّ بكلمتين: "الحمد لله"، ثم ذهبت بمصحفها تقرأ فيه. تكرر هذا الموقف ستّ مرّاتٍ. وبعد شهرين ونصف، وكانت قد تمّت السيطرة على نزيف القصبة الهوائية فإذا به يُصاب بخرّاجٍ في رأسه لم أرَ مثله، وحرارته تجاوزت الأربعين درجة؛ قلتُ لها: "يبدو أن ابنك انتهى وسوف يموت"، قالت: "الحمد لله. اللهم إن كان في شفائه خيراً فاشفهِ يا رب العالمين" وذهبت وانصرفت عنّي لتقرأ في مصحفها. بعد أسبوعين أو ثلاثة شفا الله ابنها، ثم بعد ذلك أُصيب الابن بفشلٍ كلويٍ كاد أن يقتله؛ فقلتُ لها ما قلتُ سابقاً، فقالت: "الحمد لله. اللهم إن كان في شفائه خيراً له فاشفهِ". بعد ثلاثة أسابيع شفاه الله من مرض الكلى، لكن بعد أسبوعٍ إذا به يُصاب بالتهابٍ شديدٍ في الغشاء البلوري حول القلب، وصديدٍ لم أرَ مثله، فتحتُ صدره حتى ظهر قلبه لأخرج الصديد، وقلتُ لها: "ابنك الظاهر هالمرة ما فيه أمل"! قالت: "الحمد لله". بعد ستة أشهرٍ ونصف خرج ابنها من العناية المركزة لا يرى ولا يتكلّم، لا يسمع ولا يتحرّك، كأنه جثةٌ هامدةٌ، وصدره مفتوحٌ، وقلبه يُرى إذا نُزِع الغيار، وهذه المرأة لا تعرف إلا "الحمد لله".

بعد شهرين ونصف خرج ابنها من المستشفى يسبق أُمه ماشياً سليماً معافىً، كأنه لم يُصب بأي شيء! بعد سنةٍ ونصف أُخبرت بأن هناك امرأةٌ ورجلٌ وطفلان يُريدون أن يُسلموا عليّ، سمحتُ لهم بالدخول؛ فرأيتُ مريضي وقد أصبح في الرابعة من عمره، ورأيتُ أُمه تحمل على كتفها طفلاً عمره يقارب الثلاثة أشهر، قلتُ لزوجها مازحاً: "ما شاء الله؛ هذا رقم 10 أم 12 من الأولاد؟" فضحك وقال: "يا دكتور هذا الثاني! لأننا بقينا 17 سنة في عُقمٍ نبحث عن علاجٍ فرزقنا الله بهذا الولد ثم ابتلانا به فرزقنا ربي الشفاء؛ إنه هو المنان الكريم".

امرأةٌ تنتظر 17 عاماً وتذهب إلى بلاد العالم للعلاج ثم يأتيها طفلٌ كهذا، ثم يُصاب بما يُصاب ثم تصبر. رمت أحمالها على الحي الذي لا يموت، الذي يُحيي العظام وهي رميم، وتوكلت عليه وتذللت إليه وانطرحت بين يديه. أتدرون من احترمها؟ إنهنّ الممرضات غير المسلمات؛ فهي -كما قالت إحدى الممرضات- امرأةٌ عندها مبادئ، وقوة شخصيةٍ، لكن الممرضة لم تعرف أن عندها -قبل ذلك كله- (قوة الإيمان).

 

أحبتي في الله.. صبر هذه المرأة هو شكلٌ من أشكال (قوة الإيمان)، وهناك أشكالٌ أخرى لهذه القوة، منها مبادرة المؤمن إلى عمل الخير وسعيه نحو زيادة رصيده في الآخرة؛ كما حدث مع هذا الصحابي الجليل؛ إذ رُويَ أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لفلانٍ نخلةً وأنا أقيم حائطي بها فَمُرْهُ أن يعطيني أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [أعطها إياه بنخلةٍ في الجنة] فأبى. وأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلك بحائطي، قال: ففعل، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ابتعتُ النخلة بحائطي فجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَم مِن عِذقٍ رَداحٍ في الجنَّة لأَبي الدَّحداحِ] "العِذْقُ الفرْعُ مِن النَّخلةِ، والرَّداحُ الثَّقيلُ بحِملِه لكثرَةِ وغَزارةِ ثَمرتِه"، فأتى أبو الدحداح امرأته فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فإني بعتُه بنخلةٍ في الجنة، فقالت: قد ربحتَ البيع.

