الجمعة، 6 أكتوبر 2023

تاج الكرامة

 خاطرة الجمعة /415

الجمعة 6 أكتوبر 2023م

(تاج الكرامة)

يقول كاتب هذه القصة، التي نشرها قبل عدة أيامٍ على صفحته على فيس بوك: أمرني والدي -بارك الله في عمره- أن أُصحح له نطق كلمةٍ في المُصحف شكّ في نُطقها، وبعد أن صححتها له قال لي: "هل تذكر عندما كنتَ صغيراً وأردتُ لك أن تحفظ القرآن الكريم؟ كنتَ تغضب وتقول لماذا أنا أحفظ وفلانٌ قريبنا لا يحفظ؟! هل فهمتَ الآن كم كنتُ على حق؟ لقد صرتَ الآن أستاذاً جامعياً يُشار إليه بالبنان، بل وصرتَ شيخي الذي يُصحح لي ما يشكل عليّ من كلمات القرآن!". وذكّرني أبي -رعاه الله- بجملةٍ قالها لي وقتها عندما كنتُ أقول له: "لنؤجل حفظ القرآن إلى العطلة الصيفية حتى أستطيع التركيز في دروسي"، قال لي: "عليك أن توقن يا بُني بأن حفظك للقرآن الكريم يُقربك من الله سُبحانه وتعالى، ومن يقترب من الله يُسهل له المذاكرة ويجعله من المتفوقين".

الحمد لله -بفضل الله سبحانه- ثم بحرص والديَّ حفظتُ القرآن في سن العاشرة؛ وتفوقتُ في دراستي، وعُينتُ معيداً بالجامعة، ثم سافرتُ من «مصر» ودرستُ الماجستير والدكتوراه، والحمد لله عملتُ كأستاذٍ ومُحاضرٍ في عدة أماكن في دول مختلفةٍ، ولي بحوثٌ منشورةٌ بأكثر من لغةٍ ولله الحمد، وأتحدث أربع لغاتٍ بجانب العربية، وأتعلم الآن اللغة الخامسة والحمد لله؛ إلا أن أعظم ما أحب أن أقدم به نفسي أنني أعمل مُعلماً للقرآن الكريم منذ أن كنتُ طالباً في الصف الأول الثانوي إلى يومنا هذا، بجانب عملي الأكاديمي كأستاذٍ جامعي، ورغم أنني أعيش في «أوروبا» إلا أنني لم أنقطع بفضل الله عن تعليم القرآن، ولي بعض البرامج للتحفيظ عبر شبكة الإنترنت.

لعلكم تتساءلون الآن هل أقول لكم هذا الكلام من باب التفاخر مثلاً؟ حاشا لله، أنا أذكر هذا الكلام الآن لسببين؛ الأول: أنني لم أرَ أن القرآن كان عائقاً لي عن تحقيق أهدافي؛ بل على العكس أعتبر أن أي إنجازٍ حققه هذا العبد الضعيف في حياته فالسر الذي وراءه هو بركة القرآن. الثاني: أن المدارس في «مصر» تبدأ هذا الأسبوع، وكثيرٌ من الآباء والأمهات يجعلون أبناءهم يتغيبون عن حلقات تحفيظ القرآن الكريم بسبب بدء الدراسة؛ بزعم أن القرآن سيعطلهم عن الدراسة، ويا للعجب! لا تنسوا أن [كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]. فالطفل بطبيعة الحال لا يعرف ما الذي ينفعه في مستقبله وما الذي يضره، فواجب الوالدين توجيهه وتعليمه بكل حبٍ وحنان. وإن أعظم ما توجهون إليه أبناءكم هو حفظ كتاب الله؛ فيكون سبباً في أن يلبسوا (تاج الكرامة) يوم القيامة.

ليس صحيحاً أن حفظ القرآن يحتاج إلى تركيزٍ ويُعطلهم الأبناء عن المذاكرة! بل -وأقولها عن يقينٍ تام- إن بركة القرآن ستسهل للأبناء كل صعب. صدقوني… إن أردتم أن تجمعوا لأبنائكم أسباب الهداية والتوفيق، وتضعوهم على الطريق الصحيح في هذا الزمن -الذي أصبحت فيه الفتن كأمواج بحر هائج- فعليكم بالقرآن، ربوهم على مائدة القرآن، فكتاب الله هو العاصم، وقد قيل: "تعليم الصبيان القرآن أصلٌ من أصول الإسلام؛ فينشأون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال". بطبيعة الحال كنتُ وقتها لا أدرك لماذا أنا فقط دون بقية أصدقائي وأقاربي يجب عليَّ أن أحفظ القرآن، لم أفهم إلا بعدما كبرتُ، وأدركتُ أن القرآن أعظم نعمةٍ ينعم الله بها على عبدٍ في هذه الدنيا.

ممتنٌ لأبي وأمي -بارك الله في عمرهما- على قرارهما في ذلك الوقت الذي لم أكن أدرك أن فيه نفعي ومصلحتي في دُنياي وأُخراي، وممتنٌ لشيوخي الذين علموني ومنحوني أعظم شيءٍ في هذا الكون؛ كلام ربي، وأدعو الله أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن، وأن يجعله شاهداً لنا لا علينا.

