الجمعة، 28 ديسمبر 2018

بالشكر تدوم النعم/1


الجمعة 28 ديسمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٧
(بالشكر تدوم النعم)

يُروى أن رجلاً عمره سبعون عاماً عانى من مشكلة مياهٍ على العين؛ ولم يتمكن من الرؤية لعدة أيام. وحين ازداد الألم زار طبيباً فاقترح عليه أن يُجري عملية جراحية في عينيه؛ فوافق الرجل على الفور للتخلص من الألم. بعد نجاح العملية حضر الطبيب إلى المريض وأعطاه بعض الأدوية وكتب له الخروج بعد دفع فاتورة المستشفى. وعندما نظر الرجل إلى الفاتورة بدأ في البكاء؛ فقال له الطبيب: "إذا كنت لا تستطيع دفع الفاتورة يمكن عمل تخفيضٍ يناسبك". ولكن ظل الرجل يبكي؛ فقال له الطبيب مرةً أخري: يمكن لنا أن نقسطها أيضاً لك". ولكن الرجل ازداد في البكاء؛ فقال له الطبيب: "يا جدي ما الذي يبكيك، ألا تريد دفع الفاتورة؟" قال الرجل: "ليس هذا ما يبكيني، ما يبكيني هو أن الله أعطاني نعمة البصر سبعين عاماً، ولم يرسل لي فاتورةً مقابل ذلك أبداً".

كما يُحكى أن رجلاً ابتلاه الله بقطع رجليه ويديه وابتلاه بالعمى، زاره مرةً أحد الناس فوجده يشكر الله عزَّ وجلَّ على نعمه ويقول: "الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضَّلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً"، فتعجب الرجل الزائر من قوله فسأله: "على أي شيءٍ تحمد الله وتشكره؟"، فقال له الرجل الأعمى والأبتر: "يا هذا، أَشْكُرُ الله عزَّ وجلَّ على أنه قد وهبني لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، كما أنه وهبني بدناً على البلاء صابراً".

تذكرت هاتين القصتين وأنا أستمع لصديقٍ يتحدث في حفل تكريم له بمناسبة ترقيته إلى وظيفةٍ أعلى، سمعته يقول إن سبب نجاحه هو مثابرته وحرصه على الحصول على أعلى درجةٍ علميةٍ في مجال تخصصه مع أخذه بأسباب تنمية قدراته المهنية بكل وسيلةٍ ممكنةٍ؛ بالقراءة والاطلاع على كل جديدٍ في مجال العمل وحضور الدورات التدريبية وورش العمل التي تنظمها المؤسسة، وغير ذلك من وسائل وأساليب. كان كلامه ملهماً لكثيرٍ من الحاضرين، خاصةً الشباب منهم. أما أنا فقد لفت انتباهي أنه لم يذكر فضل الله عليه ولا مرةً واحدةً خلال حديثه الطويل، ولم يشكر الواهب المُنعِم على عطاياه ونعمه، رغم علمنا جميعاً بأنه (بالشكر تدوم النعم)!

