الجمعة، 19 يناير 2024

قيام الليل

 

خاطرة الجمعة /430

الجمعة 19 يناير 2024م

(قيام الليل)

كان يسكن مع أمه العجوز في بيتٍ متواضعٍ، وكان يقضي معظم وقته في غرفته أمام شاشة التلفاز أو ممسكاً بهاتفه المتحرك؛ يُشاهد أفلاماً خليعةً، يسهر الليالي من أجل ذلك، لم يكن يذهب إلى المسجد ليؤدي الصلاة المفروضة مع جماعة المسلمين. طالما نصحته أُمه بأداء الصلاة؛ فكان يستهزئ بها ويسخر منها ولا يُعيرها أي اهتمام. مسكينةٌ تلك الأم؛ فهي لا تملك شيئاً، وهي المرأة الكبيرة الضعيفة، إنها تتمنى لو أن الهداية تُباع فتشتريها لابنها ووحيدها بكل ما تملك، وهي لا تملك إلا شيئاً واحداً فقط هو الدعاء في جوف الليل، إنه سهام الليل التي لا تُخطئ؛ فبينما هو في غرفته يسهر طوال الليل أمام تلك المناظر المُزرية، كانت هي في غرفتها حريصةً على (قيام الليل) تُصلي وتدعو الله سبحانه وتعالى بأن يهدي ابنها ويجعله من الصالحين، ولا عجب في ذلك فإنها عاطفة الأمومة التي لا تساويها عاطفة، وهي حُسن الظن بالله سبحانه وتعالى.

وفي ليلةٍ من الليالي، حيث السكون والهدوء، وبينما هي رافعةٌ كفيها تدعو الله وقد سالت الدموع على خديها، دموع الحزن والألم، إذا بصوتٍ يقطع ذلك الصمت الرهيب، صوتٍ غريبٍ، توجهت الأم مسرعةً باتجاه الصوت وهي تصرخ خوفاً على ابنها من أن يكون قد أصابه أي سوءٍ، نادت عليه: "ولدي حبيبي"، فلما دخلت عليه غرفته إذا هو ممسكٌ بعصا في يده يُحطم بها شاشة التلفاز، الذي طالما عكف عليه وانشغل به عن طاعة الله وطاعة أمه وترك من أجله الصلوات المكتوبة، ثم انطلق إلى أمه يُقبّل رأسها ويضمها إلى صدره، في تلك اللحظة وقفت الأم مندهشةً مما ترى، والدموع على خديها، لكنها في هذه المرة ليست دموع الحزن والألم، وإنما دموع الفرح والسرور؛ فقد استجاب الله لدعائها وكانت هداية ابنها، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.

 

أحبتي في الله.. إنه (قيام الليل) حيث الدعاء فيه مُستجابٌ بإذن الله، تتغير به حياة الإنسان بشكلٍ جذريٍ، برحمة الله؛ فهذا شابٌ كتب يقول:

(قيام الليل) غيّر حياتي؛ فقد كنتُ أعصي الله كثيراً، لكن والله ما من مرةٍ أعصيه وأفعل ذنباً إلا وضميري يؤنبني، وأتمنى لو أن الأرض انشقت وابتلعتني، وكنتُ أستغفر الله وأسأله أن يُثبّت قلبي على دينه، لكني كنتُ أضعف وأجد نفسي أقع في الحرام مرةً بعد أخرى؛ فقد كان الشيطان يُسيطر عليّ ويوسوس لي؛ مرةً بأنه لا توبة بعد كل هذه الخطايا والمعاصي، ومرةً بأن باب التوبة مفتوحٌ في كل وقتٍ فلِمَ العجلة! إلى أن حانت لحظةٌ واجهتُ فيها نفسي، وجاهدتُ هواها، عسى أن يهديني ربي وأتوب توبةً نصوحاً لا رجعة بعدها للباطل، قمتُ فتوضأتُ وصليتُ وقررتُ أن أستيقظ من الليل وأُصلي بعض الركعات وأدعو الله بأن يُبعدني عن طريق الحرام، والحمد لله استجاب الله دعائي في (قيام الليل)؛ وها أنا ذا الآن أسير في طريق الله، وأسأله جلَّ وعلا أن يقبل توبتي. كانت حياتي قبل القيام بائسةً حزينةً وساخطةً على كل أمور الدنيا، لكن القيام غيّرني؛ فأصبحتُ -برحمة الله- أنعم بالسكينة وأتمتع براحة البال، وشعرتُ لأول مرةٍ في حياتي بحلاوة الإيمان، وبالسعادة تملأ وجداني، لِمَ لا وقد اقتربتُ من الله سبحانه وتعالى فقرّبني منه وهداني.

