الجمعة، 8 ديسمبر 2023

عُلُوّ الهِمة

 

خاطرة الجمعة /424

الجمعة 8 ديسمبر 2023م

(عُلُوّ الهِمة)

 

يحكي أحد الأطباء عن زميلٍ له فيقول: كان زميلاً لي في الكلية العسكرية، كان الأول على زملائه في كل شيءٍ؛ في طاعته لله، في حسن خلقه، في دراسته، في تعامله، كان صاحب قيام ليلٍ، محافظاً على صلواته، مُحباً للخير. بعد أن تخّرج وفرح -كما يفرح الطلبة بالتخرج- إذا به يُصاب بما نسميه "الأنفلونزا" وتطور معه المرض حتى أصاب العمود الفقري فأصيب بشللٍ تامٍ ولم يعد يستطيع الحركة حتى أن طبيبه المعالج قال لي إنه -حسب مرئياته- فلا أمل له في الشفاء، وإن احتمال رجوعه لما كان عليه ونجاح العلاج معه لا تتجاوز العشرة في المائة؛ فقلتُ الحمد لله على كل حالٍ، وسألتُ الله له الشفاء وهو القادر على كل شيء. ثم زرته في المستشفى، وهو مقعدٌ يرقد على السرير الأبيض، لمواساته وتذكيره بالله والدعاء له، فإذا به هو الذي يذكّرني بالله، وهو الذي يواسيني! وجدته قد امتلأ وجهه نوراً، وأشرق بالإيمان، قال لي وهو يبتسم: "لعل الله علم مني تقصيري في حفظ القرآن فأقعدني لأتفرغ لحفظه، وهذه نعمة من نعم الله". تعجبتُ ودُهشتُ من موقفه وإيمانه وصبره وثباته رغم ما هو فيه من مرضٍ خطيرٍ وشللٍ تام، ورغم أنه لم يمضِ على تخرجه ستة أشهر ولم يفرح بالرتبة والراتب والعمل الجديد أياماً.

زرته بعد فترةٍ وعنده بعض أقاربه فسلمتُ عليه ودعوتُ له، قال له ابن عمه: "حاول تحريك رجلك، ارفعها للأعلى"، فقال له: "إني لأستحي من الله أن استعجل الشفاء؛ فإن قدّر الله لي وكتب الشفاء فالحمد لله، وإن لم يكن مقدوراً لي فالحمد لله؛ فالله أعلم بما هو خيرٌ لي، فقد يكون في الشفاء ما لا تُحمد عقباه وقد أمشي بقدميّ هاتين إلى الحرام، ولكني أسأل الله أن يكتب لي الخير فهو العليم الحكيم".

سافرتُ لإكمال الدراسات العليا ثم عدتُ بعد ثلاثة أشهرٍ وكنتُ متوقعاً أنه في منزله على فراشه يُحمل من مكانٍ إلى آخر، سألتُ عنه الزملاء في المستشفى هل خرج؟! وكيف هي حالته؟! فقالوا: "هذا الرجل عجيبٌ جداً، لقد كانت عنده قوةٌ وعزيمةٌ وهمةٌ عاليةٌ مع ابتسامةٍ دائمةٍ ورضىً بما كُتب له، ولقد تحسنت حالته شيئاً ما فنُقل إلى التأهيل للعلاج الطبيعي.

ذهبتُ إلى مركز التأهيل فإذا به على كرسي المعاقين ففرحتُ به وقلتُ له: "الحمد لله على السلامة، أصبحتَ الآن تتحرك أحسن مما مضى"، فقاطعني قائلاً: "الحمد لله، أُبشرك أنني قد أتممتُ حفظ القرآن"، فدعوتُ له، وسألتُ له الله من فضله.

سافرت مرةً أخرى وغبتُ عنه أكثر من أربعة أشهرٍ، ولما عدتُ حصل ما لم يخطر ببالي؛ حيث كنتُ أصلي في مسجد المستشفى فإذا برجلٍ يناديني، إنه صاحبنا! نعم، إنه الزميل الحبيب الذي كان مشلولاً معاقاً تماماً يناديني وهو يمشي وبصحةٍ جيدةٍ وعافيةٍ، جاءني يمشي، وسلمتُ عليه وضممته إلى صدري وأنا أبكي فرحاً لما حصل له من شفاء!

