الجمعة، 25 مارس 2022

عقوق الأبناء

 

خاطرة الجمعة /336


الجمعة 25 مارس 2022م

(عقوق الأبناء)

 

رسالةٌ مؤثرةٌ من أمٍ لابنها العاق:

يا بُني.. هذه رسالةٌ مكلومةٌ من أمك المسكينة، كتبتُها على استحياءٍ. بعد ترددٍ وطول انتظارٍ أمسكتُ بالقلم مراتٍ فحجزته الدمعة، وأوقفتُ الدمعة مراتٍ فجرى أنين القلب.

يا بُني.. بعد هذا العمر الطويل أراك رجلاً سوياً مكتمل العقل ومتزن العاطفة، من حقي عليك أن تقرأ هذه الرسالة، وإن شئتَ بعد فمزقها كما مزقتَ أطراف قلبي من قبل.

يا بُني.. منذ خمسةٍ وعشرين عاماً كان يوماً مشرقاً في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أنني حاملٌ، والأمهات يا بني يعرفن معنى هذه الكلمة جيداً؛ فهي مزيجٌ من الفرح والسرور وبداية معاناةٍ مع التغيرات النفسية والجسمية. وبعد هذه البشرى حملتُك تسعة أشهرٍ في بطني، فَرِحَةً جذلاً، أقوم بصعوبةٍ وأنام بصعوبةٍ وآكل بصعوبةٍ وأتنفس بصعوبةٍ، ولكن كل ذلك لم ينقص محبتي لك وفرحي بك، بل نمتْ محبتك مع الأيام، وترعرع الشوق إليك. حملتُك يا بُني وهناً على وهنٍ وألماً على ألمٍ، أفرح بحركتك وأُسَر بزيادة وزنك وهي حِملٌ عليّ ثقيل، إنها معاناةٌ طويلةٌ أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفنٌ ونالني من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه القلم ولا يتحدث عنه اللسان، ورأيتُ بأم عينيّ الموت مراتٍ عدةٍ حتى خرجتَ أنت إلى الدنيا فامتزجتْ دموع صراخك بدموع فرحي وأزالت كل آلامي وجراحي.

يا بُني.. مرت سنواتٌ من عمرك وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلتُ حجري لك فراشاً، وصدري لك غذاءً، سهرتُ ليلي لتنام وتعبتُ نهاري لتسعد، أمنيتي كل يومٍ أن أرى ابتسامتك، وسروري في كل لحظةٍ أن تطلب مني شيئاً أصنعه لك؛ فتلك هي مُنتهى سعادتي.

ومرت الليالي والأيام وأنا على تلك الحال، خادمةً لم تُقصّر، مُرضعةً لم تتوقف، وعاملةً لم تفتر، حتى اشتد عودك واستقام شبابك وبدت عليك معالم الرجولة، فإذا بي أجري يميناً وشِمالاً لأبحث لك عن المرأة التي طلبتَ، وأتى موعد زفافك فتقطّع قلبي وجرتْ مدامعي، فرْحةً بحياتك الجديدة، وحُزناً على فراقك، ومرت الساعات ثقيلةً فإذا بك لستَ ابني الذي أعرفه، لقد أنكرتني وتناسيتَ حقي. تمر الأيام لا أراك ولا أسمع صوتك، وتجاهلتَ من قامت بك خير قيام.

يا بُني.. لا أطلب إلا القليل؛ اجعلني في منزلة أبعد أصدقائك عنك وأقلهم حظوةً لديك، اجعلني يا بُني إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق.

يا بُني.. احدودب ظهري وارتعشت أطرافي وأنهكتني الأمراض وزارتني الأسقام، لا أقوم إلا بصعوبةٍ، ولا أجلس إلا بمشقةٍ، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك.

لو أكرمك شخصٌ يوماً لأثنيتَ على حُسن صنيعه وجميل إحسانه، وأمك أحسنتْ إليك إحساناً لا تراه، ومعروفاً لا تُجازيه، لقد خدمتْك وقامت بأمرك سنواتٍ وسنواتٍ، فأين الجزاء والوفاء؟ ألهذا الحد بلغتْ بك القسوة وأخذتك الأيام.

يا بُني.. كلما علمتُ أنك سعيدٌ في حياتك زاد فرحي وسروري، ولكني أتعجب وأنت صنيع يدي، أي ذنبٍ جنيتُه حتى أصبحتُ عدواً لك لا تطيق رؤيتي وتتثاقل زيارتي؟ هل أخطأتُ يوماً في معاملتك أو قصّرتُ لحظةً في خدمتك؟ اجعلني من سائر خدمك الذين تُعطيهم أجورهم، وامنحني جزءاً من رحمتك، ومُنَّ عليّ ببعض أجري، وأحسِن؛ فإن الله يحب المحسنين.

يا بُني.. أتمنى رؤيتك، لا أريد سوى ذلك، دعني أرى عبوس وجهك وتقاطيع غضبك.

