الجمعة، 14 أغسطس 2020

موعد مع الموت

 

الجمعة 14 أغسطس 2020م


خاطرة الجمعة /252

(موعد مع الموت)

 

خرج من عيادة الطبيب يجر قدميه لا يدري إلى أين يذهب؛ لقد نزلت عليه كلمات الطبيب كالصاعقة: "باقي لك في الدنيا ثلاثة أشهر؛ عندك ورمٌ في المخ في مرحلةٍ متأخرةٍ، لا ينفع معها علاجٌ ولا تفيد فيها جراحة".

ركب سيارته وانطلق بأقصى سرعةٍ إلى مكتب صديقه المحامي الذي يتولى الأمور القانونية لشركاته وأعماله وممتلكاته. أخبر صديقه المحامي بما قاله الطبيب؛ فحاول صديقه أن يُهوِّن عليه الخبر، وأن يبث الأمل في قلبه، لكنه كان في حالةٍ لا يُجدي معها الكلام أو المواساة. طلب من صديقه المحامي أن يكتب وصيةً يتنازل بموجبها عن كل ثروته وممتلكاته بعد موته إلى الجمعيات الخيرية، على ألا يتم تنفيذ الوصية إلا بعد موته. وبعد أن نفذ المحامي تعليماته خرج قاصداً مكتبه الكائن في أرقى أحياء المدينة، وبمجرد دخوله المكتب أسرعت إليه سكرتيرته الخاصة التي تدير مكتبه، وفي نفس الوقت تدير حياته الليلية وتدبر له وسائل اللهو والمتعة الحرام، طلب منها أن تستدعي مراسل المكتب على وجه السرعة؛ فذهبت تنفذ تعليماته، وهي في دهشةٍ من حالته وتغيره بهذه الصورة. ما إن حضر المراسل، طلب منه أن يقوم فوراً بإلقاء كل زجاجات الخمر الموجودة بالمكتب في القمامة، وأن يتبع ذلك بإلقاء كل المنكرات الموجودة في منزله، وأن يُحضر له جلباباً أبيض ومسبحةً، تهلل وجه المراسل فرحاً بهذا التحول المفاجئ في تصرفات مديره وأخذ يدعو له بالثبات والقبول، وانصرف ينفذ أوامره على وجه السرعة قبل أن يغير رأيه. ثم أخرج دفتر الشيكات، كتب شيكاً وأعطاه للسكرتيرة قائلاً: "هذه مكافأة نهاية الخدمة لك، من الآن لا تدخلي هذا المكتب، ولا أريد أن أرى وجهك في أي مكانٍ بعد اليوم". أخذت السكرتيرة الشيك وهي تتمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ، وخرجت من المكتب إلى غير رجعة.

تغيرت حالته؛ بدَّل ملابسه وارتدى الثوب الأبيض، وأصبح لا يتأخر عن مواعيد الصلاة في المسجد ويحرص على أن يكون في الصف الأول، ويقرأ كل يومٍ عدة أجزاء من القرآن الكريم، وعند خروجه من المسجد يُغدق على الفقراء والمحتاجين المتواجدين أمام المسجد بسخاءٍ وهم يدعون له بطول العمر، وكلما سمع دعواتهم له بطول العمر ابتسم وردد في نفسه بحسرةٍ: "طول العمر ؟!".

مرت الأشهر الثلاثة كالريح، ومع إشراقة كل يومٍ جديدٍ يتساءل: متى يحضر ملك الموت؟ وفي صبيحة اليوم الأخير من الأشهر الثلاثة إذا بهاتفه يرن، نظر إلى رقم المتصل فإذا هو رقم طبيبه الخاص، رد على المكالمة وهو يقول في نفسه: "هذا الطبيب يريد أن يعرف إذا كنتُ متُ أم ما زلتُ حياً"، لكن حدث ما لم يكن يتوقعه؛ فقد أخبره الطبيب أنه قد حدث خطأٌ في تشخيص حالته، وأن الأشعة التي بنى عليها تشخيصه كانت لشخصٍ آخر، وتم تبديلها بالخطأ، ولم يُكتشف الخطأ إلا عند وفاة هذا المريض، تماماً بعد ثلاثة أشهر كما أخبره من قبل!

كانت المفاجأة كبيرةً حتى أنها ألجمت لسانه وأفقدته النطق لحظياً، ثم وجد نفسه يردد: "لن أموت .. لن أموت .. مرحباً بالحياة .. لقد انتهى الكابوس المزعج"، كلماتٌ قالها وهو يركب سيارته وينطلق مسرعاً إلى مكتب صديقه المحامي، أخذ منه الوصية ومزقها، ألقاها في الهواء وهو يُلقي معها هموم ثلاثة أشهرٍ قضاها في انتظار الموت. أخرج الهاتف، واتصل بسكرتيرته التي طردها، وطلب منها تجهيز السهرة في منزله للاحتفال بهذا الخبر السعيد: "أريد أن أُعوِّض اليوم حرمان الثلاثة أشهر الماضية، أريد المتعة بكل أشكالها"، وعلى الطرف الآخر كانت السكرتيرة سعيدةً تضحك وتعده بليلةٍ من ليالي ألف ليلةٍ يكون فيها هو شهريار، له ما يشاء من الجواري والمتعة.

انطلق بسيارته يقودها بأقصى سرعةٍ يريد أن يسابق الزمن ليلحق بالسهرة الموعودة والمتعة المنشودة، ويعوض ما فاته.

