الجمعة، 17 ديسمبر 2021

الصراط المستقيم

 

خاطرة الجمعة /322


الجمعة 17 ديسمبر 2021م

(الصراط المستقيم)

 

أحد الأشخاص الأثرياء وهو صاحب مجموعة محلاتٍ مشهورةٍ يقول: اشتغل عندي بائعٌ شابٌ من حوالي عشر سنواتٍ في فرعٍ من فروع محلاتي؛ كان عندي فرعان في نفس البناء، فرع أحذيةٍ مع شركائي، وفرع ملابس لي وحدي، شركائي كانوا يرجونني أن آخذ هذا الموظف من عندهم وأعيّنه في المحل عندي ليرتاحوا منه، لا هُم يريدون أن يقطعوا رزقه، ولا هُم يرون منه أية فائدةٍ تُرجى! كان هذا الموظف هادئاً، قليل الحيلة، ضعيف المواهب، لكنه مستقيمٌ جداً، ملتزمٌ، شديد الطيبة، وجم الأدب. أخذته من عندهم ووظفته في الفرع الذي أنا فيه، وجعلته مديراً للفرع. بعد مدةٍ أخطأ خطأً بسيطاً وتافهاً جداً، لكني كنتُ في مرحلة الطغيان، والاعتداد بالرأي، والانفراد بالقرار، والغباء الإداري، فصممتُ أن أطرده! لم يبقَ إنسانٌ إلا وتوسط لديّ من أجله، كلهم تشفّعوا له، ولكن دون جدوى! فصلته من العمل بحجة أنه قليل الحيلة وضعيف المواهب وصفرٌ في الإمكانيات الإدارية، هكذا كنت أراه. هذا الكلام كان تقريباً منذ حوالي ثماني سنوات.

بعد ثلاث سنواتٍ من طردي له، عرفتُ أنه قد أصبح عنده ستة محلات ملابس، واشترى سيارةً، وأصبح من المشاهير في مجال هذا العمل، واسمه صار كالذهب الناصع، يثق به كل الناس! فقلتُ في نفسي: "سبحان الله، الآن فقط فهمتُ لماذا فصلته من العمل! لم يكن هناك سببٌ عظيمٌ كي أصرّ على طرده، لم يفعل هذا الشاب شيئاً يستحق فصله، كنت أستغرب دائماً من إصراري على أن يترك العمل عندي، بالرغم من أن هناك موظفين لديّ فعلوا أفعالاً أكثر سوءاً مما فعل ولم أقم بفصلهم! ورغم أن هذا الشاب كان أميناً ومُهذباً ملتزماً (الصراط المستقيم) في كل أعماله، وكانت بيني وبينه محبةٌ وثقةٌ متبادلةٌ، ولكن إصراري على فصله كان وكأنه يحدث رغماً عني!". قلتُ في نفسي: "إن الله عزّ وجلّ قد أعدَّ له مساراً آخراً في حياته، وقد جاء وقت ذهابه من عندي فكان ينبغي له أن يمشي بأية طريقةٍ، حتى ولو طرداً، حتى ولو أن يُلقى به في الشارع!".

هذه ليست نهاية القصة، وليست أعجب ما فيها؛ الأعجب، أنه أصبح تاجراً كبيراً جداً وذا سمعةٍ طيبةٍ، وظل على استقامته؛ أذكر أنني احتجتُ له يوماً ما فوقف بجانبي ولم يخذلني، بل إنه لم يُذكّرني بما فعلته معه، ولا عاتبني، ولا لمّح لي ولو بتغييرٍ في نبرة صوته، عاملني كأنني ما زلتُ صاحب المحل الذي يعمل هو فيه! أما الأكثر عجباً فأنه لم يفقد ذرةً واحدةً من التزامه وتدينُّه وحرصه على (الصراط المستقيم)؛ يكفي أن نعرف أن أهم شهرٍ في حياة تاجر الملابس والأحذية هو شهر رمضان؛ إذ أن مبيعات هذا الشهر تُعادل مبيعات السنة كلها، وأهم أيامٍ في رمضان بالنسبة لنا كتجار ملابس وأحذية هي العشر الأواخر؛ ففيها لا يهدأ الهاتف من الاتصالات والطلبيات، وتكون المبيعات في أوجها والأرباح كبيرةً، أما صاحبنا هذا فيُغلق هاتفه في العشر الأواخر من رمضان ويذهب إلى العُمرة! هل تخيلتم هذا؟!

أرسلتُ له مرةً رسالةً عن حالة شخصٍ فقيرٍ من قريةٍ في محافظته، وطلبتُ منه أن يستوثق من الحالة، لو أي إنسانٍ آخر لكان احتاج مني إلى اتصالين أو ثلاثة، أما صاحبنا هذا وجدته ثاني يوم في الصباح يُكلمني من عند الرجل الفقير، لم يتركه إلا وقد قام بالواجب معه ولم يُقصّر!

كان مما يلفت انتباهي التزامه بتكبيرة الإحرام التزاماً عجيباً؛ ساعة يسمع الأذان ينتفض من مكانه، كأن عقرباً قد لدغته؛ فيُشمر للوضوء ويذهب إلى المسجد للصلاة.

