الجمعة، 24 أبريل 2020

بناء الإنسان

الجمعة 24 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٦

(بناء الإنسان)

 

نشر الكاتب البرازيلي الشهير "باولو كويلو" قصةً قصيرةً يقول فيها:

كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة، ولكن ابنه الصغير لم يكف عن مضايقته؛ وحين تعب الأب من ابنه قام بقطع ورقةٍ من الصحيفة -كانت تحتوي على خريطة العالم- ومزقها إلى قطعٍ صغيرةٍ وقدمها لابنه وطلب منه إعادة تجميع الخريطة، ثم عاد لقراءة صحيفته ظاناً أن الطفل سيبقى مشغولاً بقية اليوم، إلا أنه لم تمر خمسة عشر دقيقة حتى عاد الابن إليه وقد أعاد ترتيب الخريطة!

فتساءل الأب مذهولاً: "هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا؟!"، رد الطفل قائلاً: "لا، لكن كانت هناك صورةٌ لإنسانٍ على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدتُ (بناء الإنسان)، أعدتُ بناء العالم"!

كانت عبارةً عفويةً؛ ولكنها كانت جميلةً وذات معنىً عميق!

 

أحبتي في الله .. عندما قرأتُ هذه القصة القصيرة تساءلت بيني وبين نفسي: "هل نستطيع بالفعل إعادة (بناء الإنسان) لنعيد بناء العالم؟ ولماذا؟ وكيف؟".

في محاولتي للإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة، وجدتُ نفسي وقد عدتُ إلى الوراء كثيراً، أمتطي آلة الزمن أقودها إلى الماضي؛ علَّه يكون ملهماً لي وأنا أستشرف المستقبل، وفي ذهني المقولة الشهيرة "لا مستقبل لمن لا ماضي له".

 

وجدتُ في العودة إلى الماضي إجابةً واضحةً عن السؤال الأول، هل نستطيع؟ نعم نستطيع، فقد استطعنا ذلك من قبل، حين التزم المسلمون الأوائل منهج الإسلام في (بناء الإنسان) تسيدنا العالم لأكثر من ثمانية قرونٍ متتالية، توسعت خلالها الدولة الإسلامية شرقاً وغرباً، وقدمت للبشرية حضارةً مشرقةً وصفها أحد المفكرين الإسلاميين -رحمه الله- حين التفت إليه أحد المشاركين في مجلسٍ وخاطبه مستهزئاً وقال: "أفهم من كلامك أنك تريد تطبيق أحكام الشريعة والعودة بنا إلى الوراء"، فكان مما رد به مفكرنا: "هل تقصد إلى الوراء عندما كنا كمسلمين نحكم نصف الكرة الأرضية؟ عندما كان ملوك أوروبا محميين من الدولة الإسلامية ويحكمون بتفويضٍ من حكامها؟ أم تقصد إلى الوراء زمن حكم المماليك الذين أنقذوا العالم من المغول والتتار؟ أم إلى الوراء عندما حكم العباسيون نصف الأرض؟ أم إلى الوراء أيام الأمويين؟ أم قبلهم زمن سيدنا عمر -رضي الله عنه- الذي حكم أكثر الكرة الأرضية؟ أم إلى زمن عبد الرحمن الداخل الذي طوّق جيشه إيطاليا وفرنسا؟ أم تقصد عندما كان علماء العرب مثل ابن سينا والفارابي وابن جبير والخوارزمي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، يُعلِّمون العالم العربي والغربي الطب والصيدلة والهندسة والفلك؟! أم تقصد عندما عبث يهوديٌ بعباءة امرأةٍ مسلمةٍ فصاحت «وامعتصماه»، فجرّد المعتصم جيشاً وطرد اليهود من أرض الدولة الإسلامية؟! أم عندما أنشأ المسلمون أول جامعةٍ تعرفها أوروبا في إسبانيا؟! أنتظر أن توضح لي قصدك، وتخبرني كم تريد أن نرجع إلى الوَراء؟!".

 

أما السؤال الثاني، وهو لماذا نعيد (بناء الإنسان)؟ فالإجابة عنه هي أن الإسلام دينٌ أكمله الله لنا، وأتمم به نعمته علينا، وارتضاه لنا ديناً؛ فهو دينٌ للبشرية جمعاء وليس للعرب فقط دون غيرهم من الناس. لقد أرسل الله كل نبيٍ إلى قومه خاصةً إلا رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام، خاتم الأنبياء- أرسله ربه إلى الناس جميعاً؛ يقول تعالى: ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشيرًا وَنَذيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا رَحمَةً لِلعالَمينَ﴾.

والمتتبع لعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ في القرآن الكريم يجد أنها تكررت في عشرين موضعاً، في مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَكُمُ الرَّسولُ بِالحَقِّ مِن رَبِّكُم فَآمِنوا خَيرًا لَكُم﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [... وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً].