 

ومن القصص المُثيرة التي تتحدث عن (قيام الليل) هذه القصة التي رواها أحد التابعين، وجاء ذكرها في كُتب التُراث، يقول كاتبها: كُنا في سفينةٍ فألقتنا الريحُ إلى جزيرةٍ فنزلنا فإذا فيها رجلٌ يعبدُ صنماً؛ فأقبلنا إليه وقُلنا له: يا رجل من تعبد؟ فأشار إلى صنمٍ، فقلنا: معنا في السفينة من يصنع مثل هذا، فليس هذا إلهٌ يُعبد، قال: أنتم من تعبدون؟ قلنا: نعبد الله، قال: وما الله؟ قُلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي الأحياء والأموات قضاؤه، قال: وكيف علمتم به؟ قُلنا: وجَّه إلينا هذا الملكُ العظيمُ الخالقُ الجليلُ رسولاً كريماً فأخبرنا بذلك، قال: فما فعل الرسول؟ قُلنا: أدَّى الرسالة ثم قبضه الله إليه، قال: فما ترك عندكم علامة؟ قلنا: بلى، قال: ما ترك؟ قُلنا: ترك عندنا كتاباً من الملك، قال: أروني كتاب الملك فينبغي أن تكون كُتب الملوك حِساناً، فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا، فقرأنا عليه سورةً من القرآن، فلم نَزَلْ نقرأ وهو يبكي ونقرأ وهو يبكي حتى ختمنا السورة، فقال ينبغي لصاحب هذا الكلام ألا يُعصى، ثم أسلم وعلمناه شرائع الإسلام وسوراً من القرآن، وأخذناه معنا في السفينة، فلما سرنا وأظلم علينا الليل وأخذنا مضاجعنا قال: يا قوم هذا الإله الذي دللتموني عليه إذا أظلم الليل هل ينام؟ قلنا: لا يا عبد الله هو حيٌ قيومٌ عظيمٌ لا ينام، فقال: بئس العبيد أنتم تنامون ومولاكم لا ينام، ثم أخذ في التعبد وتركنا. فلما وصلنا بلدنا قلتُ لأصحابي: هذا قريب عهدٍ بالإسلام وغريبٌ في البلد فجمعنا له دراهم وأعطيناه إياها، قال: ما هذا؟ فقلنا تُنفقها في حوائجك، قال: لا إله إلا الله، أنا كنتُ في جزائر البحرِ أعبدُ صنماً من دونه ولم يُضيعني؛ أفيضيعني وأنا أعرفه؟! ثم مضى يتكسَّب لنفسه، وكان من بعدها من كبار الصالحين إلى أن مات.

 

إنها صلاة (قيام الليل) يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ويقول كذلك: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، ويقول في وصف عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾، ويُخاطب رسوله بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً . نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾، وبقوله: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾، وبقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصفَهُ﴾.

وفي السُنة المشرفة؛ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقُومُ الليل حتَّى تَتورَّمَ قَدَمَاهُ وتَنتفِخ؛ فيُقَالُ له فيَقولُ: [أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: [إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظَاهِرِها]، فقيل: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: [لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وباتَ قائِمًا والناسُ نِيامٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَفْضَلُ الصَّلاةِ، بَعْدَ الفَرِيضَةِ، صَلاةُ اللَّيْلِ]. كما قال صلّى الله عليه وسلّم: [من قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتب منَ الغافلينَ، ومن قامَ بمائةِ آيةٍ كُتبَ منَ القانتينَ، ومن قامَ بألفِ آيةٍ كُتبَ منَ المُقنطرينَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [عليكُم بقيامِ اللَّيلِ، فإنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحينَ قبلَكُم، وقُربةٌ إلى اللهِ تعالى، ومَنهاةٌ عن الإثمِ، وتَكفيرٌ للسِّيِّئاتِ، ومَطردةٌ للدَّاءِ عن الجسَدِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [أتاني جبريلٌ، فقال: يا محمدٌ! عِشْ ما شئتَ فإنكَ ميتٌ، وأحببْ منْ شئتَ فإنكَ مفارقُهُ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ، واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ]. وفي هذه الأحاديثِ الترغيبُ والحثُّ على (قيام الليل) وبيان ما فيه مِن فضلٍ وأجرٍ عظيمِ.

