الجمعة، 14 يونيو 2019

البصر والبصيرة


الجمعة 14 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩١
(البصر والبصيرة)

يقول عن موقفٍ حقيقيٍ حدث معه: دخلنا إلى أحد المطاعم العربية في لندن لتناول العشاء، جلسنا وجاء النادل لأخذ الطلبات، استأذنتُ من الضيوف لدقائق ثم عدتُ فسألني أحدهم؛ قال: "أين ذهبتَ دكتور لقد تأخرتَ علينا كثيراً، أين كنت؟"، قلتُ: "أعتذر؛ كنتُ أصلي"، قال مبتسماً: "هل مازلتَ تُصلي؟ يا أخي أنت قديم!"، قلتُ مبتسماً: "قديم؟! لماذا؟ هل الله موجودٌ فقط في الدول العربية؟ ألا يوجد الله في لندن؟"، قال: "دكتور أريد أن أسألك بعض الأسئلة، ولكن أرجوك تحملني قليلاً برحابة صدرك المعهودة"، قلتُ: "بكل سرورٍ، ولكن لدي شرطٌ واحدٌ فقط"، قال: "تفضل"، قلتُ: "بعد أن تنتهي من أسئلتك عليك أن تعترف بالنصر أو الهزيمة، موافق؟"، قال: "اتفقنا، وهذا وعدٌ مني"، قلتُ: "لنبدأ المناظرة؛ تفضل"، قال: "منذ متى وأنتَ تصلي؟"، قلتُ: "تعلمتها منذ أن كنت في السابعة من عمري، وأتقنتها وأنا في التاسعة من عمري، ولم أفارقها قط، ولن أفارقها إن شاء الله تعالى"، قال: "طيب، وماذا لو أنك بعد الوفاة اكتشفت بأنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نار ٌ، ولا عقاب ولا ثواب فماذا ستفعل؟"، قلتُ: "سأتحملك وأكمل المناظرة معك حسب فرضيتك؛ فلنفرض أنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نارٌ، ولا يوجد ثوابٌ ولا عقابٌ، لن أفعل أي شيءٍ لأنني أصلاً كما قال علي بن أبي طالب {إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكن عبدتك لأنك أهلٌ للعبادة}"، قال: "وصلاتك التي واظبتَ عليها لعشرات السنين؟ ستجد أن من صلى ومن لم يصلِ سواء، ولا يوجد شيءٌ اسمه سقر"، قلتُ: "لن أندم عليها لأنها لم تأخذ مني سوى دقائق في اليوم، وسأعتبرها كانت رياضةً جسديةً"، قال: "وصومك، لا سيما أنت في لندن والصوم هنا يصل إلى أكثر من 18 ساعة في اليوم كحد أقصى؟"، قلتُ: "سأعتبر أن صومي كان رياضةً روحيةً فهو ترويضٌ نفسيٌ وروحيٌ من الطراز الرفيع، وكذلك فيه منفعةٌ صحيةٌ كبيرةٌ أفادتني في حياتي؛ وكم من تقارير دوليةٍ من جهاتٍ ليست إسلاميةً أصلاً أكدت أن الامتناع عن الطعام لفترةٍ فيه منفعةٌ كبيرةٌ للجسد"، قال: "هل جربت الخمر؟"، قلتُ: "لم أذق طعمه أبداً"، قال مستغرباً: "أبداً؟!"، قلتُ: "أبداً"، قال: "وماذا تقول عن حرمانك لنفسك في هذه الحياة من لذة الخمر ومتعته بعد أن تكتشف صدق فرضيتي؟"، قلتُ: "أكون قد منعتُ وحصنتُ نفسي من ضرر الخمر الذي هو أكثر من نفعه؛ فكم من مريضٍ بسبب الخمور، وكم من مدمرٍ لبيته وعياله من آثار الخمور، وانظر أيضاً إلى التقارير الدولية من جهاتٍ غير إسلاميةٍ تحذر من آثار الخمور وآثار الإدمان عليها"، قال: "والذهاب للحج والعمرة بعد أن تكتشف بعد الوفاة أنه لا يوجد شيءٌ من هذا، وأن الله غير موجودٍ أصلاً؟"، قلتُ: "سأسير حسب فرضيتك، ووعدتك بأن أتحمل أسئلتك، سأعتبر الذهاب إلى الحج والعمرة كان سَفرةً جميلةً شعرت فيها بمتعةٍ راقيةٍ ساهمت في غسل وتنقية الروح، كما تساهم سفراتٌ أنت قمتَ بها من أجل قضاء وقتٍ جميلٍ لطرد ضغوط العمل وقتل الروتين وساهمت في إنعاش الروح". ظل ينظر إلى وجهي لثوانٍ صامتاً، ثم قال: "شكراً لأنك تحملتني برحابة صدر، أسئلتي انتهت، وأعترف لكَ بالهزيمة"، قلتُ: "الآن جاء دوري لأن أسألك"، قال: "تفضل"، قلت: "بيّنتُ لك بأنني لن أخسر شيئاً في حال حصلت فرضيتك أنت، ولكن سؤالي الوحيد والبسيط: ماذا لو عكسنا فرضيتك؛ وأنك بعد الوفاة اكتشفتَ بأن الله تعالى موجودٌ فعلاً، وأن جميع المشاهد التي وصفها الله تعالى في القرآن موجودةٌ حقاً، ماذا أنتَ فاعلٌ حينها؟". ظل ينظر إلى عيني، ولم يُحرك شفتيه، وأطال النظر إليّ صامتاً - وقاطعنا النادل الذي أوصل الطعام إلى مائدتنا -فقلتُ له: "لن أطلب الإجابة الآن، حضر الطعام، لنأكل وعندما تكون إجابتك جاهزةً من فضلك أخبرني بها".
أنهينا الطعام، ولم أحصل منه على إجابةٍ ولم أحرجه وقتها بطلب الإجابة؛ غادرنا بصورةٍ طبيعيةٍ جداً.
بعد شهرٍ اتصل بي طالباً مني اللقاء؛ التقينا، فإذا به يحتضني ويطوقني بذراعيه واضعاً رأسه على كتفي، وبدأ بالبكاء. وضعتُ ذراعي على ظهره وقلتُ له: "ماذا بك؟"، قال: "جئتُ لأشكرك، ودعوتك إلى هنا لأقول لك جوابي؛ لقد رجعتُ إلى الصلاة بعد أن قطعتها لأكثر من عشرين عاماً، كانت أجراس كلماتك ترن في ذهني ولم تتوقف، لم أذق طعم النوم، لقد أثرتَ بركاناً في روحي وفي نفسي وفي جسدي، وصدقني؛ شعرتُ بأنني إنسانٌ آخر، وأن روحاً جديدةً بدأت تسير في هذا الجسد مع راحة ضميرٍ لا مثيل لها"، قلتُ له: "ربما تلك الأجراس أيقظت بصيرتك بعد أن خذلك بصرك"، قال: "هو ذاك تماماً، فعلاً أيقظت بصيرتي بعد أن خذلني بصري، شكراً لك من القلب أخي الحبيب".

عن (البصر والبصيرة) تذكرتُ قصةً بعنوان "بلد العميان" للكاتب "هيربرت ويلز". يقول من أعاد نشر ملخصٍ لها على مواقع التواصل الاجتماعي أن كاتبها يحدثنا فيها عن مرضٍ غريبٍ انتشر في قريةٍ نائيةٍ معزولةٍ عن العالم بجبال الإنديز فأصاب سكان القرية بالعمى فانقطعت صلتهم بالخارج، ولم يغادروا قريتهم قط، تكيفوا مع العمى، وأنجبوا أبناء عُمياناً جيلاً بعد جيلٍ حتى أصبح كل سكان القرية من العميان، ولم يبقَ بينهم مبصرٌ واحد. وذات يومٍ وبينما كان أحد متسلقي الجبال يمارس هوايته انزلقت قدمه فسقط من أعلى القمة إلى القرية، لم يُصب الرجل بأذىً، إذ سقط على عروش أشجار القرية، لاحظ أن البيوت بدون نوافذ وأن جدرانها مطليةٌ بألوان صارخةٍ وبطريقةٍ فوضوية؛ فحدث نفسه قائلاً: "لا بُد أن الذي بنى هذه البيوت شخصٌ أعمى". وعندما توغل إلى وسط القرية بدأ في مناداة الناس، فلاحظ أنهم يمرون بالقرب منه ولا أحد يلتفت إليه، هنا عرف أنه في بلد العُميان؛ فذهب إلى مجموعةٍ وبدأ يعرف بنفسه؟ من هو؟ وماهي الظروف التي أوصلته إلى قريتهم؟ وكيف أن الناس في بلده يبصرون؟ وما أن نطق بهذه الكلمة حتى انهالت عليه الأسئلة: ما معنى يبصرون؟ وكيف؟ وبأية طريقةٍ يبصر الناس؟ سخر القوم منه وبدأوا يقهقهون، بل وصلوا إلى أبعد من ذلك حين اتهموه بالجنون وقرر بعضهم إزالة عيونه فقد اعتبروها مصدر هذيانه وجنونه. لم ينجح بطل القصة في شرح معنى البصر، وكيف يُفَهِّم من لا يبصر معنى البصر؟ فهرب قبل أن يقتلعوا عينيه، وهو يتساءل كيف يصبح العَمى صحةً ويصير البصر مرضاً؟!
علق ناشر هذا الملخص بالقول أن بلد العميان هي كل مجتمعٍ منغلقٍ على ما لديه من أفكار وتصورات، رافضاً لكل فكرةٍ غير ما أَلِفَ وعَرَف. بلد العميان كل مجتمعٍ متعصبٍ لكل فكرٍ قديمٍ درج عليه، ولهج به آباؤه وأجداده ﴿إِنّا وَجَدنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى آثارِهِم مُقتَدونَ﴾. العمى ألا تؤمن بالتجديد. العمى ألا تفارق ما زرعه في عقلك الباطن الأقدمون. العمى أن تعيش الحاضر بفكر الأمس. العمى أن تعالج كل مآسيك ومآسي بلدك بنفس الأسلوب العقيم الذي استخدمته من قبل. ليس العمى عمى الأبصار إنما العمى عمى القلوب والعقول؛ عمى البصيرة.

