الجمعة، 23 سبتمبر 2016

فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ

الجمعة 23 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٠
(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)

على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في أجمل شواطئ بلدي، في مرسى مطروح .. أجلس بعد صلاة الفجر وقبل الشروق .. أنتظر في لهفةٍ لحظة شروق الشمس في الأفق البعيد .. إنها لحظة ميلاد يومٍ جديد .. البحر هادئ .. صفحة الماء ساكنةٌ لا يحركها إلا نسيم هواء لطيف .. قليلٌ من الناس على الشاطئ ينتظرون موكب الشروق المهيب .. وبعضهم ينتظر ذات اللحظة في شرفات مساكنهم أو شرفات الفنادق التي يقيمون فيها .. أما شارع الكورنيش فبه خليط من الناس: البعض ينهي عمله الليلي وينتظر الشروق كي يحظى بقسطٍ من الراحة بعد عناء العمل، والبعض يستعد ليبدأ فترة عمله الصباحي بجدٍ ونشاط، وبعضٌ آخر يسيرون بخطى منتظمة يرتدون زياً رياضياً يشي بأنهم يمارسون رياضة المشي، يبدو أنهم يجدون متعةً خاصةً للمشي في هذا الوقت بالذات.
السماء من فوق البحر بدأ يتغير لونها من الأسود إلى الرمادي متدرجاً من الغامق إلى الفاتح .. ثم ها هو الرمادي الفاتح يكتسي بصُفرةٍ خفيفة تتحول شيئاً فشيئاً إلى لونٍ برتقالي آسر معلنةً عن بزوغ الشمس وسط طبيعة ساحرة، تأخذ الألوان فيها بالألباب .. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
ها هي إذن اللحظة التي ينتظرها الجميع، تبدأ الشمس في الظهور بالأفق كملكةٍ متوجة يتجه موكبها من خط الأفق الفاصل بين السماء والأرض، وتعلو وتعلو في طريقها إلى عرشها اليومي في كبد السماء، ومع كل علوٍ يتغير لونها من الأبيض إلى الوردي ثم إلى الأحمر المشبع بأعلى درجات الاحمرار قبل أن يستقر على اللون الذهبي الأخاذ.
أما السُحب، تلك التي كانت من دقائق معدودة تملك ناصية السماء وتحتل صفحتها بلونٍ شديد السواد فقد بدأت هي الأخرى في التحول التدريجي المثير .. بدأت في التخلي عن ذلك السواد لتكتسي بألوانٍ أقل قتامةً فترى اللون الأسود وقد تحول إلى اللون الرصاصي ثم إلى الرمادي ثم إلى اللون الفضي ثم إلى اللون الفضي المطعم ببياض ثم إلى ذلك اللون الأبيض شاهق البياض .. وفي تزامنٍ ملفت يدعو للدهشة .. تُفسح السحب الطريق لموكب ملكة اليوم .. شمس الشموس .. وهي في طريقها إلى حيث عرشها يتوسط السماء .. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
خلال ساعة أو اثنتين تكون كل هذه التحركات والتغيرات قد استقرت على الوجه الذي يألفه الناس الذين يستيقظون متأخرين من نومهم .. هؤلاء يفوتون على أنفسهم هذا المشهد الجميل الجليل .. مشهد الأفق بكل ما فيه وهو يتغير من حالٍ إلى حال .. فلا يرون سوى نهار يومٍ عادي.
وحين تغيب الشمس وراء بعض الغيوم، وتشتد الريح قليلاً فتحرك معها جبال السحب بسرعة، وحين يتحول لون تلك السحب مرةً أخرى إلى اللون الداكن وتنخفض درجة حرارة الجو؛ حينئذ يكون الكون قد تهيأ لمشهدٍ آخر .. لا يقل جمالاً ولا جلالاً عن مشهد شروق الشمس .. إنه مشهد سقوط المطر .. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
درجات الحرارة تتغير هي الأخرى، إذا لم يسقط المطر، فتتحول درجة حرارة الجو من البرودة إلى الدفء لتصل إلى ذروة ارتفاعها منتصف النهار مع توسط الشمس صفحة السماء، حينها يحس الناس بالحرارة وقد اشتدت وطأتها فيسارعون إلى حماية أنفسهم منها ومن أشعة الشمس الحارقة بالمظلات الكبيرة يجلسون تحتها يحتمون بظلها وبأغطية رأسٍ تقيهم لهيبها المباشر، إلا من أراد لجسمه لوناً برونزياً متميزاً، فتراه كاشفاً أكبر مساحة ممكنة من بدنه عارضاً إياها لأشعة الشمس المباشرة لا يأبه لآثارها الحارقة.
أما الريح فتلك الهادئة الوديعة لو تغيرت سرعتها وبدأت في التزايد، فقد تتحول خلال لحظات إلى عاصفة قوية تدور حول نفسها، تحرك أمواج البحر وتجعلها تدور هي الأخرى في دوامات تهجم مزمجرة على رمال الشاطئ قويةً عالية تخلع كل ما يقف في طريقها من مظلات ومقاعد ترفعها من أماكنها وترمي بها بغير رحمة في كل اتجاه.

أحبتي في الله .. سبحان الله فيما خلق .. وسبحانه فيما أوجد وأبدع .. حقاً ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾.. ما أجمل الكون من حولنا .. وما أحكم سنن الخالق القدير وتدبيره .. ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .. هلا فتحنا عيوننا لنرى .. وقلوبنا لندرك عظمة هذا الكون الشاسع الواسع .. فإذا أدركنا عظمة الكون فكيف بعظمة خالقه وموجده المتصرف في أحواله المتحكم في مآله؟ سبحانه هو القائل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، توجيه لنا بأن نذكر الله على كل حال، وأن نتفكر في خلقه السموات والأرض؛ لم يخلقهما باطلاً سبحانه.

أحبتي .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، آمراً لنا بالنظر للتفكر والتدبر فهل من مجيب؟ .. هل من ملزمٍ نفسَه بأداء هذه العبادة السهلة والبسيطةٍ والتي لا تكلف شيئاً؟ .. عبادة فيها استجابة مباشرة لهذا الأمر الإلهي الحكيم. فلنخصص وقتاً محدداً للتفكر في خلق الله، خاصةً خلق السموات والأرض، ولو لدقائق معدودة كل يوم، بعد صلاة الفجر مثلاً، أو قبل الغروب، دقائق معدودة، نتدبر فيها سنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، ونقوم فيها بشكر الله الخالق العظيم. دقائق معدودة ولحظاتُ إيمانٍ فيها سكينةٌ وصفاءُ نفسٍ وخشوع يطهر قلوبنا ونفوسنا ويزيدها حباً لله وقرباً منه سبحانه .. دعونا أحبتي نُعَوِّد أنفسنا على هذه العادة الجميلة والعبادة الهادئة فنستمتع بهذه الدقائق القليلة يومياً ونتلذذ بها، ونكتسب أجر التفكر الذي أُمرنا به .. أعاننا الله على ذكره وشكره وحسن عبادته.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/8hI5DV

ليست هناك تعليقات: