الجمعة، 3 مايو 2024

قسوة القلب

 خاطرة الجمعة /445

الجمعة 3 مايو 2024م

(قسوة القلب)

 

كان شاباً طموحاً، يحمل في قلبه أحلاماً كبيرةً وطموحاتٍ لا حدود لها. كان يعمل بجدٍ واجتهادٍ، يسعى لتحقيق أهدافه وتوفير حياةٍ كريمةٍ لعائلته الصغيرة. لكن القدر كان له رأيٌ آخر؛ إذ بدأت مُعاناته عندما تعرض لحادثٍ مُروعٍ أفقده قدرته على العمل. تحولت حياته من سعادةٍ ونجاحٍ إلى ألمٍ ومُعاناة. فقد وظيفته، وتراكمت عليه الديون، وأصبح عاجزاً عن تلبية احتياجات أسرته. في تلك اللحظات العصيبة، كان يتوقع أن يجد الدعم والمُساندة من أقرب الناس إليه، من أصدقائه وأقاربه، ولكن خاب ظنه؛ تحولت القلوب التي كانت بالأمس مليئةً بالحُب والوِد إلى قلوبٍ قاسيةٍ لا ترى سوى مصلحتها الشخصية. تنصل الجميع من مسؤوليته تجاه هذا الشاب؛ فصار وحيداً في مواجهة قسوة الحياة. حتى زوجته، التي أقسمت على الوقوف بجانبه في السرّاء والضرّاء، لم تتحمل ضغوط الحياة وتخلت عنه؛ تركته وحيداً مع طفليه الصغيرين، يواجهون مصيراً مجهولاً.

لم يستسلم الشاب لليأس؛ فقرر أن يبحث عن الأمل في مكانٍ آخر، حمل أطفاله الصغار، وخرج يطرق أبواب الجمعيات الخيرية، يطلب المُساعدة والعون، لكنه قوبل بالرفض في كل مكان. كانت القلوب التي يلتقي بها قاسيةً كالحجر، لا تعرف الرحمة ولا الشفقة. كانوا ينظرون إليه نظرة ازدراءٍ، ويُغلقون الأبواب في وجهه دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء الاستماع إلى قصته. بات هو وأطفاله في الشوارع، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. كانوا يعانون من الجوع والبرد والخوف، ولم يجدوا من يمد لهم يد العون. ومع مرور الأيام، بدأ الأمل ينطفئ في قلبه؛ كان يشعر بأنه وحيدٌ في هذا العالم، وأن لا أحد يهتم لأمره أو لأمر أطفاله. في أحد الأيام، وأثناء تجواله في الشوارع، التقى بامرأةٍ عجوز، كانت تجلس على الرصيف تبيع المناديل الورقية، رأته وهو يحمل أطفاله الصغار، وشعرت بحالته البائسة، اقتربت منه، وسألته عن قصته، استمعت إليه بإنصاتٍ، وشعرت بتعاطفٍ كبيرٍ معه؛ فقد كانت هي الأخرى قد ذاقت مرارة الحياة وقسوتها. عرضت عليه أن يبيت هو وأطفاله في غرفتها الصغيرة، وشاركتهم ما تملك من طعامٍ قليل. كانت تلك المرأة العجوز، بمثابة بصيص نورٍ في ظلام اليأس الذي كان يُحيط به. كانت تمتلك قلباً رحيماً، على عكس القلوب القاسية التي قابلها في رحلته.

تعلم الشاب من تلك المرأة العجوز دروساً قيمةً في الإنسانية والتضحية. أدرك أن القلوب الرحيمة ما زالت موجودةً، وأن الأمل لا يزال مُمكناً.

وبمُساعدة المرأة العجوز، تمكن الشاب من الوقوف على قدميه من جديدٍ؛ فبدأ يبحث عن عملٍ، ونجح في الحصول على وظيفةٍ مُتواضعةٍ، لكنه لم ينسَ أبداً فضل تلك المرأة عليه؛ فظلّ يزورها ويُقدم لها المساعدة حتى آخر أيامها.

 

أحبتي في الله.. يقول العُلماء إنّ من أعظم العقوبات التي يُبتلى بها العبد (قسوة القلب)؛ فهي تعني ذهاب اللين والرحمة والخُشوع من القلب، والخُلو من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، فإن قاسي القلب لا ينتفع بموعظةٍ، ولا يقبل نصيحةً، ولا يُميز بين الحق والباطل. وصاحب القلب القاسي أبعد ما يكون من الله تعالى، وعن دينه وشرعه وتعاليمه.

