الجمعة، 5 يناير 2018

الغنيمة الباردة

الجمعة 5 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٦
(الغنيمة الباردة)

لم تغادر ذاكرتي إلى اليوم علامات الدهشة التي أبداها أحد أصدقائي، وكنا نتحدث عن قلة مرتادي المساجد لصلاة الفجر، حين سألني: "كم يستوعب الصف الأول في مسجدكم من المصلين؟"، فسألته: "في الصيف أم في الشتاء؟"، هنا ارتفع حاجباه وسألني: "وهل يوجد للشتاء أو الصيف تأثيرٌ في ذلك؟!"، تجنبت الإجابة بنعم، وفضلت أن أجيبه بسؤالٍ آخر أكثر غرابةً: "ألم تسمع بتأثير الحرارة فيما يُعرف بقانون التمدد والانكماش؟"، أجاب: "بلى سمعت. أتريد أن تقول أن الصف الأول في مسجدكم يتمدد بالحرارة في فصل الصيف وينكمش بالبرودة في فصل الشتاء؟!"، قلت مراوغاً قاصداً المداعبة بالإمعان في الغموض: "اقتربت عزيزي مما أريد أن أقوله!". تعمدت الصمت للحظة كانت كافيةً لأن تتسع حدقتا عينيه انتظاراً لتوضيحٍ مني؛ فاستطردت قائلاً: "الصف الأول بمسجدنا يستوعب في الصيف عشرة مصلين، أما في الشتاء فلا يستوعب إلا تسعة!"، ومع استمرار علامات الدهشة التي لم يكن يستطيع إخفاءها، أكملت: "في الصيف يتخفف الناس من ملابسهم لحرارة الجو، لكنهم في الشتاء يلبسون أثقل ما يمتلكون من ملابس طبقةً فوق طبقةٍ؛ فتنتفش ملابسهم وتزداد أحجامُهم فيشغلون حيزاً من المكان أكبر مما يشغلونه في شهور الصيف!".
زال تعجب صديقي واندهاشه بهذا التوضيح، وانتقلنا لمناقشة أسباب قلة عدد من يواظبون على صلاة الجماعة في المساجد بشكلٍ عامٍ، وندرة من يواظب منهم على صلاة الفجر تحديداً، وفي فصل الشتاء على وجه الخصوص؛ ففي شارعنا الصغير، على سبيل المثال، يسكن قرابة ألف مسلمٍ تكتظ بهم المساجد وقت صلاة الجمعة حتى أن بعضَهم يُضطر للصلاة على حُصُرٍ تُفرش خارج هذه المساجد، أما صلاة الفجر مع الجماعة بالمسجد في يومٍ من أيام الشتاء الباردة فلا يكاد عددهم يزيد عن اثني عشر رجلاً، إلا في رمضان أو قبل امتحانات آخر العام!
ومن بين ما قلت لصديقي: "لو يعلم هؤلاء الأحبة كم يُفَوِّتون على أنفسهم من غنيمة الشتاء؛ لأتوْا للمساجد حبواً"، فاستوقفني ليستوضح مني ما أقصد بعبارة غنيمة الشتاء، وكما يحلو لي أن أزيد الأمر غموضاً قبل توضيحه؛ قلت له: "إنها (الغنيمة الباردة) يا عزيزي!"،
فعاد حاجباه للارتفاع من جديد وعادت حدقتا عينيه للاتساع مترقباً أن أوضح له معنى ما أقول!