وعلى ذلك يكون (بناء الإنسان) الهدف منه هو تبليغ رسالة المولى عزَّ وجلَّ إلى البشرية جمعاء؛ يقول تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ﴾، يقول العلماء: ولما لم يكن هناك بعد رسول الله رسول، وجب على أمته حمل دعوته من بعده والقيام بتبليغها للخلق أجمعين، وكان لابد لهذه الأمة أن تقوم بهذه المهمة ـ ضرورةً لا اختياراً ـ وأن يكون منها مَن يقوم بهذا الواجب كفرض كفاية، وإلا أثم المسلمون جميعهم وحوسبوا على التقصير في أداء الواجب المنوط بهم كأمةٍ ختم الله بها الأمم؛ ومن ثَمَّ كان واجباً على كل مسلمٍ -بقدر طاقته- أن يتحمل من هذا الواجب ما يقدر عليه؛ كما أمرنا الله بقوله تعالى: ﴿وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾، وكما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً].

خلاصة القول -كما يقول أحد العلماء- إنه في زماننا هذا كل مكلفٍ من المسلمين مطالبٌ بهذا الواجب، وليس هذا التبليغ مقصوراً على العلماء، بل كل مسلمٍ مطالبٌ أن يُبَلِّغ ما فهمه وعلمه، وأما العلماء فهم يختصون ـ مع دعوتهم العامة ـ بالقيام بواجب التبليغ التفصيلي والأحكام الشرعية والمعاني التي يحتاج إليها عامة المسلمين؛ نظراً لسعة علمهم ومعرفتهم بالتفاصيل؛ يقول تعالى: ﴿فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾. فالدعوة إلى دين الله ضرورةٌ شرعيةٌ لا يمكن النهوض بأعبائها بغير (بناء الإنسان) المسلم الواعي؛ المساير لمعارف عصره، المتمكن من التقنيات الحديثة، المتقن للغات أهل الأرض جميعاً، القادر على نقل وشرح وتوضيح رسالة الإسلام إلى كل البشر في أقاصي الأرض وأركانها الأربعة بروح العصر.

 

أما السؤال الثالث؛ كيف يكون (بناء الإنسان)؟ فالإجابة عنه أنّ من السهل تحقيق هذا الهدف عندما نُغَيِّر نظرتنا إلى أطفالنا، ونغير طريقة تربيتنا لهم، ونعود إلى تاريخنا الإسلامي لنستلهم منه كيف كانت الأمهات يقمن بتربية أطفالهن؛ فهذه أم الإمام مالك، العالية بنت شريك بن عبد الرحمن الأسدية، دفعت ابنها لحفظ القرآن الكريم فحفظه، وأرسلته إلى مجالس العلماء، وكانت تختار له ما يأخذه عن العلماء؛ فتقول له: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، فأصبح الإمام مالك جبلاً من جبال العلم وعالم المدينة النبوية ومفتيها، وأحد أكابر علماء الأمة الإسلامية. وهذه أم الإمام الشافعي، مات زوجها، فنشأ الشافعي يتيماً، وكانت أمه ذات حِذقٍ وذكاءٍ وتفقُّهٍ في الدين، ارتحلت به حين بلغ عامين من عمره من غزَّة إلى مكة، حيث العلم والفضل، وحيث البادية حولها، والتي فيها يُقَوَّم لسان الغلام وتصح لغته، فأصبح الإمام العلامة الفقيه والشاعر الفصيح ومن أئمة الإسلام، هو ثمرة جهود تلك المرأة الفاضلة. وهذه أم الإمام أحمد بن حنبل، صفية بنت عبد الملك الشيبانية، مات أبوه وهو طفلٌ، فتكفلت أمه بتربيته، فحفظ القرآن وعمره عشر سنوات، ولما بلغ السادسة عشرة، قالت له أمه: "اذهب في طلب الحديث، فإن السفر في طلب الحديث هجرةٌ إلى الله الواحد الأحد"، وأعطته متاع السفر عشرة أرغفة شعيرٍ، ووضعت معها صرة ملحٍ، وقالت: "يا بني! إن الله إذا استُودِع شيئاً لا يُضَيِّعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه"؛ فأصبح العالِم المحدث الفقيه الشجاع في الحق، وإماماً من أئمة السنة. 

إن تعليم القرآن الكريم للأطفال هو -كما قيل- أصلٌ من أصول الإسلام، فينشؤون على الفطرة، وتسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة، قبل أن تتمكن الأهواء منها، وقبل سوادها بفعل المعصية والضلال. ومع تعليم القرآن ليكون (بناء الإنسان) على عقيدةٍ صحيحةٍ، يكون شرح هذه العقيدة بأسلوبٍ سهلٍ وبسيطٍ للصغار؛ قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كنتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ]، ويكون (بناء الإنسان) كذلك بإكسابه القيم والآداب اللازمة لبناء عالمٍ تسوده محاسن الأخلاق والفضائل؛ قال عمر بن أبي سلمة: كُنْتُ غُلَامًا في حَجْرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ] فَما زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتي بَعْدُ.