 

يقول العلماء إن صلاة (قيام اللّيل) عبادةٌ عظيمةٌ تجتمعُ فيها أربعُ عباداتٍ: صلاةٌ وذكرٌ ودعاءٌ وقرآن. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يُحافظ عليها ولا يتركها في حضرٍ ولا في سفرٍ. تُصلَّى ركعتين ركعتين، ويكون الوِتر بركعةٍ في آخرها. تُصلَّى في أيّة ليلةٍ خلال العام، وليس لها عدد ركعاتٍ مُعيّنٌ. ويُطلَق على (قيام الليل) التهجّد إذا كان أداء الصلاة بعد النوم وقبل الفجر. ويجوز التنويع في العبادة فيها بين صلاةٍ وذِكرٍ وسجودٍ. ويُندَب أن تكون جهريةً، ويجوز أن تكون سِرية. ومما يُعين على (قيام الليل): الابتعاد عن المعاصي، والتقليل من أكل الطعام، وعدم ترك القيلولة لأنها تساعد على القيام بالليل، وعدم السهر بعد صلاة العشاء، وذِكر الله كثيراً، والإكثار من ذِكر الآخرة، وتلاوة القُرآن، والدعاء والتضرُّع لله تعالى بالتوفيق لقيام الليل، والاستعانة بِما يُعين على الاستيقاظ.

 

قال الشاعر:

قُم اللَيْلَ يا هذا لَعَلّكَ تَرْشُدُ

إلَى كَمْ تنامُ اللَيْلَ والعُمْرُ يَنْفَدُ

أراكَ بِطولِ اللَيْلِ وَيْحَكَ نائماً

وَغَيْرُكَ في مِحْرابِهِ يَتَهَجَدُ

وَلَوْ عَلِمَ البَطّالُ ما نالَ زاهِدٌ

مِنَ الأجْرِ والإحْسانِ ما كانَ يَرْقُدُ

 

وقال آخر:

أيها الراقدُ ذا الَليلِ التَمامِ

قُم بِجِدٍ فَاللَيالي في انْصِرامِ

وَتَقَرّبْ بِصَلاةٍ وَصيامٍ

وَابْتَهِل لله في جُنحِ الظَلامِ

فَعَسَى تَلْحَقْ بِالْقَوْمِ الكِرامِ

 

وقالوا عن (قيام الليل):

"هي تجارةٌ رَبِحَ فيها من ناجى مولاه بأُنسه له"، "فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين"، "الليل مرتعٌ للساجدين، وروضٌ للصالحين، ونزهةٌ لعُشاق الجَنة، وبستانٌ للمُسبّحين"، "إذا أردتَ أن تلحق بركب السادة، فعليك بترك الوِسادة، لتحظى بالحُسنى وزيادة".

 

أحبتي.. صَلاةُ القيامِ في اللَّيلِ شَرفُ المؤمنِ، كما أخبرنا رسولنا الكريم؛ فمن منا يقبل بأن يُضيِّع شرفه بنفسه؟! وهل فينا مَن يترك فرصةً لا تُعوَض حينما يعلم أنه: [يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟]. ثم إنّ من أعظم ثمرات المُحافظة على (قيام الليل) تيسير صلاة الفجر والتي هي خيرٌ من النوم، جماعةً بالمسجد؛ لقُرب الوقت ما بين القيام في الثُلُث الأخير من الليل وبين توقيت صلاة الفجر.

الأمر كله يتوقف على صدق النية ثم عقد العزيمة ثم مجاهدة النفس، يأتي بعدها التوفيق والإعانة من الله سُبحانه وتعالى. قد يكون الأمر صعباً في البداية، لكن مع التصميم والإرادة والتغلب على الهوى يقل الإحساس بالمشقة، ثم يصير الأمر سهلاً، ثم الوصول إلى مرحلة الاستمتاع بالقُرب من الله سبحانه وتعالى، والإحساس بلذةٍ لا تُضاهيها لذة. توكل على الله وابدأ من الليلة، متعك الله بحلاوة القيام.

اللهم اجعلنا من المُداومين على (قيام الليل)، واجعلنا اللهم ممن ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، وأعنَّا ربنا على القيام والتهجد، وحبّب إلينا ذلك وزيّنه في قلوبنا، ويَسِّره لنا، وتقبله منا، ولا تحرمنا لذة مناجاتك والأنس بمعيتك والقُرب منك.

 

https://bit.ly/3tXYpms