أحبتي في الله .. مع اشتداد برودة الجو في أشهر الشتاء نتذكر دائماً مقولاتٍ مشهورةً عن ربيع المؤمن وعن غنيمة الشتاء وعن (الغنيمة الباردة) فلنلقِ نظرةً سريعةً عما قال أهل العلم في هذا الموضوع؛ قالوا جزاهم الله خيراً:

الدهور والأعوام والليالي والأيام، سنن الله تتعاقب في هذه الدنيا، وبتعاقبها وسيرها تتعاقب الفصول على الناس، فهذا فصلٌ للصيف وذا للشتاء وذاك للخريف وذا للربيع، والمؤمن يقف مع هذه النعمة يتدبرها حق التدبر ويشكر الله لأجلها، قولاً وعملاً. فإنَّ تقلُّبَ الأحوال الكونية مِن صيفٍ وشتاءٍ، وليلٍ ونهارٍ، وجفافٍ وأمطارٍ، وسكونٍ ورياحٍ، يُعزِّز إيمانَ المؤمن بأنَّ الله سبحانه وتعالى خالِقُ الكون ومدِّبره؛ فيتذكر قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾، كما يتذكر قوله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
إن مصالح العباد وحياتهم لا تنصلح إلا بهذا التعاقب، فالله حكيمٌ عليمٌ، لم يوجِد شيئاً عبثاً ولم يخلق شيئاً بغير حكمةٍ؛ فَتَقَلُّبُ الزمان وتَصَرُّفُ الأحوال من حرٍ إلى قَرٍ، ومن صيفٍ إلى شتاءٍ، إنما هو بحكمته وتصريفه، فهو سبحانه أعلم بما يُصلِح عباده، حتى لو كرهنا حرارة الصيف أو برودة الجو في الشتاء؛ يقول عز وجل: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾.
إن فصول السنة تُذَكِّر بالآخرة؛ فشدة حر الصيف يذكر بِحَرِّ جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم، وهو من نَفَسِها. وإن المؤمن ليتميز عن غيره بجميل صبره عند الضراء، وبحسن شكره عند السراء، وإن ما نجدُه ونُحِسُّه من شدة البرودة في الشتاء إنما هو نفسٌ من الزمهرير، كما جاء في الحديث؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [اشتكَتِ النارُ إلى ربها فقالت: يا ربِّ، أَكَل بَعضِي بعضاً، فأَذِنَ لها بنَفَسيْن: نفَس بالشتاء، ونفَس في الصيف، فهو أشدُّ ما تَجِدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون مِن الزمهرير - وهو شِدَّة البَرْد]؛ فإذا ما وَجَد المرءُ لَسْعَة البرد تذكَّر زمهريرَ جهنَّم، فاستعاذ منها، وسأل الله تعالى برْدَ الجنَّة ونعيمَها؛ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾. ما أوقع ذلك في نفوس المتقين! وما أشد تأثيره على قلوب المخبتين! حين يتذكرون الزمهرير؛ فيزيدهم ذلك إيماناً وتوبةً وإقبالاً على رب العالمين. وهكذا حال المؤمنين الصادقين؛ كل ما حولهم يذكرهم فيتذكرون، وبدقيق صنعة الله يتفكرون، ثم لربهم يشكرون، ولذنوبهم يستغفرون، وعلى تقصيرهم يحزنون.

والشِّتاءُ ربيعُ المؤمِن يستغلُّ حلولَه فيما يُقرِّبه إلى الله تعالى؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [الشِّتاء ربيعُ المؤمِن؛ طال ليلُه فقامَه، وقصُر نهارُه فصامَه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء].
وكأن عمر بن الخطاب يشرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام حين قال رضي الله عنه: "الشتاء غنيمة العابدين". أما الحسن البصري فيمدح الشتاء بقوله: "ونِعمَ زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويلٌ يقومه، ونهاره قصيرٌ يصومه". وكذا فعل ابن مسعود حين قال: "مرحباً بالشِّتاء؛ تتنزَّل فيه البَرَكة، ويطول فيه الليلُ للقيام، ويقصُر فيه النهار للصِّيام".

والشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزِّه قلبَه في رياض الأعمال الميسَّرة فيه، يَصلح دينُ المؤمن في الشتاء؛ بما يسَّر الله فيه منَ الطاعات؛ فإن المؤمن يَقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقَّةٍ ولا كلفةٍ تحصل له من جوعٍ ولا عطشٍ؛ فإن نهاره قصيرٌ باردٌ، فلا يحس فيه بمشقَّة الصيام.
يقول ابن رجب في معنى (الغنيمة الباردة): "أنها غنيمةٌ تحصل بغير قتالٍ ولا تعبٍ ولا مشقةٍ، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفةٍ، وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم". وقال السندي: "(الغنيمة الباردة) هي الحاصلة بلا تحمل كلفة المحاربة، وصوم الشتاء له أجرٌ بلا تحمل مشقة الجوع؛ لقصر الأيام، والعطش؛ لبرودتها، فيه ترغيبٌ للناس في صوم الشتاء". وقال المناوي: "الصوم في الشتاء (الغنيمة الباردة) أي: الغنيمة التي تحصل بغير مشقةٍ". وعن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم، فاقرؤوا، وقَصُر النهار لصيامكم، فصُومُوا" .
قال الله تعالى: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وممَّا يَعتني به المسلِمُ في الشتاء إسباغُ الوضوء وإتمامه، فلا يُعجله الشعورُ بالبرد عن إكمالِ الوضوء لأعضائه وإتمامِها، بل إنَّ ذلك الإتمامَ والإسباغ وقتَ المكارِه هو ممَّا يُكفِّر الله به الخطايا، والمكاره تكون بشدَّة البرْد أو الحرِّ أو الألَم، فيحتسب المسلِمُ تلك الشدَّةَ وهو يتوضَّأ بأنَّها مِن مُكفِّرات الخطايا، ورافعات الدَّرَجات؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [ألاَ أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرْفَع به الدرجاتِ؟] قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: [إسْباغُ الوضوءِ على المكارِه، وكَثْرة الخُطَى إلى المساجِد، وانتظار الصلاة بعدَ الصلاة، فذَلِكُم الرِّباط].
والشتاءُ هو ربيعَ المؤمِن؛ ففيه كثيرٌ من الأعمال الميسَّرة: فإذا ما نزَل الغيثُ والأمطار أقَرَّ المؤمن بفضْلِ الله ونعمته، ودعَا بما سَنَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام: [مُطِرْنا بفضْل الله ورحمتِه]، وتحرَّى الدعاءَ حين نُزُول المطر، فهو مِن الأوقات الفاضلة؛ فعنِ النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: [ثِنتان ما تُرَدَّان: الدعاء عند النِّداء وتحتَ المطَر].
وممَّا سَنَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام من الأدعية والأذكار، ما يَكثُر احتياجُه في الشتاء خاصَّةً، كالدُّعاء عند هُبوبِ الرِّياح؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [الرِّيح مِن رَوْح الله، تأتي بالرَّحْمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرَها، واستعيذوا بالله من شرِّها]. كما سَنَّ عليه الصلاة والسلام الدعاءَ عندَ سماعِ الرَّعد بقوله: [سُبْحانَ الذي يُسبِّح الرعدُ بحمدِه والملائكةُ مِن خِيفته]. وسَنَّ عليه الصلاة والسلام الاستسقاءَ، وهو طلبُ السُّقيا والمطَر مِن الله سبحانه وتعالى بصلاة الاستسقاءِ، أو بالدعاء المجرَّد، أو بالدعاء على مِنبرِ صلاة الجُمُعة.
كما أن من أعمال الخير التي تزداد أهميتها في فصل الشتاء الاهتمام بالفقراء؛ فلا شك أن إيثارهم بما يدفع عنهم غائلة البرد خلال ذلك الفصل له فضلٌ عظيمٌ، وأجرٌ كبيرٌ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ فَرَّجَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ]، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرَى مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَجْوَعَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَنْصَبَ مَا كَانُوا قَطُّ، فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ كَسَاهُ اللهُ، وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ أَطْعَمَهُ اللهُ، وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ سَقَاهُ اللهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ أَغْنَاهُ اللهُ، وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ أَعْفَاهُ اللهُ].
فَهَمُّ المساكين والفقراء في الشتاءِ يقضُّ مضاجعَنا، حين نتذكرُ مبيَتهم في العراءِ بلا مأوى يسترُهم، أو لباسٍ يُدفئُهم، أو طعامٍ يسدُّ جَوعتَهُم، فنحمدُ الله الذي أنعمَ علينا بمأوىً آمنٍ، وفراشٍ دافئٍ، وطعامٍ زكيٍّ، فنسارعُ لنتصدّقَ عليهم، ونقومُ بذلك لأننا قرأنا قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾؛ فما أعظمه من ثواب!
جميلٌ هو الشتاء، على الرغمَ من تقلُبنا فيهِ، ما بين صحةٍ ومرضٍ، وبين عافيةٍ وحُمّى وزُكامٍ و بردٍ، إلا أننا نوقِن أنّ المؤمنَ يؤجرُ على الشوكةِ يُشاكُها فيهونُ علينا ألمُ المرضُ وإنْ كان ثقيلاً. شتاؤنا يعيشُه المؤمنون كروح ٍ واحدةٍ، إنْ مرِضَ أحدنُا دعا له الآخر، وإنْ ضجِرتْ نفسٌ ذكّرتها نفوسٌ أخرى بأجرِ الاحتساب: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، فمرضُ المؤمن هو تكفيرٌ لذنوبه ورفعةٌ لدرجاته. وحينَ مرضتْ أمُ السائب؛ سألها النبيُ صلى الله عليه وسلم: [ما لكِ يا أمَّ السائب؟] فقالتْ: الْحُمَّى، لا بارك الله فيها، فقال لها عليه الصلاة والسلام: [لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ].