أحبتي في الله ..  لا اعتراض لي على ما قاله صديقي؛ فهو جميعه من باب الأخذ بالأسباب، ونحن مطالبون بذلك بغير شكٍ، لكن في غمرة فرحتنا بإنجازٍ أنجزناه أو بنجاحٍ حققناه أو بنعمةٍ أنعم بها الله سبحانه وتعالى علينا يجب ألا ننسى المُنعم؛ فالنعم كلها من الله، وإن كان علينا أن نُحَدِّث بنعمة ربنا كما أمرنا سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، فإن أول الحديث يكون بالشكر، ويكون بنسبة النعمة للمنعم؛ فلا نكون كقارون حين نسب النعمة إلى نفسه واغتر بعلمه فقال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾. ومثل قارون موجودون في كل زمانٍ ومكان؛ فما ضربه الله لنا إلا مثلاً، فهل من متعظ؟
لا يزال هناك مِن بيننا مَن يغتر بعلمه، ومن يغتر بماله، ومن يغتر بقوته، ومن يغتر بحسبه ونسبه. إنها النفس البشرية حين تضل وتطغى وتفقد فطرتها النقية الصافية التي فطر الله الناس عليها.
لكن المسلم الحق عندما يُرزَق لا ينسى الرازق، وحينما يُنعَم عليه لا ينسى المنعم، كما أنه عندما يمرض لا ينسى الشافي. يأخذ بكل سببٍ مقبولٍ لا يتعارض مع الشرع، وهو يوقن بأن النافع هو الله سبحانه وتعالى، وهو الضار. فتدور حياة المسلم كلها ما بين فضلٍ ونعمةٍ نشكر الله عليها، وابتلاءٍ وفتنةٍ نصبر عليها. وبقدر الشكر يكون الثواب، وبمدى الصبر يكون الجزاء، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ].
وكما يُقال: تحتاج النعمة إلى شُكر، ويحتاج البلاء إلى صبر، ويحتاج الذنب إلى استغفار، فمن شكر وصبر واستغفر نال الأجر.
فما هو الشكر؟ يقول أهل العلم: شكرت الدابة، أي: سمنت وظهر عليها أثر العلف. وحقيقته في العبودية لله سبحانه وتعالى هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً وطاعة. يقول ابن القيم: "شكر العبد يدور على ثلاثة أركانٍ لا يكون شكوراً إلا بمجموعها، وهي: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بها ظاهراً، والاستعانة بها على طاعة الله". والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح؛ فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للحمد والثناء، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه.
إن نعم الله علينا لا تُعد ولا تُحصى؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، لذا وجب علينا الشكر حتى تدوم النعم، والشكر لا يديم النعم فحسب بل ويزيدها أيضاً، كما أن عدم شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه كفرٌ بها يستوجب العذاب الشديد؛ لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ]. ومن أعظم الأدعية: "اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوْذُ بِك من السَّـلْبِ بَعْدَ العَطاءِ، ومِن الشِّدَّةِ بَعْدَ الرَّخَاءِ، ومِن الفَقْرِ بَعْدَ الغِنَى، و مِنَ الضَّلالَةِ بَعْدَ الهُدَى"، فلو زالت نعمةٌ كان يعطيها لنا المولى عزَّ وجلَّ فلا بد أن نكون نحن الذين كفرنا بأنعمه ولم نحمده عليها، ولم نشكره حق شكره.
ولكي تستمر نعم الله علينا ويبارك الله لنا فيها علينا أن نُرجع كل نعمةٍ إلى الله، وننسب كل فضلٍ إليه؛ سواءً في الولد الصالح أو الزوج الطيب أو وفرة المال أو تمام الصحة أو اكتمال العلم أو غير ذلك، ولنقل دائماً: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾، ولنعلم أنه (بالشكر تدوم النعم) وتزداد، ولنا في رسولنا الكريم الأسوة الحسنة؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطَّر قدَماه، فتقول له السيدة عائشة، رضي الله عنها: "يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: [يا عائشة، أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا].
والشكر ينبع من القلب وتصدقه الجوارح؛ فشكر نعمة المال يكون بالصدقة على الفقراء والمساكين، وشكر نعمة العلم يكون بنشره بين الناس وعدم كتمانه، وشكر نعمة الزوجة الصالحة يكون بمعاملتها بإحسان، وشكر نعمة الولد يكون بحسن تربيته وتنشئته التنشئة الصالحة، وشكر نعمة الصحة يكون بتقوى الله في أعضاء أجسادنا وفي جوارحنا فلا نستخدمها فيما يغضب الله؛ فنغض البصر عن الحرام، ونقصر السمع على ما يرضي ربنا، ونُعَوَّد اللسان على ذكر الله والبعد عن الكذب والغيبة والنميمة، ونمنع الأيدي عن البطش بالناس، ونبعد أرجلنا عن السير إلى المعاصي والمحرمات.

وإلى جانب نعم الله الظاهرة، فإن هناك نعماً باطنةً؛ منها على سبيل المثال: كف أذىً كان يمكن أن يصيبنا، أو تخفيف مصيبةٍ ألمت بنا، أو عدم الاستجابة لدعاءٍ لنا فيه ضررٌ نجهله؛ يقول تعالى: ﴿وَيَدعُ الإِنسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالخَيرِ وَكانَ الإِنسانُ عَجولًا﴾، وجميع هذه النعم تستوجب الشكر.

أحبتي .. يصف أحد العلماء حال الكثيرين منا فيقول: للأسف الشديد نجد الناس يحمد بعضهم بعضاً حينما يقدم أحدهم لأخيه عوناً ولو كان صغيراً، ولا نجد الكثير منهم يحمدون الله على نعمه عليهم رغم عظمها وكثرتها، وكأن هذه النعم حقٌ مكتسبٌ لا فضل لله عليهم فيها، بل كثيراً ما يستعملونها في معصيته. إنها الغفلة والجحود والكفران بالنعمة، لا يُقَدِّرون قيمة هذه النعم إلا إذا حُرموا منها أو أُصيبوا فيها، فيجأرون إلى الله بالدعاء. فما أجدرنا أن نشعر بمدى فقرنا وحاجتنا إليه سبحانه في كل لحظةٍ، وبمدى تقصيرنا في واجب الشكر، وبضرورة استعمال هذه النعم في طاعته سبحانه والبعد بها عن معصيته. إن الله سبحانه تعالى لا يزداد ملكه بشكر الناس له ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم، لأنه الغني الحميد، لكنه يحب أن يُحمد ويُشكر؛ قال تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، فإذا أيقنا أنه (بالشكر تدوم النعم)؛ فإن المستفيد والمنتفع بالشكر هو الإنسان نفسه.

اللهم اجعلنا من الصبورين الشكورين الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا اُبتلوا صبروا. نسألك سبحانك أن تُعيننا على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك.‏

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/Jf5HAA