إنها (قوة الإيمان)؛ الإيمان بالله والإيمان بالغيب، وتلك درجةٌ عاليةٌ لا تُنال إلا باليقين والثقة بالله الواحد الأحد، لا الثقة بحطام الدنيا الفانية.

 

ومن المعلوم أن الإيمان يزيد وينقص، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾، وقوله: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾، وقوله أيضاً: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾، وقوله كذلك: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾، وقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾.

 

يقول أهل العلم إن الإيمان: قوْلٌ باللسان، وعمَلٌ بالأرْكان "الجوارح"، وعَقْدٌ بالجَنَان "القلب"، والإيمان بالله ركنٌ أساسيٌ في حياة المؤمنين، ينبعث من القلب ويشمل الثقة الكاملة بأن الله هو المُدبر لكل شيءٍ في الكون. إن الإيمان بالله مصدر قوةٍ وأملٍ في الأوقات الصعبة، يجعلنا نتقبل مصائرنا بصبرٍ ورضا. وبالإيمان بالله، نجد الاستقرار والراحة النفسية، فهو يمنحنا الإحساس بالأمان والحماية، إنه الباب الذي نستند إليه في اللحظات الصعبة، والدافع الذي يحفزنا للسعي نحو الخير والتقرب إلى الله. وعندما نثق بالله، نجد الاستقرار النفسي والراحة الداخلية. إنه الدافع الذي يدفعنا للسعي نحو الخير والعمل الصالح. الإيمان بالله يمنحنا القوة للتخلص من الخوف والقلق ويُعزز ثقتنا في أن الله هو المعين الحقيقي في حياتنا. و(قوة الإيمان) قيمةٌ عُليا مهمةٌ في حياتنا تجعلنا موقنين بالقوة الخفية لله سبحانه وتعالى؛ فمع أخذنا بالأسباب العلمية الظاهرية لا ننسى مسبب الأسباب، ولا ننسى الأسباب الخفية التي تصنع المعجزات، لا يعلمها إلا الله سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾. إن إيماننا بالله صاحب اللُطف الخفي الذي ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يجعلنا نُحافظ على (قوة الإيمان) ونسعى لتعزيزها. إن الكثير من الأعمال الصالحة لها أثرٌ عظيمٌ في زيادة (قوة الإيمان)؛ من ذلك: تعلم العلم الشرعي، وقراءة القرآن مع التدبر، والنظر في سير الأنبياء والصالحين، والتفكر في آيات الله الكونية التي تدل على عظمة الخالق وبديع صنعه، والاجتهاد في العبادة من صلاةٍ وزكاةٍ وصدقةٍ وصيامٍ وحجٍ وعمرةٍ وذكرٍ واستغفارٍ ودعاءٍ وصلة رحمٍ، وكذلك الاهتمام بأعمال القلوب من خوفٍ وخشيةٍ ومحبةٍ ورجاءٍ وتوكلٍ وغيرها، فكل ذلك مما يزيد إيمان العبد ويُقربه إلى ربه، فإذا شعر المسلم بفتورٍ ونقصٍ في إيمانه فليُسارع إلى عمل الصالحات، ففيها دواؤه وصلاحه. ومن أسباب زيادة الإيمان البُعد عن المعاصي صغيرها وكبيرها، فهي تُورث العبد ضيقاً في قلبه، وظلمةً في وجهه، وقلةً في رزقه، ونقصاً في دينه.

 

أحبتي.. طالما أن الإيمان يقوى ويزداد، ويضعف ويقل، فلنحرص على تقوية إيماننا؛ بالمحافظة على العبادات، وأدائها على أحسن وجهٍ ممكن، كما أن علينا أن نزيد من النوافل، ونُسارع في عمل الخيرات، ونبذل كل الجهد من أجل تنقية نفوسنا من كل ما يُغضب المولى عزَّ وجلَّ؛ من حقدٍ وحسدٍ وكِبرٍ وتفاخرٍ وأنانيةٍ وبُخلٍ وكسل، وتزكيتها لتتحول من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس المطمئنة؛ فلن نُحقق (قوة الإيمان) إلا بمجاهدة النفس ومخالفة الهوى، والصبر على نوائب الدهر وشكر الله على كل حال.

اللهم اجعلنا ممن قلتَ فيهم: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾.

اللهم إنّا قد عقدنا العزم على أن نُقوي إيماننا فأعنّا، وكُن لنا ولياً وكُن لنا نصيراً.

https://bit.ly/3TFJ7wW