الجمعة، 1 يوليو 2016

ليلة القدر


1 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٨

(ليلة القدر)

جمعتنا مشية رمضانية طيبة، كنا عائدين من صلاة التراويح، وفتح صاحبنا موضوع (ليلة القدر) بالتساؤل: "هل يا ترى هي ليلة ٢٧ من رمضان أم ليلة غيرها؟"، قال الثاني بثقة: "هي بالتأكيد ليلة ٢٧، ألا تحتفل الدولة بشكل رسمي بها في هذه الليلة من كل عام؟ أما ترون المساجد تمتلأ بالمصلين، والأئمة يحرصون على ختم القرآن في هذه الليلة؟"، رد الثالث معترضاً: "مع احترامي، ليس هذا دليلاً على أنها تأتي بالفعل في تلك الليلة"، وافقه الأول فيما قال، وأضاف: "سألتكم عن هذا الموضوع لأني قرأت لأحد الباحثين ما يؤكد أنها ليلة السابع والعشرين؛ وجد الباحث أن كلمة [القدر] تكررت ثلاث مرات في سورة القدر، ووجد أن ترتيب ورود هذه الكلمة في السورة كان على التوالي: ١٢،١٠،٥ وأن مجموع هذه الأعداد هو ٢٧!"، قال الرابع: "هذا يذكرني بمعلومة أخرى وصلتني عن طريق الواتس آب؛ تقول أن سورة القدر تتكون من ثلاثين كلمة، بعدد أيام الشهر الفضيل، وأن كلمة [هي] التي تشير تحديداً إلى (ليلة القدر) هي الكلمة رقم ٢٧ في السورة!"، قال الأول: "وأنا سمعت من صديق أن عبارة (ليلة القدر) تتكون من ٩ حروف وهي قد تكررت في هذه السورة ٣ مرات، فإذا ضربنا ٩ في ٣ كان الناتج ٢٧!"، أضاف الرابع: "للأمانة، أنا اطلعت على دراسة رقمية عن الموضوع تعتمد على أن لكل حرف من حروف اللغة العربية قيمة حسابية محددة عند العرب، وتوصلت الدراسة إلى نتيجة مفادها أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٣، ثم اطلعت على حديث شريف للصحابي عبد الله بن أنيس وآخر لأبي هريرة لتحري (ليلة القدر) ليلة ٢٣"، عاد الحديث للثاني فقال: "أما أنا فقد شاهدت مقطعاً على اليوتيوب يتحدث فيه أحد المهتمين بالأمر عن أنه وضع كاميرات رقمية وأجهزة قياس أشعة وحرارة ورطوبة في أكثر من موضع في أكثر من دولة وانتهى إلى أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٩، وأن أجهزة القياس توصلت إلى ثبات هذا اليوم في الفترة من عام ٢٠٠٤م حتى٢٠١١م!، كما شاهدت مقطعاً آخر عن آية سورة الدخان التي تتحدث عن إنزال القرآن الكريم في ليلة مباركة توصل الباحث من خلالها بطريقة حسابية إلى أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٩"، أمسك الثالث بطرف الحديث فقال: "وأنا قرأت أن أبا سعيد الخدري، الصحابي الجليل، يعتقد أنها ليلة ٢١، ويستند في ذلك إلى حديث للرسول عليه الصلاة والسلام عندما اعتكف العشر الوسطى من رمضان". أراد صاحبنا الذي فتح الموضوع أن ينهيه فقال: "أخشى أننا نتكلم عن ليال وترية قد تكون في الحقيقة زوجية ونحن لا ندري؛ ألا تذكرون أن هناك بلاداً تشترك معنا في جزء من الليل أعلنت بداية شهر رمضان بعدنا بيوم؟ والله أعلم أَنَحْنُ أم هُم على صواب!".
اكتفيت بالاستماع والتزمت الصمت، وأحمد الله أن أحداً منهم لم يسألني عن رأيي في الموضوع؛ فقد كانت تلح علي طوال الوقت فكرة أن (ليلة القدر) من الغيب الذي أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾؛ فإذا كان الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ يريدها أخفى هذه الليلة فلماذا يجتهد بعض الناس في معرفتها؟ ثم ماذا ينتظر هؤلاء؟ هل ينتظرون أن يصلوا بشكل مؤكد ونهائي إلى تحديد ليلة أراد الله سبحانه وتعالى إخفاءها؟ يا لسقم هذا المنطق وسخافته.