الخلاصة أنه إنسانٌ مستقيمٌ استقامةً تامةً، وصدق سبحانه وتعالى إذ يقول: ﴿ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.

 

أحبتي في الله .. هو الله، لا إله إلا هو، يدبر الأمر لجميع خلقه، ويساعد من لا حيلة له حتى يتعجّب أصحاب الحيل. هو الله الذي أمرنا بالاستقامة ويثيبنا عليها فتحاً ونصراً وسعة رزقٍ وغنىً ونجاحاً وتوفيقاً وفلاحاً.

 

أمر الله تعالى بالاستقامة، وحث عليها في كتابه الكريم في مواضع عدة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وعن هذه الآية التي نزلت في سورة هود قال المفسرون: "ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آيةٌ كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية؛ لذلك حين قال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم له: قد أسرع إليك الشيب؟! قال: [شَيّبَتْنِي هُودٌ ...]".

ولاحظ العلماء أن الآية وجهت الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من أنه إمام المستقيمين؛ فقالوا إن المقصود هو الدوام على الاستقامة باعتبارها أعظم كرامة.

وأوصانا رسولنا الكريم بالاستقامة؛ فحين قال أحد الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال عليه الصلاة والسلام: [قُلْ: آمَنْت باللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ]. وقال أيضاً: [إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّرُ اللِّسانَ فتقولُ اتَّقِ اللَّهَ فينا فإنَّما نحنُ بِك فإن استقمتَ استقمنا وإن اعوججتَ اعوججنا].

وأفضل ما قيل في وصف (الصراط المستقيم) "أن يكون العمل خالصاً لله عزّ وجلّ، وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعلى ذلك فإن الاستقامة -كما يقول العلماء- تتضمن: الإيمان الصادق بالله عزّ وجلّ، الاتباع الكامل والاقتداء التام بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أداء الفروض والواجبات، اجتناب المحرمات والمكروهات، الإكثار من النوافل، المداومة على أعمال الخير، عدم الغلو وعدم التفريط، حفظ الجوارح واللسان، السعي لتزكية النفس، والاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى وفي نيل مرضاته قدر الاستطاعة.

إن الاستقامة تعني التمسك بالدين كله، والثبات عليه، والدعوة إليه، وهي -كما يصفها أهل العلم- سلوك (الصراط المستقيم).

والمؤمن مطالبٌ بالاستقامة الدائمة، ولذلك يسألها ربَه في كل ركعةٍ من صلاته؛ يقول في كل صلاة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ ذلك أن الاستقامة هي الطريق الوحيد إلى الله الواحد الأحد؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

يقول أهل العلم إنه لما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يُقصّر في فعل المأمور، أو اجتناب المحظور، وهذا خروجٌ عن الاستقامة، فإن الشرع أرشد إلى ما يُعيد العبد لطريق الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، في إشارةٍ إلى أنه لابد من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها، وأن ذلك التقصير يُجبَر بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة. وفي هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: [اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ...] أمرنا بالاستقامة، وأخبرنا بأننا لن نستطيع أن نُلم بكل جوانب الإسلام، وأن نفعل كل ما أمر به الله عزّ وجلّ، فقال عليه الصلاة والسلام: [سدِّدُوا وقَارِبُوا ...]، أي: اتقوا الله ما استطعتم.

 

قال الشاعر:

وإلا فإنّ الاستقامة عينُ ما

هو الشرعُ، يَسمو مَنْ بها يتجملُ

وما الشرعُ إلا والحقيقةُ عينُه

وبينهما لا فرقَ مفصلُ

 

وقيل إن من عوائق التزام (الصراط المستقيم): اليأس، الغلو، الاستهانة بالمعصية، الانشغال بالدنيا عن الآخرة، الشهوات والتطلع إليها، التوسع في المباحات، والصحبة السيئة.

 

أحبتي .. الاستقامة إذن هي لزوم طاعة الله تعالى مع السداد والاعتدال، وتجنب الإفراط والتفريط. والطريق واضحةٌ؛ إما سبيل الاستقامة وإما سبيل الضلال والاعوجاج والبُعد عن شرع الله. وكل إنسانٍ حرٌ في اختياره: إما أن يلتزم (الصراط المستقيم)؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، وهذا هو اختيار الأذكياء. أو أن يختار الطريق المعاكس؛ فينجرف إلى متعٍ زائلةٍ في دنيا فانيةٍ يلهث وراءها، يُزينها الشيطان له؛ يقول تعالى: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ والسبيل هنا هو سبيل الحق، يظل الشيطان يغويه حتى يبتعد عن هذا السبيل؛ فينسى الله فيصبح من الفاسقين؛ يقول تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. ليكن اختيارنا اختيار الأذكياء، وليكن رضا الله سبحانه وتعالى هدفنا، فنكون من المُفلحين الفائزين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم يا مُقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من أهل السداد والاستقامة، وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وارزقنا حسن الختام.

 

https://bit.ly/3EbQQaY