وفي فصلِ الشِّتاء تشتدُّ الحاجة إلى بعضِ الرُّخَص التي شرَعَها الإسلام بسماحته ويُسْره؛ ففي الشتاء، وكذا في الصيف، يُرخَّص للمسلم أنْ يمسحَ على الجواربِ؛ درءاً للمشقَّة.
كما يُرخَّص للمسلمين في الجمْعِ بين الصلوات وقتَ اشتداد المطر، وحدوثِ البَلل أو الوحل، أو عند هبوب الرياح المؤذية، ونزول الثلوج أو البَرْد، وإنْ حدثتْ مشقَّةٌ في الاجتماع للصلاة، جازَ للمرء أنْ يُصلِّي في بيته؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يُنادي منادِيه في الليلةِ الباردة أو المَطيرة: "صَلُّوا في رِحالِكم". لكن لا ينبغي التساهل في ذلك والأمر ميسَّرٌ في زماننا؛ فالطُّرُق معبَّدَةٌ، والسيَّارات متوفِّرةٌ، والمساجد قريبةٌ، ولكن هذا مِن يُسْر الإسلام وسماحتِه، والرُّخْصةُ سَعَةٌ وتسهيلٌ متى ما تحقَّقتْ شروطُها.

وهذا رجلٌ صالحٌ كتب عن (الغنيمة الباردة) يقول: "دخلَ الشتاءُ، وعادتْ لياليهُ الطِوال. عادتْ ليالي الأُنس ِبمناجاةِ الربّ، ففي أيامٍ خلتْ كانت وجوهُ الصحابة رضوانُ اللهِ عليهم تتهللُ فرحاً بمقدمِ الشتاء؛ فلطالما انتظرَهُ المُشمِّرون، واشتاقَ إليهِ المشتاقون، فإذا خلد البشرُ إلى منامِهم، وسكنَتْ الأرواحُ من حولِهم، قاموا مُنسلِّينَ خفية، مودّعينَ فُرَشَهَم الدافئة الوثيرة إلى حيث الماء الباردِ، ليُسبغوه على أبدانِهم متطهرين، يرجون به نوراً يستضيؤون به يومَ القيامة، ويتميّزون به عن المنافقين، وما خففَ عنهم ألم الماء البارد إلا ما استيقنوه مِن بشارةِ نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن إسباغَ الوضوءِ على المكارهِ هو مِن كفاراتِ ذنوبِهم. ثم يمضون إلى مصلياتهم، فيقفون طويلاً بين يدي ربِّهم مناجين مخبتين، بعدما علِموا أنّ مَن أطال الوقوف في الليل مناجياً الله سبحانه وتعالى؛ هوّنَ الله عليه طولَ الوقوفِ يومَ القيامة. حينها تبدأُ تراتيل السحر، وتتنزل ملائكةٌ تستمعُ التلاوات، وتصعدُ صلواتٌ وكلماتٌ طيباتٌ، وتُسْكَبُ دموعٌ وعَبَراتٌ، وتنطرحُ بين يدي ربِّنا الأمنيات، والربُّ عزّ وجلّ يتنزلُ ويسمعُ تلك المناجاة، وهو سبحانه ينادي في تلك الساعاتِ الأخيرةِ من الليل ويقولُ: {من يَدعوني فأستَجيبَ لَهُ؟ مَن يسألُني فأُعْطيَهُ؟ مَن يَستَغفرُني فأغفِرَ لَهُ}. أيُّ لحظاتِ قُرْبٍ! أيُّ لحظاتِ نقاءٍ وطُهرٍ! أيُّ سكينةٍ وراحةِ قلبٍ! تمضي الأوقاتُ خفيفةً لذيذةً على من قام الليل، يجلسُ في مصلاهُ في بيته حتى قبيل الفجر؛ فيتسحر ناوياً صيام يومه، ثم يخرج في البرد والمطر ليصلي الفجر مع جماعة المسلمين في المسجد".

