الجمعة، 9 يوليو 2021

نعمة الأخت

 

خاطرة الجمعة /299


الجمعة 9 يوليو 2021م

(نعمة الأخت)

 

يقول راوي القصة: طلبتْ مني والدتي إيصال بعض الأغراض إلى منزل أختي، ورغم أني حاولتُ التهرب من ذلك بحجة العمل ومشاغل الحياة المختلفة؛ فقد أصرت أمي على طلبها ما جعلني أستسلم لها في الأخير، فتوجهتُ نحو منزل أختي بعد أن أعلمتها والدتي عبر الهاتف مسبقاً بقدومي. الأمر الغريب أني لم أزر منزل أختي منذ زواجها، بحجة إقامتها مع أهل زوجها في منزلٍ مشترك! ‏وبسبب ثقل الأغراض التي نقلتها اضطررتُ إلى دخول منزل أختي بنفسي لأول مرةٍ؛ حتى أضع ما جلبته في غرفتها، فكان أول ما شد انتباهي هو السعادة التي لمحتها في عيون أختي حتى أنها ظلت تُحدث أهل زوجها عني بسعادةٍ غامرةٍ: "أخي، إنه أخي، نعم أخي هو من جلبها"، قالت إحداهن -ربما أخت زوجها-: "أهذا أخوك؟! لم نره من قبل" فردت: "مشغولٌ في عمله، المسكين لا يرتاح أبداً". كم شعرتُ بالخجل حين سمعتُ محاولات أختي لتبرئتي من تهمة الإهمال الذي أقدمه لها كل يومٍ بعدم زيارتها والاطمئنان عليها، بينما ظلت هي تحاول الدفاع عني بأعذار واهيةٍ لا أساس لها! وأكثر من ذلك، حين حاولتُ المغادرة أوقفتني قائلةً: "توقف، لن تغادر قبل أن تشرب القهوة، لقد أعددتُ لك فطوراً لكنك تأخرتَ لهذا سأقدم لك القهوة، أعددتُ لك بعض الحلويات التي تحبها"، حاولتُ الرفض فلمحتُ دموعاً تجمعت في عينيها فتيقنتُ أني لو ذهبتُ لانفجرت بعد مغادرتي بالبكاء، فكأنما لسان حالها يقول: "أنت لا تأتي مطلقاً، وعندما أتيتَ تذهب بهذه السرعة؟ هل أتيتَ من أجل الأغراض فقط؟ وأنا؟ ألا يهمك أمري مطلقاً؟!"، تنهدتُ موافقاً على دعوتها، حينها اتصلت بزوجها مدعيةً سؤالها عن تأخره، وهي فعلت ذلك فقط لتخبره عن زيارتي، كانت تخبره بلهفةٍ ولو استطاعت لأخبرت كل الأهل والجيران بذلك من فرط سعادتها. لم أحظَ باستقبالٍ كهذا في حياتي، هل هي مكانتي الكبيرة عندها؟ أم هي محاولةٌ منها لتعويض أيامٍ غبتها عنها وحرمتها من زيارتي لها؟ كانت فرحتها كطفلةٍ تنتظر عودة أبيها بعد طول غياب، وكان اهتمامها كأمٍ تحاول تعويض ابنها بحنانها وسرد تفاصيل حياتها كلها دفعةً واحدة!

غادرتُ بيتها بعد ذلك وأنا أحس أني صغيرٌ جداً، كطفلٍ وُلد للتو، فأنا لا أستحق كل ذلك الكرم من أختي، ولم أتوقع أبداً مدى سعادتها بزيارتي. سألت نفسي كيف تمكنت أختي من تقديم كل ذلك لي وأنا الذي دفنتها منذ سنوات في مقبرة الإهمال والنسيان؟ غادرتُ ورغم ذلك ظلت تطل من شِق نافذة غرفتها حتى ابتعدتُ وتواريتُ عن نظرها، ودعتني وكلها خوفٌ أن تكون هذه آخر زيارةٍ مني لها، فظلت تقول: "عُد لزيارتي مرةً أخرى، عُد لزيارتي رجاءً، عُد يا أخي فأنا أنتظرك".

 

أحبتي في الله .. ما أجمل ولا أروع من أن يعيش الإنسان على فطرته التي خلقه الله عليها؛ فلا يحاول تغييرها أو تبديلها. لقد فُطر الأخ على حب أخواته، وفُطرت الأخت على حب إخوانها. إنها (نعمة الأخت) أنعم بها الله سبحانه وتعالى على من له أخت.

