الجمعة، 2 مارس 2018

الهُدى بين يديك


الجمعة 2 مارس 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٤
(الهُدى بين يديك)

سأل صديقٌ لي أحد العلماء الأجلاء، وكنت حاضراً وقت السؤال، فقال: إنه دعا أحد إخوانه في الله إلى الإيمان، وإلى الهداية والالتزام، فقال له: "لم يهدني الله"، واستشهد بهذه الآيات: يقول الله عز وجل: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، فكيف أرد عليه؟

قال العالم الفقيه بأن الجواب عن هذا السؤال جاء في القرآن الكريم، يقول عز وجل: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾. والأمر ﴿وَاتَّبِعُوا﴾ أمرٌ لجميع المكلفين باتباع ﴿أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وأحسن ما أنزل هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ أي: ليس هناك مجال للتأخير أبداً، إن من يماطل أو يؤجل التوبة، لحظةً واحدةً خاسرٌ؛ لأن التأجيل ليس من صالحه؛ فقد يفاجئه القضاء والقدر بالموت، الذي سماه المولى عز وجل العذاب ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾، فيخسر خسارةً كبيرةً، ويندم ندامةً لا تُعوض. وإذا سَلِمَ الإنسان من الموت ولم يتب؛ فإنه يخسر بالتأجيل وقتاً ذهبياً من عمره كان بإمكانه أن يستغله، وأن يملأه بالعمل الصالح. لقد قال المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾، فرد الله جل وعلا عليهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً﴾؛ فبداية طريق الهداية تكون من الإنسان نفسه. 
أحبتي في الله .. الهداية لغةً: هي مصدرٌ للفعل هَدَى يَهدي، فهو هادٍ والمفعول منه مَهدِيّ، وهي الإرشاد والدلالة إلى ما يُوَصِّل إلى الهدف المطلوب، وهَدَى الحائرَ: أي أرشده، وأوصله، ودلّه على الطريق السليم، وضدُّ الهداية الضّلال، وهدَى هَدْيَ فُلانٍ: أي أنّه سلك طريقه، واسترشد به، وتبِع نهجه. فالهداية في اللغة هي الدلالة والتعريف والإرشاد والبيان.
أما الهداية اصطلاحاً فهي الدلالة بلُطفٍ إلى ما يوصِلُ المرء إلى بُغيته وهدفه. ومن مُسلَّمات الأمور أنّ الهداية والصلاح رزقٌ من الله تعالى يرزقه من يشاء من عباده؛ وذلك وفق حكمةٍ وتقديرٍ وعلمٍ مُسبَقٍ من الله سبحانه وتعالى بأحوال عباده وحقيقة صفاء نيّاتهم.

يقول أهل العلم أنه لا أحد يملك الهداية إلّا الله تعالى، حتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي بعثه الله هُدىً للناس، اقتصرت وظيفته على تبليغ الناس وإرشادهم إلى الطريق القويم، ثمّ يهدي الله من يشاء، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾،  فالرسول صلّى الله عليه وسلّم لمّا أراد الهداية لأقرب الناس إليه عمِّه أبي طالب لم يستطع ذلك، وجاءه من الله تعالى البيان بأنّ الهداية بيد الله وحده، قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

لقد افترض سبحانه على عباده أن يتضرعوا إليه بطلب الهداية في اليوم مراتٍ ومراتٍ؛ وذلك في كل ركعةٍ من ركعات الصلاة في قراءة الفاتحة حيث نقرأ قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
لقد جعل الله المرء مختاراً للخير أو الشر؛ لقيام الحجة عليه، وإن الله تبارك وتعالى أوضح أنه بين للإنسان طريقين: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، وعلى كلٍ منا أن يختار لنفسه طريقاً واحداً منهما: طريق النجاة بالإيمان بالله والإخلاص له والالتزام بكل ما أمرنا به والبعد عن كل ما نهانا عنه، أو طريق الهلاك بالبعد عن الصراط المستقيم؛ وكأن المولى سبحانه وتعالى يقول لنا (الهُدى بين يديك) والخيار لك.
خلق الله الإنسان وأودع فيه فطرةً سليمةً لاختيار السلوك الصحيح، وأنزل كتباً، وأرسل رسلاً، لإرشاده لسلوك طريق الخير، وبيان طريق الشر للابتعاد عنه، وترك الاختيار لنا؛ إذا شئنا التزمنا وإذا شئنا ابتعدنا عن طريق الصواب.
فالله تعالى يقول: يا من يدعي أن الله لم يهده: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي﴾ وقد هديتك، ودللتك عليَّ، ولكن بدلاً من أن تأخذ آياتي هذه وتهتدي وتعمل بها كذبت، فتركت القرآن، وتركت السنة، ومِلْتَ إلى السيئات والمنكرات والمعاصي والآثام، وصرت عبداً للشيطان تطيعه فيما يأمرك به ويزينه لك، وإذا قال لك أحدٌ شيئاً، تقول: "لم يهدني الله بعد"! كيف وقد هداك؛ تأمل قول المولى عز وجل يرد عليك: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. يقول سبحانه: ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، هذه الآية الكريمة دعوةٌ لجميع العصاة إلى التوبة والإنابة، وإخبارٌ بأن اللّه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها، مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. 

