الجمعة، 24 يونيو 2016

فلنستعد له


24 يونيو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٧

(فلنستعد له)

زارنا خلال الشهور الماضية عدة مرات مَلَكٌ كريم؛ هو ملك الموت .. الذي قبض أرواح أحبة لنا أعزاء علينا كان آخرهم يوم أمس الخميس.
أعلم أن الكثيرين لا يحبون الحديث عن الموت، يتحاشونه ويتجنبونه، ويعمد البعض إلى ترك المجلس إذا ذُكر فيه شيء عن الموت، رغم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يوجهنا إلى ذكر الموت؛ قَالَ: [أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ-يعْنِي الْمَوْتَ]، وقال عندما سئل: [ ... فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الأكْيَاسُ]، كما قال: [الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا].
الموت مصير محتوم قَدَّرَه رب العزة يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمىً﴾، ويقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً  وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.
إنها مقادير المولى عز وجل التي كتبها على عباده، تماماً كما كتب لهم أرزاقهم، وكما كتب على كلٍ منهم أشقي هو أم سعيد.
الموت مخلوق من مخلوقات الله، قدره الله بعلمه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾، وبين لنا المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ" فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ. ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ [مَرْيَمَ: 39]، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يُؤَمِّنُونَ»؛ فالدار الآخرة ليس فيها موت، وإنما هي نعيم مقيم، أو عذاب دائم شديد مهين أليم.
إذا كنا سنموت كلنا جميعاً فما الحكمة إذن من الحياة؟ سؤال يتبادر إلى الذهن، تجيب عنه الآية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾؛ إذن هو الابتلاء والاختبار، هو التمحيص والاختيار؛ ليميز الله الخبيث من الطيب.
ومثل الدنيا، كما ورد في الأثر، مهما طال عمرنا فيها، مثل سوق أقيم ثم انفض، ربح فيها من ربح وخسر من خسر. والعاقل من عمل لحياته الحقيقة بعد الموت واستعد لها، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
سؤال آخر: ماذا نريد لأنفسنا في الدار الآخرة؟ أن نكون من أهل الجنة أم من أهل النار؟ الإجابة واضحة: كلنا نريد الجنة، وربنا سبحانه وتعالى برحمته لا يريد لنا إلا الجنة، يقول عز من قائل: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾. وتعبر الآية القرآنية الكريمة عن رغبة كل إنسان، حتى لو كان عاصياً آثماً مذنباً، في دخول الجنة؛ حيث تقول: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾.
سؤال ثالث نسأله لأنفسنا ونحن نعلم إجابته مسبقاً، هل هناك طريق آخر غير الموت يوصل ما بين حياتنا الدنيوية، القصيرة مهما طالت، وبين النعيم الأبدي في جنات الخلد؟ بالتأكيد لا يوجد غير طريق الموت، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾، فإذا كان الأمر كذلك (فلنستعد له).
هذه هي القضية، العمل والاستعداد للموت، هي قضية كل مسلم مؤمن يعلم أننا لم نُخلق إلا لعبادة الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، والكيس الفطن هو من يعيش في الدنيا كأنه عابر سبيل كما أرشدنا لذلك نبينا الكريم حينما قال:[كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]، فلا نجعل الدنيا أكبر همنا.
عند الحديث عن الموت يتمنى كل منا أن يعيش لأطول فترة ممكنة، إنها رغبة فطرية طبيعية عند كل البشر، يريد أن يعمر في الأرض، يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ﴾، حتى إن البعض ليقدم أعمال الحياة الفانية على أعمال الآخرة الباقية؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. وتصف الآية الكريمة الكافرين والمشركين وتبين مدى حبهم لطول البقاء في الدنيا: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ﴾.
أحبتي في الله .. الطريق واضح وجلي، يقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: [كلُّ النَّاس يغدو، فبائع نَفْسَهُ فمعتقُها، أو مُوبِقها]؛ فماذا اخترنا لأنفسنا؟ كلنا يريد الجنة، فهل أعددنا أنفسنا للفوز بها؟ هل عملنا لنكون من أهلها؟ يقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا﴾. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [... أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ].
فلنحذر أن نترك أنفسنا لأمل كاذب وخادع، ونحذر من التمني الذي لا يصاحبه عمل؛ قال الحسن البصري: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: "نحسن الظن بالله" وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).
وقال أحد العارفين: (إِنَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ كَكَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، بِقَدْرِ مَا تَرْجَحُ إِحْدَاهُمَا تَخِفُّ الأُخْرَى).
أحبتي .. كما يُقال: "عرفت فالزم"؛ الموت حق علينا جميعاً .. لا مهرب منه ولا مفر .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ .. (فلنستعد له) لنكون، ومن نحب، من أهل الجنة التي يصفها عليه الصلاة والسلام بقوله: [قال الله تعالى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "، واقرأوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بما كانوا يَعْمَلون﴾]. اللهم ارحم أمواتنا واغفر لهم وبدل سيئاتهم حسنات واجعلنا معهم من أهل الجنة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/8UHIij