وبقدر فرحة وسعادة الأخت بزيارة أخيها الذي لم يزرها منذ مدةٍ طويلةٍ، بقدر فرحة وسعادة أختٍ أخرى أنقذها أخوها بذكاءٍ من موقفٍ محرج؛ تقول الأخت: بعد أن نظفتُ بيتي ورتبتُه، اتصلَ بي أخي، قائلاً لي: "أنا آتٍ لزيارتِكِ ومعي زوجتي"، دخلتُ مطبخي لأُعدَّ لهم ما تيسرَ، فلم أجد شيئاً عندي للضيافة، ذهبتُ أبحثُ عن شيءٍ أقدمُهُ لهما، فلم أجد سوى حباتٍ قليلةٍ من البرتقال، فحضَّرتُ كأسيّ عصيرٍ باردٍ على الفور. عندما دخل أخي وزوجتُه، فوجئتُ بأمِّ زوجةِ أخي معهما، أتت لزيارتي للمرةِ الأولى، فقدمتُ الكأسين لزوجة أخي وأمِها، ووضعتُ كأس ماءٍ أمام أخي، وقلتُ له: "أعرفُ أنكَ تحبُ السڤن آب"، فشربَ منهُ رشفةً وعرفَ أنه ماء، وإذا بأمِّ زوجةِ أخي تقول: "أنا أرغبُ في السڤن آب لأنهُ مريحٌ لمعدتي فأعطني إياه"، هنا أُصِبْتُ بالإرباكِ والخجلِ لكنَّ أخي أنقذني حينَ قال لها: "سآتيكِ بزجاجةٍ جديدةٍ من المطبخِ "، حملَ كأسَ الماء معه وتوجه إلى المطبخ، بعدها سمعنا صوتَ زجاجٍ ينكسر؛ فعادَ أخي وقالَ لأمِّ زوجتِه: "للأسفِ الشديدِ وقعَت الزجاجة وانكسرَت، لكنْ لا بأسَ سأذهبُ للبقالةِ لأجلبَ غيرَها"، هنا رفضتْ أمُّ الزوجةِ قائلةً: "لا داعي لذلك فليسَ لي فيهِ نصيب". وحينَ خروجِهم ودَّعني أخي، وفي أثناءِ عناقه لي دسَّ في يدي مبلغاً من المالِ قائلاً: "التفتي لحالِكِ، ولا تنسي تنظيفَ المطبخِ من الزجاجِ المكسورِ" ، وودعني بابتسامةٍ وحُب، وبهذا سترَ أخي عليّ ضيقَ حالي وتقصيري، وراعى مشاعري، وأنقذني من ذلك الموقف المحرج.

 

يقول ناشر القصة: الأخوةُ ورابطةُ الدمِ تكونُ قويةً عندما يشدد الأخُ عضدَهُ بأخيه؛ ألا يقول الإنسانَ عندما يتألمُ "أخ"؟ هذا يوضح كم يجبُ أن تكونَ العلاقةُ بين الإخوةِ قويةً؛ فَهُم ليسَ لهم بعدَ اللهِ إلا علاقتهم بوالديهما وببعضِهم البعض قبلَ أيِّة علاقةٍ أخرى.

 

عن الأخت على وجه الخصوص يقول الله سبحانه وتعالى وهو يشير إلى أم نبي الله موسى عليه السلام: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، يقول أحد العلماء عن هذه الآية: إنها قصة الأخت التي أعلى الله شأنها في كتابه بذكرها؛ حيث مضت في عالمٍ من الخوف والجبروت خلف أخيها الرضيع، لا يمكن لقلبٍ على وجه الأرض -بعد أمه- أن يقوم بهذا الدور الشجاع إلا قلب الأخت، تابعت التابوت حتى ألقاه الموج بالقصر ولم تتراجع، مضت تتابع خبره في القصر رغم المخاطر، واقترحت عليهم ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾. قصة أخت موسى قصة حبٍ مكررةٍ وموجودةٍ في كل بيتٍ من بيوتنا؛ قلوبٌ تحمل هذا الحب للإخوان. سطر القرآن ما يحملنه الأخوات من حبٍ لإخوانهن، لم يقل فلانة لأنه ليست قضية فلانةٍ، بل قال: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ﴾ لأن الأخوة الكامنة هنا الأخوة التي تبعث على الرحمة والعطاء والصلة والإحسان والقرب. الأخت هي النسخة المؤهلة لحمل رسالة الأم؛ فيا حظ من كان من نِعم الله عليه (نعمة الأخت).

 

ويقول سبحانه وتعالى عن النساء بصفةٍ عامةٍ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عنهن: [رِفْقًا بِالْقَوَارِير]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم]، كما قال: [إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ]، وقال كذلك: [أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا]، وقال أيضاً: [خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي].

