الجمعة، 9 أكتوبر 2020

طريق السعادة

 

الجمعة 9 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /260

(طريق السعادة)

 

أهدي قصة خاطرة هذا الأسبوع إلى كل حائرٍ في هذه الدنيا، تائهٍ، فاقدٍ للبوصلة الصحيحة التي ترشده إلى بر الأمان .. أهديها إلى كل باحثٍ عن السعادة، يريد أن يعرف كيف يصل إليها ..

لن أطيل؛ أترككم مع تفاصيل القصة، وهي حقيقيةٌ، يرويها صاحبها بنفسه؛ كتب يقول:

بدأتُ حياتي منذ نعومة أظفاري في أسرةٍ عمادها الطُهر والفضيلة. لا أنسى أيام الطفولة الجميلة يوم أن دخلتُ المدرسة الابتدائية، كنتُ لا أرضى بأي تقديرٍ دون الامتياز، وبالفعل كان التفوق والامتياز حليفي، حتى وصلتُ إلى المرحلة المتوسطة حينئذٍ تغير مجرى حياتي؛ ففي السنة الأولى من المرحلة المتوسطة التقيتُ بمجموعةٍ من الشباب المنحرفين، كنتُ أعلم أن والدي لم يكن ليرضى أن أرافقهم، لكن نداء الشيطان كان أعلى من صوت أبي، بدأتُ أولى خطوات الانحراف بالالتقاء مع رفاقي دون علم والدي. مضت الأيام وخطواتي الشيطانية تمتد وتطول يوماً بعد يوم، وسرعان ما أوصلتني تلك الخطوات مع رفاق السوء إلى بلاد العُهر والرذيلة؛ حيث أدمنتُ السفر إلى تلك البلاد، لم أكن أملك في ذلك الوقت إلا القليل من النقود، ومع تكاليف السفر، وإنفاقي على الشهوات، كان لا بد لي من مصدر دخلٍ أحصل منه على المزيد من المال، فكانت الخطوة الشيطانية التالية هي اشتراكي مع بعض رفاقي في السرقة طمعاً في الحصول على المال، وبعد أيامٍ من تعلّم السرقة، وممارسة النصب والاحتيال، أصبحتُ أمهر رفاقي في جمع المال فصرتُ زعيماً لهم، أتحكم فيهم كيفما أشاء. ومع توفر المال استقبلتُ حياة الوهم الجديدة، أتنقل بين أفخر الشقق المفروشة، وأتناول أفخر الأطعمة، كنتُ أظنُّ أن المال هو (طريق السعادة)؛ فكل شيءٍ يمكن الحصول عليه بالمال. مضت الأيام وأنا ألهث بحثاً عن السعادة، ولكن دون جدوى؛ فقد كنتُ كالذي يشرب من ماء البحر، لا يزداد بالشرب إلا عطشاً، ولما لم أجد ضالتي في حياتي البائسة، توجّهتُ إلى عالَمٍ آخر أبحث فيه عن السعادة، حيث المخدرات، ومصاحبة العاهرات. بلغ إنفاقي اليومي قرابة خمسة آلاف ريال بسبب إدماني على المخدرات، وعلاقاتي مع النساء. ومع هذا كله لم أكن أشعر بالسعادة إلا لحظاتٍ قليلة، ثم يتحول يومي بعدها إلى همومٍ وأحزان. لقد غرقتُ في بحور الشهوات، وتُهتُ في دهاليز الظلمات. نكدٌ في العيش، وظلمةٌ في القلب، وضيقٌ في الصدر. ولم أزل أمارس جريمة السرقة حتى شاء الله تعالى أن يُقبض عليّ متلبساً بالسرقة مع بعض رفاقي، وما هي إلا لحظاتٌ فإذا أنا حبيسٌ وراء القضبان في ظلمة السجن، وكل ذلك بسبب إعراضي عن ذكر ربي.

استيقظتُ من غفلتي، وصورة والدي الحبيب في مخيلتي، ونصائحه المشفقة كأني أسمعها لأول مرة. شعرتُ وكأنما نداءٌ ما في أعماق قلبي يناديني: "ألا تستحيي من الله؟ ألا تتوب إلى الله"؟ بلى، أريد أن أتوب، لكن الأمر لم يكن سهلاً؛ صراعٌ مريرٌ بين نفسي التي تعلقت بالشهوات، وبين نداء الإيمان في قلبي. وبينما أنا في هذه الحال تتقاذفني أمواج الصراع إذ بالقاصمة تنزل على ظهري؛ ففي أحد الأيام اتصلتُ بأهلي لأطمئن عليهم، فإذا بالخبر المؤلم: "أحسَن الله عزاءك"، "مَن الفقيد"؟ إنه والدي الحبيب، بكيتُ بكاءً مُراً، وحزنتُ حزناً شديداً على هذا الأب الرحيم، الذي طالما بكى وبكى بسبب إجرامي وانحرافي.