ما هي إلا ثوانٍ معدوداتٍ حتى تجمع الناس، يحاولون إخراج جثته من السيارة وقد تفحمت وتناثرت أجزاؤها، جراء اصطدامها المروع بقطارٍ أطلق سائقه أبواقه ليُحذِّر ذلك المجنون المنطلق بأقصى سرعةٍ عابراً سكة الحديد ليصبح في مواجهة القطار كأنه كان على موعدٍ مع الموت!

 

أحبتي في الله .. لقد ظلم نفسه فاستحق عقاب ربه؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

وهكذا بعض من الناس، لا يعرفون الله إلا وقت الشدة، ثم إذا خرجوا سالمين مما كانوا فيه إذ هم ينسون الله؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا﴾ وكفور: صيغة مبالغةٍ من الكفر، أي: كثير الكفر للنعمة. ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾، قيل إن إشراكهم أن يقول قائلهم: "لولا الله وربان السفينة الماهر لغرقنا"؛ فيجعلون ما فعل الله لهم من النجاة قسمةً بينه سبحانه وبين غيره من خلقه.

يقول العلماء إنّ الإنسان، حتى وإنْ كان كافراً، إنْ أحاطتْ به الأخطار لا يلجأ إلا إلى الله؛ لأنه وحده القادر على تفريج الكروب وإغاثة الملهوف؛ فهو سبحانه الذي أمره أنْ يلجأ إليه وأنْ يدعوه فقال: ﴿فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾ فإنْ دَعَوهُ سمع لهم وأجابهم -على كفرهم وعنادهم- لأنهم عباده وخَلْقه، فما أرحمه سبحانه حتى بمَنْ كفر به!

ثم إن طبيعة بعض الناس أنه يُكثر الدعاء عند الضُر والشدائد، فيدعو الله إلى كشفها وزوالها عنه، فإذا فرَّج الله شدته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب يزاول كفره وفساده وجحوده، وكأنه ما كان به من ذاك شيءٌ؛ يقول تعالى: ﴿مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾.

 

هذا نموذجٌ لبعض البشر، وهناك نموذجٌ آخر سليم الفطرة، صادق الوعد، مع الله ومع النفس، يدرك أن القرب من الله في وقت الشدة، لابد وأن يستمر بعدها في وقت الرخاء؛ فهذا أحد الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- كان من أشد أعداء الإسلام، ففرَّ من «مكة» بعد فتحها، راكباً البحر، مهاجراً إلى «الحبشة»، إنه الصحابي الجليل عكرمة بن أبي جهل، كان من أشد أعداء رسول الله ضراوةً في التاريخ كله، شرب العداوة من أبيه فرعون هذه الأمة، لما ذهب فارّاً من رسول اللّه صلى اللّه، جاءتهم -وهُم في البحر- ريحٌ عاصفٌ فقال القوم بعضهم لبعض: "إنه لا يُغني عنكم إلاَّ أن تدعو اللّه وحده"، فقال عكرمة في نفسه: "واللّهِ إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهدٌ لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمدٍ فلأجدنه رؤوفاً رحيماً"، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلم وحَسُن إسلامه، رضي اللّه عنه وأرضاه. وهو القائل: "لا أدع نفقةً كنتُ أُنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنتُ أقاتل في صدٍ عن سبيل الله إلا أبليتُ ضعفه في سبيل الله". ثم اجتهد في القتال طوال حياته، سواءً في حروب الردة أو في فتوح الشام، حتى استشهد في اليرموك.

 

ويوجهنا الخالق سبحانه وتعالى إلى شكر النعم، فهو سبيلٌ إلى زيادتها في الدنيا، وطريقٌ إلى رضوان الله في الآخرة، ويحذرنا من كفران النعم؛ فهو سبيلٌ للنقمة، وزوال النعم في الدنيا، والتعرض لسخط الله وعذابه عزَّ وجلَّ في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.

 

وكم شاهدنا مرضى يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء أن يشفيهم، وعندما يستجيب لدعائهم، ويُنعم عليهم بالصحة والعافية، إذا هم يعودون إلى ما كانوا عليه قبل المرض من بُعدٍ عن الله! بل إن بعضهم يَعِد أن إذا شافاه الله ليكونن من المواظبين على الصلاة، ثم إذا هو -بعد أن يشفيه الله- يحنث بوعده!

وكم رأينا بأم أعيننا المساجد وهي ملأى بالطلاب يصلون الفجر وقت الامتحانات، ثم لا نراهم في المساجد بعد انتهاء الامتحانات!

فهل هكذا تكون علاقة العبد الصالح بربه؟!

 

أحبتي .. آن لنا أن نفوق من غفلتنا؛ فالله الذي ندعوه وقت شدتنا، فيستجيب لدعائنا -وقد لا يستجيب لحكمةٍ نجهلها- هو الله المستحق للعبادة في كل وقتٍ؛ فالشدائد ابتلاءاتٌ منه سبحانه وتعالى لينظر أنصبر أم نجزع؟ أنشكر أم نكفر؟ أنصدق مع الله ونزداد قرباً منه بعد الشدة أم نمُرّ كما لو كنا لم ندعوه إلى ضُرٍ مسنا؟

اللهم اهدنا، وردنا إليك وإلى دينك رداً جميلاً، وثبتنا اللهم على طاعتك، وأعنا على أن نقهر هوى نفوسنا، ونخالف ما يزينه الشيطان لنا.

 

https://tinyurl.com/yyv6ac9b