 

ويقول أهل العلم إن الأخ سند أخته وحاميها وخط دفاعها الرئيسي بعد والدها، وهو ينصرها ويرفع عنها الظلم حتى لو كان من زوجها، والأخت من أقرب القرابات، وهي أَوْلَى الناس بالصلة بعد الآباء والأُمهات، وهي من الرحم الواجب وصله. وللأخت حقوقٌ على أخيها ليُقَوي بها ضعفها ويدعمها في عجزها فهو السند الحامي؛ فالأخت أتت من ذات صلب أخيها، ومن ذات الرحم الذي أتى منه فمن أحق منها بالعناية واللطف والرعاية؟

في حال وجود الأب على قيد الحياة يكون للأخ دورٌ في نُصح أخته ومصادقتها والأخذ بيدها، وفي حال وفاة الأب فالأخ يكفل أخته شرعاً، ويكون له الحق في تربيتها وتوجيهها، ومساندتها والعطف عليها ومد يد المساعدة لها أينما احتاجت. والأب هو المسؤول عن النفقة على البيت والأولاد بما فيهم البنات، وبعد وفاته يصبح الأخ مكلفاً بهذا الإنفاق، فيكون هو المعيل الشرعي لأخواته في هذه الحالة.

وفي كثيرٍ من الأحيان تكون حاجة الأخت لوجود أخيها معها معنويةً أكثر منها مادية، فتحتاج إلى وجوده النفسي ودعمه لها والاستماع لها، ودرء الخطر عنها، والسؤال عن أخبارها وأمورها والحفاظ على صداقتها.

وإكرام الأخت والإحسان إليها وصلتها بعد زواجها يشد من أزرها ويرفع رأسها أمام أهل زوجها. وكم هو جميلٌ أن تكون علاقة الأخ بزوج أخته طيبةً وتقوم على الاحترام؛ فالمشترك بينهما هو تلك الأخت، واحترام زوجها من احترامها.

وعلى الأخ أن يساعد أخته ويقف معها وقت اتخاذ قرارات مصيرية وهامة في الحياة مثل: الدراسة والزواج والعمل، وغيرها من الأمور الهامة التي تحتاج فيها إلى الرأي والمشورة. وعلى الأخ أن يُشعر أخته باهتمامه بها وخوفه عليها، وبهذا يكسب ثقتها، لكن للأسف نرى من واقع الحياة أن بعض الإخوة يتسلطون على أخواتهم؛ فينتهكون حرياتهم، ويؤذونهم بحكم أنه الذكر القوي وهي الأنثى الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة. ومن بين صور التسلط حرمان الأخوات من حقهن في التعليم، حجب الميراث الشرعي عنهن، إجبارهن على الزواج ممن لا يرغبن، فرض القيود المشددة المبالغ فيها على خروجهن أو اتصالاتهن أو ملابسهن.

 

وعن (نعمة الأخت) قال الشاعر:

قدرُ الأخوةِ فيكِ لا يُعلى عليه وإن بعدتِ

فمكانكِ بين الحنايا والشغافِ فأنتِ أختي

إن قدَّرَ اللهُ الّلقاءَ فأنا سعدتُ وأنتِ طبتِ

فيكِ عرفتُ القلبَ يطربُ إنْ نطقتِ أو سكتِ

أدعو الإلهَ يصونكِ أنى رحلتِ أو أقمتِ

ويقيمُ فيكِ مراكبي إنْ هاجَ بحركِ أو سكنتِ

 

أحبتي .. لن تكتمل خيريتنا لأهلنا إلا بأن نكون خيرين مع أخواتنا، فهُنّ بحنانهن البلسم لحياتنا، إنهُنّ يُشِعْن في بيوتنا البهجة والأنس، ويهتمون بنا كما لو كُنّ أمهاتنا! فالله الله في أخواتكم، رفقاً بهنّ وإكراماً لهنّ. أختم بما قاله أحدهم: "هناك رجالٌ أدوا حقوق أخواتهم؛ يتفقدونهن يزورونهن يكرمون أزواجهن إكراما لهنّ، يسندونهن يُعينهن يؤنسهن يفرحون بهن، إذا قدمت إحداهن له يعطيها حقها قبل أن تسأله؛ فالشهم يُعامل الكبيرة كأمه يحترمها ويرعاها، ويُعامل الصغيرة كابنته يتلطف معها ويسعى لخدمتها". فلنكن من هؤلاء الرجال الذين يضعون أخواتهم في قلوبهم وعيونهم، ويرعونهم، ويحافظون على حقوقهن، ويقضون لهم مصالحهن قدر الاستطاعة، ثم يشكرون الله سبحانه وتعالى من قبل ومن بعد على ما أنعم به عليهم من نِعمٍ لا تُعد ولا تُحصى، منها (نعمة الأخت).

https://bit.ly/3AWoiSm