أحبتي في الله .. يقولون أن (البصر والبصيرة) معجزتا العين والقلب:
أما البصر فأداته العين؛ فهي نافذةٌ نرى بها الأشياء، صغيرٌ حجمها، لكنها تسع الكون بما فيه، وبها تُكشف الأسرار، وتُدفع الشرور، وتُدرك المعارف والعلوم.
يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْن﴾، إنها معجزة الخالق في جسم الإنسان، هى أداة التفكر؛ قال سبحانه: ﴿قُلْ اُنْظُرُوا مَاذَا فِي السَمَوَاتِ وَاَلْأَرْضِ﴾؛ فالبصر هو نظر العين الذي يمتلكه كل مبصرٍ، نرى به ظاهر الأشياء، وهو حاسّةٌ يُمْكِنُ خِداعُهَا؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾، كما أنّه مَحدودُ المَجالِ؛ يقول سبحانه: ﴿يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئَاً وَهُو حَسيرٌ﴾. والعينُ نعمةٌ عظيمةٌ من نعم الله، وهي أداةٌ محايدةٌ يستخدمها صاحبها إما في الخيرِ أو الشر، وطوبى لمن استخدمها في طاعةِ ربه؛ فهي التي تبيت تحرس في سبيل الله، وهي التي تبكي من خشية الله. وهي في ذات الوقت، أداةُ الحسد، ونظرتُها سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليس.
وأمّا البصِيرةُ فهي الإدْراكُ وفهمُ الأشياءِ عَلى حقيقتِها ومعرفةُ النتائج الناجمةِ عنها، وتكونُ هذه البصيرةُ عن طريقِ الفكرِ، وهي التي يُصيبُها العَمَهُ؛ كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبصارَهُم كَما لَم يُؤمِنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُم في طُغيانِهِم يَعمَهونَ﴾. ولكلِّ إنسانٍ بصيرةٌ على نفسِه، ولا عُذر له في عدم إدراكِ وفَهْمِ أمُورِ الحياةِ؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَاَ تَعْمَىَ اَلْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَىَ اَلْقُلُوُبُ اَلَّتِيِ فِيِ اَلْصُّدُوُرِ﴾، وورد عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم في معرض ذكر هذه الآية قوله: [لَيْسَ الْأَعْمَى مَنْ يُعْمَى بَصَرُهُ، إِنَّمَا الْأَعْمَى مَنْ تُعْمَى بَصِيرَتُهُ]؛ فهُناك من ينظُر بِالبصرِ لكنَّه لا يرى بِالبصيرةِ: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوُنَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُوُنَ﴾. فالبصيرةُ هي نورُ القلبِ، ندركُ بها ما وراء الأشياء: ﴿بَلِ الِإنْسَانُ عَلَىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾. والبصيرةُ هي المعيارُ والمقياسُ لإنسانيّةِ الإنسانِ، فبدونِ البصيرةِ لا يكونُ الإنسانُ إنْساناً؛ قال تعالى واصفاً الكثير من الجِنِّ والإنْس بأن: ﴿(لَهُمْ قُلُوبٌ لَاَ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لَاَ يُبْصِرُوُنَ بِهَا ولَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعونَ بِهَا﴾.
باجتماع (البصر والبصيرة) معاً تصبح العين أداة صلاحٍ وهدايةٍ، وبدون البصيرة قد تنقلب العين لتصبح أداة غوايةٍ وضلالٍ؛ فإن إطلاق البصر سببٌ لأعظم الفتن، ومع غض البصر يغض القلب شهوته، فغض البصر هو مدرسة تهذيب النفس في الإسلام، وهو يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العينين، والوجه، والجوارح.