ثم إن الله منّ عليه بأمور كثيرةٍ؛ منها موافقة المسئولين على بعثته بعثةً داخليةً ل«جامعة الملك سعود بالرياض» لإكمال دراسته العليا، وكان قد طلب ذلك منذ تخرجه من الكلية ولم يأته الرد، وبعد شفائه -ولله الحمد- جاءت الموافقة بعد أن كان قد نسي الطلب، قال لي: "إن ما حصل لي حجةٌ عليّ إن لم أقم بشكر النعمة".

ثم زارني بعد سبع سنواتٍ -في مراجعةٍ لجده المريض بالقلب- فماذا رأيت؟! رأيتُ شاباً وضيئاً، وقد رزقه الله الترقيات حتى وصل إلى رتبة رائد.

اللهم اجعله رائداً في الخير والنفع والصلاح.

 

أحبتي في الله.. إنها قصةٌ تجمع بين الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، والصبر على المكاره، وشُكر الله وحمده على كل حال، و(عُلُوّ الهِمة) التي جعلته في البداية من الأوائل والمتفوقين، ثم كانت سبباً في حفظه للقرآن الكريم، كما بدت بشكلٍ واضحٍ في حصوله على بعثةٍ داخليةٍ للدراسات العليا نال بعدها ترقياتٍ مستحقةٍ في مجال عمله.

واسمحوا لي أن يكون تركيزي على (عُلُوّ الهِمة) إذ إنها من سمات المؤمنين الذين لديهم هدفٌ أساسيٌ في الحياة؛ هو فعل كل ما يوصل إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ.

 

يقول تعالى مُخاطباً سيدنا موسى عليه السلام، حاثاً على العمل بجديةٍ وهِمةٍ عاليةٍ: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾. ويقول تعالى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ أمرٌ إلهيٌ بالعمل بقوةٍ وهِمة؛ لتأتي بعد ذلك إعانة الله وهدايته، نعمةً لمن يُحسن العمل ويُخلص فيه، ويسعى بهِمةٍ واجتهادٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، والسعي بهِمةٍ هو مجال التنافس بين المسلمين؛ يقول تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

 

ويُعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لكلٍ منا هدفٌ عظيمٌ يسعى نحو تحقيقه بهمةٍ عاليةٍ؛ فيقول: [إِذَا سَألْتُم الله فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُوِر وَأَشرَافَهَا، وَيَكَرهُ سَفْسَافَهَا]، وفيه دليلٌ على طلب المعالي والتباعد عن السفساف والمحقرات. وقال صلى الله عليه وسلم: [الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ]. يقول شُرّاح الحديث: المراد بالقوة هنا عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمةً في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق، وأكثر رغبةً في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظةً عليها. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ] وفيه استحباب الاستعاذة من العجز والكسل ففيهما قيودٌ حائلةٌ دون الهِمة والجِد والانطلاق والمثابرة.

 

يقول أهل العلم: إن (عُلُوّ الهِمة) خلقٌ رفيعٌ وغايةٌ نبيلةٌ، تعشقه النفوس الكريمة، وتهفو إليه الفِطَر القويمة، و(عُلُوّ الهِمة) من الأُسس الأخلاقية الفاضلة؛ ففيه الجِد في الأمور، والترفع عن الصغائر والدنايا، والطموح إلى المعالي. ويرون أن المقصودُ مِنْ (عُلُوّ الهِمة)، استصغارُ ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلبُ المراتب السامية؛ فصاحب الهِمة، الذي يحمل مشروعاً ينفع به نفسه والأمة، لا يقف أمام الأبواب المغلقة، بل يبحث عن الفرص هنا وهناك، يسلك كل سبيلٍ مشروعٍ لتحقيق هدفه النبيل. إنَّ عاليَ الهِمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتِه النبيلة، وتحقيقِ بغيته الشريفة؛ لأنه يعلم أنَّ المكارم منوطةٌ بالمكاره، وأنّ المصالحَ والخيراتِ واللذاتِ والكمالاتِ كلَّها، لا تُنَالُ إلا بشيءٍ من المشقة، ولا يُعْبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التعب. عالي الهِمة له نظامٌ يسير عليه، وهدفٌ يصبوا إليه، ومنهجٌ لا يحيد عنه، ووقتٌ لا يَبْخَلُ به، ونفسٌ لا ترضى إلا بتحقيق ما يرغب فيه. عالي الهِمة تتقطّع نفسُه حسراتٍ على دقائق لم ينتفع بها، يرى أنّ وقتَه أغلى من إهدارِه بملاذّ الدنيا ومُتَعِها، ونفسَه أشرف من أن تقنع بما دون الكمال. عالي الهِمة عالي العَزْم؛ فهو يجعل نُصب عينيه قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.

ومن علامات عالي الهِمة: الزهد في الدنيا، المسارعة في الخيرات والتنافس في الصالحات، التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص، الترفع عن مُحقّرات الأمور وصغائرها ونشدان معالي الأمور وكمالاتها، الأخذ بالعزائم.

 

يقول العارفون إن صلاح الأمة في (عُلُوّ الهِمة)، وصاحب الهِمة يسبق الأمة إلى القمة؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾، مُقربون لأنهم على الصالحات يواظبون، وعلى الأذى صابرون. إن العمر الحقيقي للإنسان ليس هو في السنين التي يعيشها، إن العمر الحقيقي هو في تلك الأيام التي يعيش فيها بهِمةٍ عاليةٍ وطموحٍ كبيرٍ، ويعمل على تحقيق أنبل الغايات وأعظم الأهداف.

 

قال بعضُ السلف: "من عرف ما يَطلُب، هان عليه ما يَبذل". و"من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر". و"عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ معالي الأمور، ويكره سفسافها". و"من علامة كمال العقل (عُلُوّ الهمة)، والراضي بالدون دَنيٌ". و"فمن علت هِمته، وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ خلقٍ جميلٍ، ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خُلقٍُ رذيل".

وقال شاعرٌ:

فإذا كانَت النُفوسُ كِباراً

تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

وقال آخر:

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ

فَلا تَقنَعْ بِما دُونَ النُجومِ

وقال ثالثٌ:

وَمَا المِرْءُ إِلا حَيْثُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ

فَفي صَالحِ الأعْمَالِ نَفْسَكَ فَاجْعَلِ

وقال غيرهم:

ومَنْ يَتَهَيّبْ صُعودَ الجِبالِ

يَعِشْ أبَدَ الدَهْرِ بَيْنَ الحُفَر

 

أحبتي.. لابد أن نُعيد النظر في برنامج حياتنا اليومي، وأن نُخصص جُزءاً منه لخدمة ديننا؛ فالتغيير لابد وأن يبدأ من داخلنا نحن؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾؛ فنُفوسنا تحتاج إلى مجاهدةٍ ومحاسبةٍ لترويضها على السعي نحو معالي الأمور، والبُعد عن سفاسفها مما نُهدر فيه أوقاتنا وهو لا يُفيد.

علينا أن نتذكر دائماً أن هدفنا هو الفردوس الأعلى من الجنة، وأن الحياة مزرعةٌ للآخرة، وأن الوقت هو رأس مالنا؛ فلنستفد من أوقاتنا، ونُكثف أعمالنا، ونُضاعف جهودنا، ونبذل قُصارى ما نستطيع بإخلاصٍ وهمةٍ عاليةٍ، وننطلق نحو المعالي والقِمم، لا نُبالي بالقاعدين والمُحبطين والمثبطين؛ فالعمرُ قصير، وعمل الخير بإذن الله سهلٌ ويسير، والجنة في انتظار من لا تفتر هممهم عن عمل الصالحات وفعل الخيرات؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]. نسأل الله تعالى أنْ يُعيننا على العمل لنكون من أصحاب الفردوس الأعلى من الجنة، ويرزقنا (عُلُوّ الهِمة)، وأنْ يجعلها في سبيل مرضاتِه، إنه ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

https://bit.ly/47OBqsv