استغرقني التفكير في الأمر؛ وتساءلت بيني وبين نفسي: كم من الناس شغلوا أنفسهم بهذا الأمر؟ وكم استغرق منهم ذلك من وقت وجهد؟ وكم من الناس يُضَيِّع أفضل أوقات العبادة وأغلاها وأثمنها فيما لا طائل منه؟ لو أن أحدنا ضيع فقط خمس دقائق من وقته في ليلة من ليالي الوتر في العشر الأواخر من رمضان لمناقشة هذا الأمر والبحث فيه والحديث عنه، لو استمر في ذلك لخمس دقائق فقط، وتصادف أن هذه الليلة كانت (ليلة القدر) بالفعل فمعنى ذلك أنه أضاع على نفسه ما هو خيرٌ من ٣١٢ يوماً كان الأفضل له أن يشغلها بصلاة أو زكاة أو اعتكاف أو تلاوة قرآن أو دعاء أو صدقة أو بر والدين أو صلة رحم وبغير ذلك من أعمال البر والخير؛ فالشيء المؤكد هو قول الحق سبحانه وتعالى عن (ليلة القدر) أنها: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، وهذا بالحساب معناه أنها خير من ٨٣ سنة و٣ شهور، وبتقسيم ذلك على ساعات الليل بالقاهرة هذه الأيام وهي ٨ ساعات تكون الساعة الواحدة فيها خيراً من ١٢٥ شهراً، والدقيقة خيراً من شهرين كاملين، فتكون الدقائق الخمس خيراً من حوالي ١٠ شهور و١٢يوماً! ولا ننس قوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
أحبتي في الله .. في موضوع مشابه، وهو موضوع الفتية أصحاب الكهف، اختلف الناس في عددهم، فجاءت الآية الكريمة بالتوجيه الرباني: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ إرشاداً لنا بالبعد عن الخوض في تفاصيل معرفتها لن تفيد والجهل بها لن يضر.
أحبتي .. البعض منا يتمنى لو يعلم (ليلة القدر) ليطلب بها شيئاً لدنياه، والأنفع له والأفضل أن يكون همه الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل؛ يقول الله في كتابه الكريم: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾.
أحبتي .. يقول المفسرون: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ معناه: عملٌ صالحٌ في (ليلة القدر) خيرٌ من عمل ألف شهرٍ ليس فيها (ليلة القدر). إنها ليلة يَقْبَلُ الله التوبةَ فيها من كل تائب، وتُفَّتَحُ فيها أبوابُ السماء، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها، وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها ليلة مباركة: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾، وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديث عن شهر رمضان: [... لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ]، كما قال: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه]. وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما قالت السيدة عائشة رضيَ الله عنها: [إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله]، كما قالت أنه: [كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره].
فلنضاعف الجهد التماساً لبركة هذه الليلة، وحتى لا نُحرم خيرها، وكي نكون من الفائزين بالمغفرة، فما أعظمها من جائزة، وما أغلاه من فوز.
لا ندري هل نكون ممن يدركون هذه الليلة المباركة هذا العام أم لا؟ وهل نكون من المقبولين؟ ولا ندري هل ما يزال في العمر متسع لندركها في أعوام قابلة أم لا؟؛ فشمروا أحبتي سواعد الجد والاجتهاد، في الليالي العشر الأواخر من رمضان، وضاعفوا الجهد قدر الإمكان في الوتر منها .. ﻻ‌ تفوتوا الفرصة؛ عسى نكون وإياكم من السعداء الذين يدركون هذه الليلة ويفوزون ببركتها.
وأذكر نفسي وأذكركم بأن أفضل دعاء في (ليلة القدر) هو: [اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.