يا بُني.. تفطّر قلبي وسالت مدامعي وأنت حيٌ تُرزق، ولا يزال الناس يتحدثون عن حُسن خلقك وجُودك وكرمك.

يا بُني.. أما آن لقلبك أن يرّق لامرأةٍ ضعيفةٍ أضناها الشوق وألجمها الحزن، جعلتَ الكمد شعارها والغم دثارها، وأجريتَ لها دمعاً وأحزنت قلباً وقطعت رحماً.

لن أرفع الشكوى ولن أبث الحزن؛ لأنها إن ارتفعت فوق الغمام واعتلت إلى باب السماء، أصابك شؤم العقوق ونزلت بك العقوبة وحلت بدارك المصيبة، لا لن أفعل. لا تزال يا بُني فلذة كبدي وريحانة حياتي وبهجة دنياي.

أفق يا بُني.. بدأ الشيب يعلو مفرقك، وتمر سنواتٌ ثم تصبح أباً شيخاً، والجزاء من جنس العمل. وستكتب رسائل لابنك بالدموع مثل ما كتبتُها إليك، وعند الله تجتمع الخصوم.

يا بُني.. اتقِ الله في أمك، كفكف دمعها وواسي حزنها، وإن شئتَ بعد ذلك فمزق رسالتها، واعلم أن من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها.

التوقيع

أمك

 

أحبتي في الله.. أعلم أن هناك من الأبناء من يعقون أمهاتهم، لكن لم أكن أتصور مدى الحزن الذي تشعر به الأمهات نتيجة (عقوق الأبناء) إلى أن اطلعتُ على هذه الرسالة التي تفيض حُزناً وألماً لعقوق ابنٍ لأمه، ورغم كل ما عانته فإن أمومتها أبت عليها أن تشكو ابنها لرب العباد حتى لا تحل به عقوبة عقوق الوالدين، ويا لها من عقوبةٍ لو كان العاقون يعلمون.

 

وعن (عقوق الأبناء) يروي أحد الكُتاب قصةً واقعيةً لابنٍ عاقٍ قاسي القلب، كان لا يهتم بوالدته الكبيرة في السن بعد أن تُوفي والده، وكان يؤذيها بأسوأ الكلمات الجارحة، وكانت هذه الكلمات كالطعنات في قلب والدته.. تطوّرت إساءته من كلماتٍ إلى طردٍ من المنزل.. ليس لها مأوىً ولا ملجأٌ يحميها من برودة الطقس أثناء الشتاء، ولا مظلةٌ تمنع أشعة شمس الصيف عنها.. كانت منكسرةً فعلاً، بكت كثيراً.. طلبتْ منه ألا يطردها؛ فاستقبل طلبها ولكن بطريقةٍ بشعةٍ وقاسيةٍ؛ فقد صنع قفصاً من الخشب، وجلب والدته ليريها ماذا فعل من إنجاز! فسألته: "هل ستشتري حيوانًا؟"، أتاها بردٍ صادمٍ؛ فقال: "لا! لن أشتري حيواناً، صنعتُ هذا القفص لكِ لكي تعيشين فيه؛ فليس لكِ مكانٌ داخل المنزل!". تقطعت أحشاء قلب الأم لما يحصل لها، وقضت الليل مع دموعها الحارقة. بعد مرور ليلتين من هذا الحدث المؤلم، وفي يومٍ كان المطر يهطل بقوةٍ وكأنه دموع الأم.. جلس الابن على المائدة بروحٍ باردةٍ.. فسمع طفله الصغير يناديه ليريه ماذا رسم بتلك الألوان الخشبية وقال: "هذا أنا يا أبي إذا كبرت"، ورسم بجانب المنزل الذي على تلك اللوحة قفصاً، سأله والده: "وما حاجتك إلى القفص يا بُني؟"، فأجاب الطفل: "إنها غرفتك عندما تكبر يا أبي؛ سوف أصنع لك قفصاً مثلما صنعته لجدتي".. هاجت مشاعر الأب وهُرع مُسرعاً لوالدته ليصلح ما كسره، لكن الوقت كان قد فات؛ إذ وجد والدته ملقيةً في زاوية القفص وروحها قد فاضت إلى بارئها.

 

يقول تعالى في وصف من لهم اللعنة ولهم سوء الدار: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾، ويقول في وصف الفاسقين: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾. أما أولو الألباب الذين جعل لهم جنات عدنٍ فيصفهم سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾. يقولون المفسرون إن معنى ﴿مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ هو كل ما أمر الله بوصله وفعله وعلى رأس ذلك صلة الأرحام والأقارب، وهل من رحمٍ أو صلة قُربى أولى من الوالدين؟!