إن (بناء الإنسان) يبدأ حين تتغير نظرتنا القاصرة إلى أبنائنا المراهقين على أنهم ما زالوا صغاراً وليسوا أهلاً للمسئولية، ونعود إلى تاريخنا الإسلامي لنستلهم منه كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- يتعاملون مع المراهقين؛ فهذا زيدٌ بن ثابت، تعلم لغة اليهود في 17 ليلة فقط، وصار ترجمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وكاتب الوحي، كان عمره 13 سنة. وقاتِلا أبا جهلٍ بغزوة بدر: معاذ بن الجموح، وكان عمره 13 سنة، ومعوذ بن عفراء، وكان عمره 14 سنة. وأول من سلَّ سيفه في الإسلام، الزبير بن العوام، كان عمره 15 سنة. والذي فتح بيته بمكة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، الأرقم بن أبي الأرقم، كان عمره 16 سنة. وأول من رمى بسهمٍ في الإسلام، سعد بن أبي وقاص، كان عمره 17سنة. أما الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على مكة حين خرج للغزو، عتاب بن أسيد، فقد كان عمره 18 سنة.

ومحمد القاسم، فاتح بلاد السند، كان عمره 17 سنة. وأسامة بن زيد، قائد جيش المسلمين -وفيه كبار الصحابة منهم أبو بكر وعمر- كان عمره 18سنة. وعبد الرحمن الداخل، فاتح بلاد الأندلس، كان عمره 21 سنة. ومحمد الفاتح، فاتح القسطنطينية، كان عمره 22 سنة.

إن (بناء الإنسان) كمدخلٍ لبناء العالم لا يمكن أن يتم إلا وفق مبادئ وقيم المنهج الإسلامي الذي أثبت صلاحيته تاريخياً؛ فحينما انتكست البشرية، وابتعدت عن هذا المنهج، وسار مَن سار على درب الشيوعية الملحدة، وسار البعض على درب الرأسمالية المتوحشة، واغتر الغافلون بالعلم المادي الحديث فنادوا بالعلمانية فصلاً للدين عن الدولة، حين حدث ذلك لم يَجنِ العالم إلا الحروب والخراب والمجاعات والأزمات والنكبات، وثبت للقاصي والداني -إلا لمكابر- أنه لا مناص لبناء عالمٍ مثاليٍ نقيٍ فاضلٍ إلا بالعودة إلى المنهج الإسلامي في (بناء الإنسان)؛ لأنه ببساطة منهج الفطرة السليمة، وهو المنهج الذي أكمله لنا الله وأتمم به نعمته علينا وارتضاه لنا ديناً؛ يقول تعالى: ﴿اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دينًا﴾.

 

أحبتي .. بداية (بناء الإنسان) الذي يمكنه أن يُغير العالم هي أن يبدأ كلٌ منا بنفسه. وأهم قاعدة في ذلك هي ألا نخبر الناس كم نحفظ من القرآن الكريم، وكم نتلو منه، لكن ندعهم يَرَوْن فينا قرآناً يمشي ويتحرك: نُطعم جائعاً، نكسو عارياً، نرحم يتيماً، نُسامح مسيئاً، ننصر مظلوماً، نُعلِّم جاهلاً، نبر والدينا، نصل رحمنا، نُميط الأذى عن الطريق، نُنظف أبداننا وثيابنا وبيوتنا وقلوبنا، نُحسن معاملتنا للجميع، نبتسم لهم؛ لا نقتل، لا نزني، لا نسرق، لا نكذب، لا نَظلِم، لا نغدر، لا نخون، لا نَفْجُر، فليست العبرة أين وصلنا في تلاوة القرآن وحفظه، إنما أين وصل القرآن فينا، وكيف انعكس على أخلاقنا وسلوكنا ومعاملاتنا؟ علينا أن نُلزم أنفسنا وأبناءنا وأهلنا باتباع هذا المنهج الإسلامي السلوكي الصحيح، ولا نكتفي -كما يفعل بعضنا- باختزال الدين في تربية لحيةٍ أو إطالة ثوبٍ أو لبس نقابٍ.

اللهم ثبتنا على الإسلام، وساعدنا على أن نرتقي بأنفسنا، ونصلح من أحوالنا، لنكون خير سفراء لهذا الدين القيم، ننقله إلى الناس كافةً بالقدوة والمثال الحسن والمعاملة الطيبة.

 

https://bit.ly/2KuX5gr