 

أحبتي في الله.. ذكّرتني هذه القصة بتدوينةٍ كتبتها إحدى الحاصلات على شهادة الدكتوراه من جامعةٍ أجنبيةٍ ونشرتها على موقع التدوين المصغر «X» «تويتر سابقاً» قالت فيها: "مسكينٌ الطفل الذي يدخله أبوه مركز تحفيظ قرآن ولا يُعلمه اللغة الإنجليزية؛ فيكبر وينصدم بأن كل الوظائف شرطها اللغة الإنجليزية ولا توجد أية وظيفةٍ تشترط حفظ القرآن". فكتب أحدهم رداً عليها: "حفظتُ القرآن كاملاً وأنا ابن الـ 14 ونلتُ المركز الأول في الثانوية العامة، وأجيد الآن ثلاث لغاتٍ يا دكتورة. حفظي للقرآن لم يُعيقني عن أتخرج وأكون الأول على دفعتي ب«أمريكا» وبلغةٍ ليست لغتي الأم، وكنتُ من القلائل الذين يُحرزون العلامة الكاملة 100 بالـ100؛ فتعلم القرآن وحفظه يُضيء العقل والروح، ولا ينكر ذلك إلا جاهل".

ويقول أحد الأطباء النفسيين: "زارني في عيادتي كل فئات المجتمع عدا أهل القرآن وحفظته".

 

وعن فوائد حفظ القرآن الكريم بيّن أحد المختصين أنّ من أهمها تحسين الأخلاق والسلوك، تقوية الذاكرة وتنشيط الذهن خاصةً لدى الأطفال، تعويد اللسان على الفصاحة والبيان، تعزيز أساليب التعبير الشفوي والكتابي، تنمية مهارات القراءة، إلى جانب حُسن التدبر والتفكر والفهم السليم. ومنها أيضاً صفاء الذهن، التخلص من الخوف والقلق، قوة المنطق، التمكن من الخطابة، تطوير المدارك، القدرة على الاستيعاب والفهم، الإسهام في حِفظ القرآن الكريم من التحريف والضياع، تسهيل تلاوة كتاب الله في كلّ مكانٍ وزمانٍ، الطمأنينة والاستقرار النفسي، الإحساس بالقوة والهدوء والثبات، والقدرة على بناء علاقات اجتماعية أفضل وكسب ثقة الناس. هذه بعض الفوائد الدُنيوية. أما عن الفوائد الأُخروية فهي أكبر بكثيرٍ، منها: التقرُّب إلى الله تعالى، ونَيْل رضاه، والفوز بالجنّة والرضوان والنعيم المقيم، ولبس (تاج الكرامة)، والقُرب من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهل هناك أجمل من معية الله ورسوله يوم القيامة؟

يقول تعالى: ﴿إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ].وقال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ]. وقَالَ أيضاً: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وقَالَ كذلك: [يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حُلَّهُ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه، فيَرضَى عنه، فيُقالُ لهُ: اقْرأْ، وارْقَ، ويُزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً].

وعن تكريم والديّ حافظ القرآن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا]. وقال عليه الصلاة والسلام عن حافظ القرآن: [..وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ].

 

لقد سهّل ويسّر الله عزَّ وجلَّ حفظ القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، قال مفسرو هذه الآية: "ولقد يسَّرْنا وسهَّلْنا هذا القرآنَ الكريمَ؛ ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظاً، وأصدقه معنًى، وأبينه تفسيراً، فكلُّ مَن أقبل عليه يسَّر الله عليه مطلوبه غايةَ التيسير، وسهَّله عليه".

إن انقطاع الطفل عن حفظ القرآن لمجرد بدء الدراسة ترسيخٌ لِوَهْمِ أن حفظ القرآن مانعٌ له من التفوق الدراسي، ووالله ما وجد الخيرون تفوقاً إلا بالقرآن.

 

أحبتي.. الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر؛ لذا علينا أن نحرص على تحفيظ أبنائنا القرآن الكريم في صغرهم، وحتى إذا كبروا ومهما تقدم بهم العمر؛ لقد صدق من قال إنَّ خير ما صُرِفَ فيه الوقتُ هو حفظُ القرآنِ، فاستثمِروا أبناءكم فيه؛ فإنَّ حافظ القرآن يتلوه ولو كان كفيف البصر، أو مريضاً على فِراشِه، أو مسافراً لا يجد مُصحَفاً يقرأ فيه، يتلوه في كل وقتٍ؛ لأنَّه يحمل القرآن في صدره، فهو يقرأ منه أنَّى شاء، ويؤهله حفظ القرآن لأن يلبس (تاج الكرامة) وحُلة الكرامة، وينعم برضوان الله سبحانه وتعالى. أما والدا حافظ القرآن فهنيئاً لهما يُلبسان تاجيْن من نورٍ، ويُكسيان حُلتيْن لا يقوم لهما أهل الدنيا "أي: لا يُمكن لأهل الدنيا تحديد قيمة هذه الثياب"، أين هذا كله من آباءٍ وأمهاتٍ يحرصون على إيقاظ أبنائهم مبكراً، لا ليصلي الفجر جماعةً في المسجد، أو ليحفظ القرآن، وإنما ليلحق بموعد التدريب في النادي؟ نعم الرياضة مهمةٌ، و[المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ]، لكن ماذا لو جمعنا بين الحُسنيين؛ الرياضة وحفظ القرآن؟ وإذا كان لابد من تفضيل أيٍ منهما على الآخر، فما هو الخيار الأفضل سواءً للأبناء أو للوالدين؟ سؤالٌ أترك إجابته لكم.

اللهم اجعلنا من حفظة كتابك، واجعلنا ممن يحرصون على تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم؛ فيصبحوا مميزين في الدنيا، مكرمين في الآخرة، يشفعون لنا، ويكونون سبباً في رفع درجاتنا؛ فنكون -نحن وهُم- من المفلحين الفائزين، ومن ورثة جنة النعيم خالدين فيها.

https://bit.ly/3tuOkws