 

يقول أهل العلم إن الشرع الحنيف حثّ على برّ الوالدين ورغّب فيه، وحرّم (عقوق الأبناء) لهما وعدّه من كبائر الذنوب، وجاءت النصوص الشرعيّة من القرآن الكريم والسُنّة الشريفة حاثّةً على البرّ ومحذّرةً من العقوق في حقّ الوالدين في مواطن كثيرةٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا﴾، فكيف بالتكبّر، والحرمان، والاعتداء، والإهانة، والهجران. ويُعد عقوق الوالدين ثاني أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى؛ حيث قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- للصحابة ذات يومٍ: [ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكبائرِ؟] (ثلاثًا)، قالوا: بلَى يا رسولَ اللهِ، قال: [الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدين]، وجلَس وكان متكئاً، فقال: [ألا وقولُ الزُّورِ]. وقال -عليه الصلاة والسلام-: [لا يدخلُ الجنَّةَ عاقٌّ، ولا منَّانٌ، ولا مُدمنُ خمرٍ، ولا مُكذِّبٌ بقدرٍ]. بالإضافة إلى أنّ العاق لوالديه يعتبر قاطعاً للرّحم، بل قاطعاً لأعظم رحمٍ أمره الله تعالى بوصلها؛ حيث قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: [إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ حتَّى إذا فرغَ من خلقِهِ قالتِ الرَّحِمُ: هذا مقامُ العائذِ بكَ منَ القطيعةِ، قالَ: نعَم، أما ترضِينَ أن أصلَ من وصلَكِ وأقطعَ من قطعَكِ، قالت: بلى يا ربِّ، قالَ: فهوَ لكِ]. وقال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: [إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ علَيْكُم عُقُوقَ الأُمَّهاتِ] ويدلّ هذا على أنّ (عقوق الأبناء) غالباً ما يكون في حقّ الأمّهات؛ لذلك كان البِرّ في حَقّهنّ أوجب. كما ورد عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: [ملعونٌ مَنْ سبَّ أباهُ، ملعونٌ مَنْ سَبَّ أُمَّهُ]. وحذر نبينا الكريم من عقوق الوالدين فقال: [اثنانِ يُعجِّلُهما اللهُ في الدنيا: البغيُ، وعقوقُ الوالدَينِ]. وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: [رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ]، قيلَ: مَنْ يا رَسولَ اللهِ؟، قالَ: [مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ]؛ فيجدر بمن عقّ والديه بأيّ شكلٍ من الأشكال، أن يُسارع إلى التّوبة إلى الله -عزّ وجلّ- بالإقلاع عن العقوق، والنّدم عليه، والعزم على عدم الرّجوع إليه، ثمّ إتباع ذلك بالأعمال الصالحة؛ لأنّ الأعمال الحسنة تُكفّر السيئات وتمحو الخطايا؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ﴾. وباب التوبة مفتوحٌ مهما اقترف الإنسان من ذنوب، بما فيها عقوق الوالدين.

ويظل على المسلم واجب البر والإحسان إلى الوالدَين حتى بعد وفاتهما؛ فعليه أن يُكثرَ من الدعاء لهما؛ وخير الدعاء: ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، ودعاء الأبناء ينفع المتوفى من الوالدين؛ قال صلّى الله عليه وسلّم: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]. وعلى الابن أن يحرص على أداء الأعمال الصالحة التي ينالان الثواب والأجر بها؛ كالصدقة، وأداء العمرة أو الحجّ عنهما، وأن يسعى إلى إكرام أصدقائهما.

 

أحبتي.. أمرنا الله سبحانه وتعالى ببِر الوالدين والإحسان إليهما، وأوصانا النبي -صلى الله عليه وسلم- بحُسن صحبتهما، والإحسان إليهما، وخصَّ الأم في ذلك؛ وهذا يعني أن من يتخلف عن البِر والإحسان لوالديه -ولأمه بالذات- يكون آثماً مُرتكباً لكبيرةٍ، فما بالنا بمن لا يكتفي بعدم بِرهما أو بقلة الإحسان إليهما، بل زيّن له الشيطان اختيار طريق عقوقهما؟! لا شك أنه يكون مستحقاً لسخط وغضب رب العالمين؛ فيخسر حتماً دنياه وآخرته.

أحبتي.. على كلٍ منا أن يُراجع نفسه ويُعيد النظر في علاقته بوالديه -وخاصةً أمه- ليتدارك أمره إن كان عاقاً، وليزيد من رضا الله عنه كلما زاد في بِره وإحسانه إن كان من الأبناء البررة المحسنين. واعلموا أن الحياة سلفٌ وديْن؛ ما تُقدمه اليوم من بِرٍ وإحسانٍ لوالديك سيعود إليك بِراً وإحساناً من أبنائك. ودعوني أختم بسؤال: متى آخر مرةٍ قبّلتَ فيها رأس أمك أو لثمتَ يديها حباً وعرفاناً؟

اللهم اجعلنا أبناء بررةً محسنين لوالدينا، ويسّر لنا الزيادة في بِرهما والإحسان لهما، أحياءً كانا أو أمواتاً.

https://bit.ly/3D9EEby