قال تعالى عن عباده المؤمنين العارفين به: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
وقال تعالى عن المؤمنين من أهل الهدى في الدنيا: ﴿وَهُدُوا إلى الطيب من القول﴾، أي: في الدنيا، ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ فالهداية في الدنيا توفيقاً وتثبيتاً من الله تعالى إلى صالح الأقوال والأعمال تكون سبباً للهداية في الآخرة إلى صراط الله تعالى ثم إلى جنته سبحانه، وكل عبدٍ صالحٍ يُهدى إلى منزله فيها.

وفي الحديث، قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: [كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي، فَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ... ] ، ثُمَّ تَلا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ سورة الزمر آية 56. 
وكان النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ينقِل التُّراب يوم الخندق، حتَّى اغْمَرَّ بطنُه، أوِ اغبرَّ بطنُه، يقول: [وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا إِنَّ الأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا] ورفع بها صوته: [أَبَيْنَا أَبَيْنَا].

ومن أعظم أسباب الهداية، المجاهدة.. مجاهدة النفس فمن جاهد نفسه وشيطانه ورفقة السوء وصّله الله تعالى وأخذ بيده إلى الهداية قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
ومجاهدة النفس هي اختيار الأذكياء؛ فإن كان (الهدى بين يديك) كيف تتركه إلى طريق الضلال؟
وفي سعينا إلى الهدى علينا أن ننتبه إلى العقبات التي تمنع السير في طريق الهداية: وهي: الكفر؛ قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾، والظلم؛ قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، والفسق؛ قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، والإسراف والكذب؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾، والهوى؛ قال الله تعالى: ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾، والشيطان؛ قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾، والنفس الأمارة بالسوء؛ قال تعالى ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، والانشغال بالدنيا؛ قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

أحبتي .. يقول سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها"، ويقول فضيل بن عياض: "الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين".

فيا صديقي، يا من تقول "لم يهدني الله"، ابدأ بسم الله، ولتكن نيتك أن تلتزم سبل الحق وطريق الهدى، ولا تقل أبداً: "إذا أراد الله أن يهديني اهتديت"، أخلص النية وفقك الله، وانشط في سعيك أعانك الله، فإذا سعيت فتح الله لك أبواب الخير، أما أن تجلس في البيت وتقول: "لو أراد الله أن يهديني اهتديت"، فهذا خداعٌ للنفس يزينه الشيطان لك، وتَذَكَّر أن سُنة الله في خلقه واضحةٌ في الآية الكريمة: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا هداةً مهديين، واجعلنا سببًا لمن اهتدى، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم لك الحمد على الهداية إلى الإسلام، ولك الحمد على اتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام.

تبقى كلمةٌ لابد منها؛ عنوان هذه الخاطرة (الهُدى بين يديك) هو عنوان كتابٍ قيمٍ أصدره المرحوم الوالد/ إبراهيم عبد الله الوليلي، قبل أكثر من عشرين عاماً؛ اللهم اجعله عِلماً يُنتفع به بعد وفاته، واجزهِ عنه خير الجزاء، وارحمه ربي واغفر له، واجعل مثواه الفردوس الأعلى من الجنة، واجمعنا به وبكل من نحب، في جنتك، واشملنا اللهم بعفوك ورحمتك وعطفك وكرمك ومَنِّك وفضلك ورضاك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/h7tc7q