الجمعة، 16 يونيو 2017

الخليفة المفترَى عليه

الجمعة 16 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٨
(الخليفة المفترَى عليه)

وردت في كتب التاريخ مثل تاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير وتاريخ الخلفاء للسيوطي القصة التالية:
دخل ابن السماك على الرشيد يوماً فبينما هو عنده إذ استسقى ماءً، فقال لابن السماك عظني، فلما أهوى بالماء إلى فيه ليشربه قال له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مُنعت هذه الشربة فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب، هنأك الله. فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مُنعت خروجها من بدنك فبماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي، قال ابن السماك: إن ملكاً قيمته شربة ماءٍ وبولة لجديرٌ ألا ينافس فيه! فبكى هارون الرشيد بكاءً شديداً.

أحبتي في الله .. أنقل لكم هذه القصة الآن في شهر رمضان المبارك لألفت النظر إلى مسلسلاتٍ تلفزيونيةٍ يتم صرف ملايين الجنيهات عليها، ثم يا ليتها تقدم للمشاهد شيئاً ينفعه، بل هي في غالب ظني جزءٌ من مخططٍ ممنهجٍ لتزييف تاريخ الإسلام والمسلمين.
بالله عليكم خليفة المؤمنين الذي يطلب موعظةً من رجل علمٍ، ثم يكون صادقاً مع نفسه ومع رجل العلم فيجيبه عن سؤاليه بأمانة، ثم هو في النهاية يبكي من الموعظة التي سمعها، هل مثل هذا الخليفة يمكن أن يكون كما تصوره لنا مسلسلات رمضان؟
تابعوا معي ماذا قال أهل العلم الثقاة المنصفين في هارون الرشيد (الخليفة المفترَى عليه)، قالوا: كان من عظماء أمتنا الذين طأطأ الروم رؤوسهم له، وأحنوا هاماتهم رهبةً منه، ذلكم هو الخليفة المجاهد هارون الرشيد، ذلك الرجل الذي حاول أعداء تاريخنا وأذنابهم أن يصوروه بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، العسوف الظلوم ، مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهاداً وغزواً واهتماماً بالعلم والعلماء، وبالرغم من هذا كله أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لا هَمَّ له سوى الجواري والخمر والسُكْر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية.
قال ابن خلكان عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حجٍ وجهادٍ وغزوٍ وشجاعةٍ ورأي".
ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: "وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعةٍ إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مئةً من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنةٍ ثلاثمئة رجلٍ بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة".
ونقل الغزالي عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال: "حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقفٌ حاسرٌ حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول: يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب، وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي".
قال الرشيد لشيبان عظني، قال: لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خيرٌ لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف، فقال الرشيد: فسر لي هذا، قال: من يقول لك أنت مسئولٌ عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيتٍ مغفورٍ لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم. فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله.
وقال الأصمعي: صنع الرشيد يوماً طعاماً كثيراً وزخرف مجلسه وأحضر الشاعر أبا العتاهية فقال له: صِف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال:
عش ما بدا لك سالماً
في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهيت
لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقعقعت
في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً
ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد، وقال الفضل بن يحي: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال هارون الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمىً فكره أن يزيدنا.
وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله: ما أعلم أن لملكٍ رحلةً قط في طلب العلم إلا للرشيد، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله.
وعن أبي معاوية الضرير قال صَبَ على يدي بعد الأكل شخصٌ لا أعرفه، فقال الرشيد: "تدري من يصب عليك؟"، قلت: "لا"، قال: "أنا، إجلالاً للعلم".
خرج الرشيد في السنة التي وُلِّيَ الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالاً كثيراً، وكان رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغزُ وحِج ووسع على أهل الحرمين، ففعل هذا كله.
وفي سنة سبعٍ وثمانين ومائة جاء للرشيد كتابٌ من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها، وذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حُصِّل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك"، فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضباً ودعا بدواة وكتب على ظهر كتابه "بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسلام"، ثم سار ليومه فقاد جيشاً ضخماً عدته 135 ألف جندي نزل بهم بمدينة هرقل وكانت غزوةً مشهورةً وفتحاً مبيناً فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة ثلاثمائة ألف دينار.
مات الرشـيد أثناء غـزوه الروم، قال السـيوطي في تاريـخ الخلفاء: مات الرشـيد في الغـزو بطوس من خراسان، ودُفن بها في الثالث من جمادى الآخرة سنة ثلاثٍ وتسعين ومائة هجرية، وله خمسٌ وأربعون سنة.
هذا هو هارون الرشيد (الخليفة المفترَى عليه)، كُتب التاريخ مليئةٌ بمواقفَ رائعةٍ له في نُصرة الحق وحب النصيحة وتقريب العلماء لا ينكرها إلا جاحدٌ أو مزور، ويكفيه أنه عُرف بالخليفة الذي يحج عاماً ويغزو عاماً.