أحبتي .. هذا هو نهارُ الشتاءِ القصير، وهذهِ هي لياليهِ الطِوال، فالشتاء هو (الغنيمة الباردة)؛ فللِه ما أسهلَ صيام أيامه، وللهِ ما ألذَّ قيامَ لياليه.
ولابد لِمن لم يعتدْ على ذلك أن يتحلّى بـالصبرِ والمجاهدةِ، وقهرِ شيطانِهِ الذي ما اعتادَ أن يقهرَه، فقد وعدَنا الله سبحانهُ وتعالى على مجاهدةِ أنفسِنا أجراً عظيماً فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، فكمْ فوّت علينا الشيطانُ مِن طاعةٍ حين خيّلَ إلينا أنها ثقيلة. وكم فوَّت علينا مِن غنائم، حينَ أغرانا في ليلِ الشتاء بملءِ بطونِنا بالطعام، وأشغلَ فكرَنا بالدنيا حتى خلدْنا إلى النوم ثم ثقُلَ علينا قيامُ الليل للعبادة وللسحور بعد ذلك!"
سُئل أحد السلف ما بالنا لا نقوم الليل؟ قال: "كبلتكم معاصيكم". إننا لم نُحرم صلاة الليل إلا بذنوبنا وإسرافنا على أنفسنا، ذلك الثلث الأخير الذي تتنزل فيه الرحمات، وتُقسم فيه الهبات من لدن رب الأرض والسموات باسطاً يده سخاءً، يغفر ذنوب المذنبين، ويكشف الضر عن الملهوفين، وينفس كرب المكروبين، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. كرمٌ وتفضلٌ منه نحن عنه معروضون، وبلذيذ المنام نحن مشتغلون. لو دُعي أحدنا في كل ليلةٍ في الثلث الأخير ليُعطىَ مالاً لما تأخر أبداً، فما بالنا نتخلف عن أمرٍ هو خيرٌ من الدنيا وما فيها؟ أخشى أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . والآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، أو ممن قال الشاعر لهم:
قُم الليلَ يا هذا لعلك ترشدُ
إلى كم تنامُ الليلَ والعمرُ يَنفدُ
أراك بطولِ الليلِ ويحَكَ نائماً
وغيرُك في محرابِه يتهجدُ
ولو عَلِمَ البَطَّالُ ما نالَ زاهدٌ
من الأجرِ والإحسانِ ما كان يَرقدُ
أترقدُ يا مغرورُ والنارُ تُوقدُ؟
فلا حرُها يُطفأُ ولا الجمرُ يُخمدُ
فيا راكبَ العِصيانِ ويحكَ خَلِها
ستُحشرُ عطشانَ ووجهُك أسودُ
فكمْ بَيْن مشغولٍ بطاعةِ ربِهِ
وآخرُ بالذنبِّ الثقيلِ مُقْيَّدُ
فهذا سعيدٌ في الجِنانِ مُنَعَّمٌ
وهذا شقيٌ في الجحيمِ مُخَلَّدُ