وقد ذمّ الله سُبحانه وتعالى (قسوة القلب)، وأخبر أنها مانعٌ عن قبول الحق والعمل به، وأخبرنا أن هذا الداء العُضال ظهر في الأمم السابقة كاليهود وغيرهم؛ فيقول تعالى مخاطباً إياهم وموبخاً: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾. ويقول تعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وتوعَّد الله عزَّ وجلَّ أصحاب القلوب القاسية بالعذاب الأليم، وبيَّن أنّ (قسوة القلب) سببٌ للضلال وانغلاق القلب، فلا يخشع ولا يعي ولا يفهم؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾. وخاطب سُبحانه وتعالى المؤمنين بقوله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ وفي هذا نهيٌ للمؤمنين عن أن يتشبهوا بأهل الكتاب الذين لمّا طال بهم الزمان قست قلوبهم وملوا الطاعة، فتغيروا وتغيرت أحوالهم، ففسقوا وضلوا. فإذا كان الله قد حذّر الصحابة -وهُم خير القرون وأهل قيام الليل وصيام النهار والجهاد في سبيل الله، والوحي ينزل عليهم ليلاً ونهاراً- فكيف بنا نحن في هذا الزمن الذي تعلَّق فيه الكثير منا بالدُنيا وانتشرت الفتن، وأصبح الواحد منا يعيش غُربة الدِين؟!

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعْمَالِكُمْ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ]. قال شُرّاح الأحاديث: إن القلب إذا صلح استقام حال العبد، وصحّت عبادته، وأثمرت له الرحمة والإحسان إلى الخَلق، وصار يعيش فى سعادةٍ وفرحةٍ تغمره لا تُقدر بثمنٍ، وذاق طعم الأُنس بالله ومحبته، ولذة مناجاته، مما يصرفه عن النظر إلى بهجة الدنيا وزُخرفها والاغترار بها، والركون إليها، وهذه حالةٌ عظيمةٌ يعجز الكلام عن وصفها، ويتفاوت الخَلق في مراتبها، وكلما كان العبد أتقى لله، كان أكثر سعادةً. وإذا قسى القلب وأظلم، فسد حال العبد، وخلت عبادته من الخُشوع، وغلب عليه البُخل والكِبر وسوء الظن، وصار بعيداً عن الله، وأحسّ بالضيق والشدّة والضنك، وافتقرت نفسه ولو ملك الدُنيا بأسرها، وحُرم لذة العبادة ومناجاة الله، وصار عبداً للدُنيا، مفتوناً بها!

 

قال العارفون: "ما ضُرِب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من (قسوة القلب) والبُعد عن الله"، و"إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة"، و"ما جفّت الدّموع إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذّنوب"، و"مِن علامات (قسوة القلب) عدم الاشتياق إلى القرآن"، و"(قسوة القلب) تأتي من حُبّ الدّنيا"، و"لا يوجد سببٌ يُجفّف القلب ويُقسّيه مثل الغفلة عن ذِكر الله"، و"ما غضب الله على قومٍ إلا نزع الرحمة من قلوبهم".

 

قال الشاعر:

إذا قسا القلبُ لم تنفعهُ موعظةٌ

كالأرضِ إن سَبِخَت لم ينفَعِ المَطرُ

 

إن (قسوة القلب) قد تكون مع الله عزَّ وجلَّ؛ بالإعراض عن دينه، أو عدم الالتزام بما يأمر به وينهى عنه، أو عدم الإخلاص في العبادة أو الخشوع فيها. كما قد تكون مع خَلْق الله؛ بسوء معاملتهم، والتكبر والتعالي عليهم، والفظاظة معهم، وعدم الحرص على مشاعرهم، وغير ذلك من وجوه غلاظة القلب.

 

أحبتي.. لنتعاهد أن نبتعد عن (قسوة القلب) فنُحسن عبادتنا الله؛ نُخلص له أعمالنا، ونزيد في إيماننا، ونُضاعف من أعمال الخير، ونحرص على خشوعنا، ونُكثر من النوافل التي تُجبر تقصيرنا في أداء فروضنا.. ثم إن علينا أن نحذر من أن يكون منا مَن هو فظٌ في معاملاته مع الناس، غليظ القلب معهم، قاسٍ عليهم، بل على كلٍ منا أن يحرص على مشاعر غيره؛ فيكون رحيماً بهم، ليناً معهم؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾؛ فننعم جميعاً برضا الله سُبحانه وتعالى، ونظفر بسعادة الدارين: الدُنيا والآخرة.

اللهم اجعلنا ممن استجابوا لأوامرك، واتبعوا سُنة نبيك، واكتبنا اللهم من الفائزين المُفلحين.

 

https://bit.ly/3QtoQs1