 قالوا عن (البصر والبصيرة):
"الشيء الوحيد الأسوأ من أن تكون أعمى، هو أن تمتلك البصر وتفتقد البصيرة".
"البصر للآفاق، والبصيرة للأعماق".
"كلما تقدمنا بالعمر يضعف بصرنا وتقوى بصيرتنا، إلا من ران الصدأ على قلبه فيضعف بصره وتضعف بصيرته".
"البصر يريك ظاهر الأشياء، والبصيرة تريك حقائق الأشياء".
"دائماً ما أغلق عيني؛ حتى أتمكن من الرؤية بوضوح".
"أَبْصَرُ الناسِ من أبصر عيوبه، وأقلع عن ذنوبه".

ويقول الشاعر:
عجبتُ للمرءِ في دنياهُ تطمعهُ
وفي العَيش والأجل المحتوم يقطعهُ
يُمسي ويصبحُ في عَشواءَ يخبِطها
أعمى البَصيرةِ والآمالُ تَزرَعهُ
وأسوأُ الناسِ تدبيراً لعاقبِةٍ
مَنْ أنفقَ العُمرَ فيما ليس يَنفعهُ

ويقول آخر:
فَرُبَّ ضَريرٍ قادّ جيلاً إلى العُلا
وقائدُه في السيرِ عُودٌ مِنَ الشجرْ
إذا حَلَّ نورُ اللهِ في قلبِ عبدِه
فما فاتَه مِنْ نورِ عَينيه مُحتقَرْ
فلا تحسب العينَ البصيرةَ مغنماً
لمن ليس ذا قلبٍ، وإنْ زانها الحورْ

أحبتي .. يقول أحد العارفين: "ما أن يُخبت قلب العبد لرب العالمين، وتذوق جوارحه لذة العبادة حتى يفيض الكريم الوهاب على صاحب هذا القلب بنور البصيرة، هذا النور الذي يرافقه في سَيره إلى الله تعالى، يهديه به إلى مسالك الرشد، فيفرق به بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والسُنة والبدعة، إلى أن يرزقه الله عزَّ وجلَّ حُسن الخاتمة".
فكم من مبصرٍ بيننا حُرم البصيرة أو حرم نفسه منها بعدم التبصر؛ فاكتفى بما يراه البصر فقط فاتبع الباطل وظن أنه على حق. اللهم ارزقنا نعمة البصيرة مع نعمة البصر، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. نسألك يا سميع يا عليم، يا خبير يا بصير أن تحفظ لنا البصر، وتتم نعمتك علينا بسلامة البصيرة، ونسألك اللهم حُسن الخاتمة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2XKOPhh