أحبتي .. ما عرضته عن الخليفة هارون الرشيد مجرد مثالٍ واحد فقط لما أزعم أنه حملةٌ ممنهجةٌ ومخططٌ لها لتشويه التاريخ الإسلامي والإساءة لكل ما يمكن أن يكون مثالاً يُحتذى به.
انتبهوا أحبتي جيداً لما يُعرض في القنوات الفضائية من مسلسلات، للإنصاف قد يكون بعضها جيداً، لكن من باب الحرص أناشد كل ولي أمر وأقول له إذا أحسست أنك غير مطمئنٍ لما تشاهد فهذا دليلٌ على أن فطرتك سليمة فاحمد الله ثم ابحث بنفسك في الإنترنت عن مدى صحة ما يُعرض عليك أو اسأل أهل العلم، فإذا ثبت لك وجود إساءة أو تشويه لشخصية إسلامية أو موقف في التاريخ الإسلامي توقف فوراً عن المشاهدة، وامنع أهلك عنها، وأخبر أصدقائك بما توصلت إليه ثم لا تشاهد أبداً إلا ما يطمئن إليه قلبك .. وانتبه إلى أن الأطفال والشباب أكثر تأثراً من الكبار بما يشاهدونه من تلك المسلسلات، ليس فقط في مجال تزييف الدين وتشويه الحقائق وإنما في أمورٍ أخرى كثيرةٍ تطال جميع مجالات الحياة دون استثناء، حتى أن بعضها يُعَلِم الشباب وبالتفصيل كيف يدمن أو كيف يكون بلطجياً أو كيف يرتشي، ووصل الأمر للإخلال المتعمد للقيم الخاصة بالفضيلة وكيف أن من يلتزم بأداء الصلاة في المسجد "متشدد"، وأن من يلتزم بالزي الذي يوافق شريعة الإسلام "إرهابي"!
لا تترك لأبنائك الصغار الحرية المطلقة لمشاهدة ما يودون مشاهدته، لا تتنصل من مسئوليتك، أنت ولي أمرهم، تذكر أنهم أمانةٌ في رقبتك ستحاسَب عليهم؛ فكلنا راعٍ وكل راعٍ مسئولٌ عن رعيته.
عن نفسي أنا وأسرتي، ومنذ سنوات، لا نشاهد مسلسلات رمضان حيث تشغلنا عما هو أهم كتلاوة القرآن في شهر القرآن والذكر والدعاء والصلاة وسننها ونوافلها وإطعام الطعام والتصدق على الفقراء والمساكين وغير ذلك من أعمال الخير، يمكن مشاهدة الجيد من تلك المسلسلات بعد انتهاء رمضان، فدائماً ما يتم إعادة عرضها، أما أيام رمضان فما يمر منها لا يعود أبداً ولا يُعوض، والأجر فيها مضاعف، والثواب كبير، ولا ندري هل مكتوبٌ لنا أن نشهد رمضاناً آخر أم لا؟

أحبتي .. كلما سمعت وقرأت عن الهمة والنشاط التي يستعد بها منتجو هذه المسلسلات، التي تُعد للعرض خصيصاً في شهر رمضان من كل عام، ويرصدون لها مبالغ خيالية، ويتعمدون أن تتضمن لقطات مثيرة وغير لائقة، كلما تذكرت قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ونحن نرى بأم أعيننا عذاب بعضهم وبعضهن الأليم في الدنيا، ولي هنا دعوةٌ لأصحاب القنوات الفضائية ومنتجي وممثلي المسلسلات الهابطة التي يسمونها زوراً "رمضانية" أن يعودوا إلى رشدهم وإلى ربِّهم ويؤوبوا إلى بارئهم قبل أن يأتيهم الموت بغتةً فيحملوا ﴿أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾، ثم تراهم يقول يوم القيامة: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ فلا يستجاب لهم يومها ويكون لهم العذاب الأليم في الآخرة كما وعد الله سبحانه وتعالى. وعندما أقرأ قول المولى عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾، فلا أملك سوى أن أسأل نفسي، وأوجه السؤال لكل أخٍ مسلمٍ وأختٍ ومسلمة: هل نتوب في رمضان كما يريد لنا الله سبحانه وتعالى؟ أم نميل ميلاً عظيماً كما يريد الذين يتبعون الشهوات؟ الخيار لكل فردٍ منا، وعليه يكون الحساب بين يدي المولى عز وجل. تذكروا أحبتي أن اختيار سبيل الإيمان والتقوى والخوف من الله وعدم مبارزته بالمعاصي بالإصرار عليها هو بلا شك اختيار الأذكياء.

اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.