كانت هذه الأحداث المؤلمة بدايةً حقيقيةً للاستقامة والإنابة إلى الله تعالى؛ لقد أقلعتُ عن الذنوب والمعاصي، وأقبلتُ على الصلاة والقرآن. وأخيراً، وبعد سنواتٍ من الألم والمعاناة، وجدتُ (طريق السعادة)، أتدرون أين؟ لقد وجدتُه في تقوى الله، كما قال الشاعر:

ولستُ أرْ السعادةَ جمعَ مالٍ           ولكنّ التقيَ هو السعيدُ

إنني أحدثكم الآن من بين جدران السجن، وأنا أشعر ولله الحمد براحةٍ نفسيةٍ لم أذقها في حياتي، اعتكفتُ بمسجد السجن ثلاثة أشهرٍ حفظتُ خلالها خمسة أجزاء من القرآن، أصبح حفظ القرآن سهلاً بسبب إقلاعي عن الذنوب. ثم مَنّ الله عليّ فأصبحتُ إماماً للمصلين بمسجد السجن. صدقوني، لم أعد أفكر في موعد انتهاء مدة السجن، وخروجي منه؛ ولماذا أفكر وقد كنتُ قبل دخولي السجن حبيساً عن ربي، أسيراً لهواي، سجيناً بين جدران شهوتي، أما الآن فقد أطلق الإيمان سراحي، وأعاد لي حريتي المفقودة. صدقوني، إنني الآن حرٌ طليقٌ وراء القضبان. إنني راضٍ عن ربي، وأسأله أن يرضى عني، وأن يُكفِّر عني ما قد سلف في أيامي الخالية، وأن يُثبِّتني على دينه حتى ألقاه، والحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنتُ لأهتدي لولا أن هداني الله.

 

أحبتي في الله .. حقاً إن (طريق السعادة) هو طريق التقوى واتباع شرع الله، أما الإعراض عن ذكر الله والبعد عن شرعه فهو وصفةٌ مؤكدةٌ لضنك المعيشة؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

هما اختياران إذن لا ثالث لهما: الأول: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، ويكون عدم الضلال وعدم الشقاء بقدر اتباع الهدى. والثاني: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، وتكون المعيشة الضنك بقدر الإعراض عن ذكر الله، والبعد عن اتباع طريق الهدى، والجزاء من جنس العمل. لذلك يقول العلماء إذا أصَابكَ الحزن والضِّيق والهمومُ الدَّائمَة فتأمل هذه الآية، وقُم بِمُراجعةِ حِساباتكَ وتقصيرِك مع اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فالشقاء ثمرة الضلال، ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها. إن العبد ليعمل الذنب فما يزال به كئيباً؛ فمن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها الضيق والهم والحزن والغم والأسى.

ويصف أحد علماء النفس شخصية المُعرِض عن ذكر الله فيقول: هي شخصيةٌ قلقةٌ مضطربةٌ، أرهقها الجري، بعيدةٌ عن الخشوع في الصلاة والتذلل لله، محرومةٌ من السعادة الحقَّة، ترى وَهْمَ السعادة في دنيا زائفة، أعرضت عن ذكر الله، وأضاعت أوامرَه، فهي كئيبةٌ حزينةٌ، تضحك والحزن يقطع كبدها، تفرح وغيوم البؤس تحوم حول عينها، تبحث عن ابتسامةٍ زائفةٍ وكلمةٍ تُلقى على قارعة الطريق، إنها تبحث عن (طريق السعادة) والحياة الطيبة، لكنها ضلَّتِ الطريق.

ويرى أهل العلم إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون القرآن الكريم منهاجاً للحياة الكريمة، وطريقاً للسعادة والهناء، فقد ورد وصف أهل الجنة في القرآن الكريم بالسعداء؛ يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذينَ سُعِدوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ﴾، فثمن السعادة في الحياة الآخرة الحصول على رضا الله تعالى في الدنيا، مع تحقيق العبودية الكاملة له سبحانه. وكثيراً ما يظنّ الناس أنّ السعادة تكون في جمع المال، أو بالوصول إلى المناصب العليا، إلّا أنّ الواقع يُبطل ذلك، فلو حصل الإنسان على جميع المُتع الزائلة من مالٍ وجاهٍ وشهرةٍ، وفقَدَ السكون والطمأنينة في قلبه لكان أشقى الناس؛ فالسعادة الحقيقية تكون بالقرب من الله تعالى، والشقاء يكون في البُعد عنه؛ فالسعادة حالةٌ من صفاء النفس وطمأنينة القلب، تأتي من خلال الموازنة بين مطالب الجسد والروح، وبين الراحة الشخصيّة وراحة الآخرين، وبين إعمار الدنيا وإعمار الآخرة. السعادة عندما تكون دنيويّةً بحتةً فهي غير كاملةٍ وزائلةٌ لا محالة، أمّا عند ارتباطها بالآخرة فستكون سعادةً حقيقيّةً لا نهاية لها.

والقرآن الكريم هو الذي يحقق لنا هذه الموازنة الدقيقة، وهو المدخل الرئيس إلى (طريق السعادة)؛ يقول طبيبٌ نفسي: "زارني في العيادة جميع فئات المجتمع ما عدا أهل القرآن". وقيل لعالمٍ: "فلانٌ يحفظ القرآن"، قال: "بل القرآن يحفظه". إن أردتم بركةً في أوقاتكم وأعمالكم فاجعلوا لكم من بين زحام مواعيدكم موعداً مع كتاب الله.

 

أحبتي .. (طريق السعادة) هو طريق الإيمان، أما البعد عن الله سبحانه وتعالى فهو سببٌ للشقاء والمعاناة والتعاسة. والعاقل من اتعظ بغيره، ليس معنى ذلك أن يمر الإنسان بطريق الشر كما مر به غيره قبل أن يُصلح علاقته بربه سبحانه وتعالى؛ بل يكفيه تعلم الدرس دون أن يُضطر إلى دفع الثمن. والمؤمن كما ورد في الأثر "كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ"، تغنيه تجارب غيره عن السير في طريق الشيطان، وسلوك دربه. فليكن اختيارنا اختيار الأذكياء.

اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين الفطنين الذي يختارون لأنفسهم ولأهليهم سبيل الرشد والصراط المستقيم فهو (طريق السعادة) الذي فيه رضا الله عزَّ وجلَّ.

 

https://cutt.ly/dgtMnkr