الجمعة، 5 فبراير 2016

١٠-٢=٨


5 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة/ ١٧

(١٠-٢=٨)

ما نزال مع صاحبنا المغترب الذي تحدثنا عنه من قبل، نعرض لسبب غربته، ونتعرف على دوافعه وأسبابه التي من أجلها غادر وطنه وترك أهله وأحبابه.
كان من المتفوقين في دراسته، حصل على البكالوريوس بتقدير جيد جداً وكان ترتيبه التاسع على دفعته. عَلِم عقب إعلان نتائج البكالوريوس أن كليته طلبت تعيين الأوائل العشر معيدين، وأن الطلب قد أُرسل بالفعل إلى وزارة التعليم العالي وأن الموافقة عليه مسألة روتينية. عاش صاحبنا أسابيع لا تسعه الفرحة وهو يرى حُلم حياته وقد لاح في الأفق وأصبح قاب قوسين أو أدنى .. صارت مسألة وقت ليس إلا .. أيام أو أسابيع قليلة ويصبح معيداً في كليته واضعاً قدمه على أول سلمة من سلالم العمل كأستاذ جامعي في مجال تخصصه .. وفي انتظار صدور قرارات التعيين التي لابد وأن تصدر قبل بداية العام الجامعي الجديد كان يتابع أخبار زملائه؛ يعرف منهم المؤسسات التي عملوا بها، وكانوا يهنئونه على كونه أصبح معيداً بالكلية رغم عدم صدور قرار التعيين بعد. مرت الأيام .. وإذا بموقف جديد يفرض نفسه على أرض الواقع فيغير حساباته ويقلب حياته رأساً على عقب .. كان صاحبنا قد تخرج عام ١٩٧١م وكانت البلاد وقتها في حالة الاستعداد لحرب قادمة .. فرأى القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الدولة أن يلتقي بالمجندين في الجيش ويجري معهم حوارات ويستمع لهم .. فبدأ بالالتقاء بالمعيدين .. وفي حواره معهم طلبوا منه تخفيض فترة تجنيدهم إلى سنة واحدة فقط فعودتهم لأعمالهم كمعيدين هو خدمة للوطن بشكل آخر لا يقل أهمية عن خدمة العَلَم، فاستجاب لطلبهم بشكل فوري وعلني .. ترتب على ذلك عودة اثنين من المعيدين بالكلية التي تخرج فيها إلى عملهم؛ فأصدرت وزارة التعليم العالي في اليوم التالي مباشرة قرارات تعيين المعيدين لعدد ثمانية فقط من دفعة صاحبنا طالما سيعود اثنان من المعيدين المجندين؛ لم لا وعِلْم الحساب يؤكد على أن: ١٠-٢=٨ !
ياللقدر ... ماذا لو تقدمت قرارات التعيين يوماً واحداً؟ أو تأخر لقاء الرئيس ليومٍ واحد؟ يوم واحد فقط! .. وهل النصف في المائة الذي يفصل بين مجموع صاحبنا ومجموع زميله صاحب الترتيب الثامن صار فاصلاً بين الحُلم والواقع؟
ها هو صاحبنا يقف الآن عالقاً في منتصف الطريق .. ليس أمامه مستقبل يستبشر به .. ولا يمكنه العودة إلى الوراء .. وجد نفسه فجأة كالمعلق في الهواء .. أضحى في موقف لا يُحسد عليه .. تبخر فجأة حُلم العمل في سلك التدريس الجامعي .. وما زاد الطين بلة أن جميع المؤسسات المرموقة وجهات العمل المعتبرة قد عينت بالفعل الأعداد التي تحتاجها في تخصصه من زملائه الذين كانوا يهنئونه بالأمس! .. لم يتبق لصاحبنا إلا جهات العمل التي لا يرغب أحدٌ بالعمل فيها أبداً .. ولا يوجد بديل .. كان عليه أن يقبل بفرصة العمل التي ترشحه لها القوى العاملة وإلا سقط حقه في التعيينات الحكومية، وهي على ضعفها وقلة امتيازاتها تبقى أفضل من البقاء دون عمل .. فكان نصيبه العمل خارج القاهرة مدينته العزيزة القريبة إلى قلبه، مما اضطره إلى السكن كمغترب في مدينة بعيدة، ليعود إلى أسرته في نهاية الأسبوع. واكتشف صاحبنا أن مرتبه لا يكفيه؛ وما يتسلمه أول كل شهر كأن له جناحين يطير بهما على الإقامة في فندق رخيص، وعلى الأكل في مطعم متوسط المستوى، وعلى السفر بوسيلة سفر اقتصادية غير مكلفة، واكتشف أنه لو احتاج إلى شراء ملابس جديدة أو علاج أو دواء مثلاً فليس أمامه إلا طلب الإعانة من أسرته على استحياء، رغم أنه قد صار موظفاً وله مرتب شهري! ..
بهذا كان صاحبنا قد جرب الغربة داخل وطنه بغير عائد .. فما يمنعه إذن من الإقدام على غربة أخرى خارج الوطن بعائد يقولون أنه مجزٍ ويستحق أن تُشد إليه الرحال؟
بدأ صاحبنا يتابع الإعلانات التي تُنشر في الصحف وتطلب فيها أية دولة خليجية خريجين من تخصصه للعمل بها، إلى أن اطلع على إعلان خاص بذلك صادر عن سفارة دولة الإمارات بالقاهرة؛ فقدم أوراقه وأجرى المقابلة المطلوبة ونجح فيها وسافر إلى دولة الإمارات ليبدأ رحلة الغربة خارج الوطن.
أحبتي في الله .. كل هذه الأحداث، وأخرى غيرها مماثلة لها أو مختلفة عنها، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى يقدره لعباده كيفما يشاء؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾، ويقول:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، ويقول: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.. ورغم أن الأرزاق مكتوبة ومقدرة فعلينا أن نسعى بكل طريق مشروع من أجل العمل والكسب؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إن أطيب ما أكلتم من كسبكم].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/NGCS8o