أحبتي .. قيام الليل وصيام النهار في فصل الشتاء نعمتان فَرَّط فيهما كثيرٌ منّا، رغم كونهما يسيرتين. فليحاسب كل واحدٍ منا نفسه كم ليلةً قامها وكم يوماً صامه؟ ألا ما أعظم تقصيرنا! وسلفُ هذه الأمةِ كانوا من المتقين ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، فقوي إيمانهم وصدَّقه يقينهم، فاجتهدوا وقاموا، قدوتهم في ذلك الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه. لا شك في أن قيام ليل الشتاءِ شاقٌّ على بعض النفوس حين تألُّمُ لتركها الفراشِ الوثيرِ في شدةِ البرد، وحين تسكب الماء شديد البرودة في آخرِ الليل على الأطرافِ الدافئة للوضوء، لكن اليقين بأنَ الأجرَ يعظُمُ مع المشقة يجعل لترك الفراش وصبِّ الماء الباردِ على الأطرافِ لذةً لا تضاهيها لذةٌ أخرى؛ فيهونُ كلُّ ألم ٍ وتعبٍ، وتزول كل مشقةٍ، ويحل الرضى وتسكن النفس.
فالحمدُ للهِ على أجورٍ ليست إلا لمؤمنٍ، والحمدُ لله على ثوابٍ عظيمٍ يُقابلُ عملاً يسيراً، والحمدُ لله على الشتاءِ الذي يُسهّلُ لنا عبادةَ قيامَ الليل وصوم النهار، وأعمال خيرٍ كثيرةٍ. في الشتاءِ غنائمُ وأجورٌ لِمن جدّ وسعى إليها وأقبل عليها؛ فلنعزمْ النيةَ مِن لحظتِنا هذه سعياً إلى إسباغِ الوضوء، وقيام الليل، وصوم النهار، والتصدق على الفقراء والمساكين، وفعل الخيرات، وإتمام العبادات، فإنّ أحدَنا لا يدري متى ستنتهي فرصته في جمع ِ الأجور ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾؛ فلنتسابقْ في قيام الليل وفي صيام النهار لنكون من المقربين فَهُم ﴿السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾، ولنتنافسْ فيما بيننا ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، لنكون من الفائزين بهذه (الغنيمة الباردة).
اللهم اجعلنا ممن وصفهم الشاعر بقوله:
يمشون نحو بيوتِ اللهِ إذ سمعوا الله أكبر
في شوقٍ وفي جَذلْ
أرواحُهم خشعت للهِ في أدبٍ
قلوبُهم من جلالِ اللهِ في وَجلْ
نجواهم: ربنا جئناك طائعةً نفوسُنا
وعَصَيْنا خادعَ الأملْ
إذا سجى الليلُ قاموه
وأعينُهم من خشيةِ اللهِ مثلُ الجائدِ الهَطلْ
هُم الرجالُ فلا يُلهيهم لَعبٌ عن الصلاةِ
ولا أكذوبةُ الكسلْ

طابت أيام وليالي شتائنا عامرةً بقيام الليل وصوم النهار والعبادات وذكر الله وفعل الخيرات.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/xfTzPx