الجمعة، 24 نوفمبر 2023

احترام خصوصية الآخرين

 خاطرة الجمعة /422

الجمعة 24 نوفمبر 2023م

(احترام خصوصية الآخرين)

 

كتب يقول: كنتُ أعمل قبل سنواتٍ مسؤولاً عن مشروعٍ صغيرٍ يعمل معي فيه أربعة أشخاص. المدة الزمنية لتنفيذ المشروع كانت قصيرةً، والمتطلبات كثيرةٌ، وأثناء مرحلةٍ حرجةٍ في تنفيذ المشروع فاجأني أحد زملائي الأربعة بطلب إجازةٍ لمدة يومين دون سابق إنذارٍ ودون أن يُبدي الأسباب. المشكلة أن مَن طلب الإجازة زميلٌ كفءٌ نحتاج إلى خبراته المتميزة في كل لحظةٍ، خاصةً في هذه المرحلة الحرجة من العمل. سألته عن سبب الإجازة الطارئة، لا سيما أن الجهة التي نعمل لها أشعرتنا بإيقاف الإجازات لمدة شهرين حتى ننتهي من هذا المشروع، أجابني بأنه سيذهب إلى مدينة «الرياض» براً من مدينة «الخُبر» لأمرٍ عاجل. قلتُ له يكفيك يومٌ واحدٌ لو ذهبتَ بالطائرة، وأنا مستعدٌ أن أرتب لك الحجوزات بنفسي، رفض مساعدتي مشيراً إلى أنه يحتاج إلى يومين كاملين، ويُفضل أن يذهب بالسيارة. احترمتُ قراره ووافقتُ على إجازته، لكن كتبتُ له رسالةً إلكترونيةً قلتُ له فيها: "لم يرقْ لي أسلوبك؛ توقعتك أكثر مرونةً وتعاوناً".

لم يرد على رسالتي وإنما جاء إلى مكتبي والحزن بادٍ على وجهه وقال: "ما دمتَ متضايقاً من تصرفي سأبوح لك بما لم أكن أرغب في البوح به؛ زوجتي مشلولةٌ ولا تستطيع السفر بالطائرة، وضعها الصحي الحالي يتطلب استلقاءها في المقعد الخلفي للسيارة، حصلنا بصعوبةٍ على موعدٍ مع طبيبٍ عالميٍ مشهورٍ يزور المملكة، اتفقتُ مع أخيها أن يُسافر معها إلى «الرياض» لكنه اعتذر في اللحظة الأخيرة بسبب ظرفٍ جدَّ له، ولا أريد أن نخسر هذا الموعد؛ فحرصتُ أن أرافقها رغم ظروف عملنا، هل ارتحتَ الآن؟". قلتُ له: "لم أرتحْ بل تضاعف ضيقي؛ لأني شعرتُ أني تجاوزتُ حدودي معك بإلحاحٍ غير مبرر". نكأتُ جرحاً غائراً في روحه عبَّر عنه بكلماتٍ أشبه بالرماد الذي يلي الحرائق: "أقدرك يا عبد الله، لكن لم أرغب أن أفشي وضع زوجتي خارج أسرتنا؛ لا أحب أن ينظر أحدٌ إليّ أو إلى زوجتي بنظرة شفقة".

كان هذا الموقف درساً لي لأقدر ظروف الآخرين، ولا أُعرِّضهم للإحراج بحثاً عن إجابةٍ يرون أن من الأفضل أن تظل مختبئةً في الصدور. علينا أن نمنح الآخرين مساحةً لا نقترب منها، ليس في هذا الموقف فحسب، وإنما في جميع التفاصيل. ينبغي أن نقمع فضولنا ونقدر الآخرين باحترام قراراتهم، ونُقلع عن فضولنا الذي ينتهك (احترام خصوصية الآخرين).

 

أحبتي في الله.. تقول سيدةٌ انفصلت عن زوجها منذ فترةٍ وجيزةٍ: "أسوأ سؤالٍ أواجهه بشكلٍ يوميٍ: لماذا انفصلتِ؟". قررت هذه السيدة بعد انتشار قصة طلاقها في محيطها الاجتماعي أن تبقى في المنزل ولا تخرج منه إلاّ بعد أشهرٍ من الطلاق الذي أصبح مدار حديث الرجال قبل النساء، فلم تكد تفيق من أزمتها النفسية بعد الطلاق ورغبتها في بدء حياةٍ جديدةٍ حتى وجدت نفسها محاصرةً من قبل مجتمعٍ يسألها: لماذا تطلقتِ؟، ومن رغب في الطلاق أنتِ أم زوجك؟، وهل ستتزوجين بعد الطلاق؟، وماذا بخصوص الأطفال؟، وغيرها من الأسئلة التي وجدت فيها تجديداً لوجعها الذي كانت تحاول أن تُخفيه، كلما التقت بمحيطها من الأقرباء والصديقات حتى تحاول الوقوف من جديدٍ على قدميها وتنسى، إلاّ أن المجتمع الفضولي يرفض أن يحترم صمتها وتكتمها على خصوصياتها الشخصية ويُصر على أن يخترق المستور!

وهذه سيدةٌ أخرى، طبيبةٌ بلغت من العمر الأربعين ولم تتزوج، ومازال الكثير من الناس المحيطين بها يبحث في أسباب عزوفها عن الزواج على الرغم من العروض الجيدة التي قُدمت لها، فالكثير منهم يسألها عن سبب رفضها الدائم للزواج، حتى وصل الأمر إلى أنها أصبحت تتلقى رسائل على هاتفها المحمول يطلب فيها مرسلها أن تُراجع نفسها، وتتوب إلى الله، وتُطبق سُنة الله في خلقه بتحصين نفسها بالزواج، دون أن يعرف أحدٌ الأسباب الحقيقية لعزوفها عن الزواج؛ مما دفع تلك الطبيبة إلى التفكير بجديةٍ للانتقال بسكنها وعملها إلى منطقةٍ سكنيةٍ أخرى بحثاً عن احترام خصوصياتها التي أصبحت مشاعاً، وصارت مجالاً يتناقش فيه المحيطون بها على وسائل التواصل الاجتماعي!

 

أحبتي في الله.. يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾، فمن صفات المؤمنين الحرص على (احترام خصوصية الآخرين) وعدم التدخل في شؤونهم.

ويقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ في هذه الآية يحذر الله من التدخل أو الحديث فيما لا يملك الإنسان علماً به، مؤكداً على أن السمع والبصر والفؤاد سيكونون موضع مساءلةٍ يوم القيامة.

 

كما أن هناك عدة أحاديث نبويةٍ شريفةٍ صحيحةٍ تحث المسلمين على (احترام خصوصية الآخرين) وعدم التدخل في شؤونهم؛ قال النّبي صلى الله عليه وسلم: [من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيه]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ]. كما قال: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]. وورد في الأثر: "على العاقلِ أن يكونَ بصيراً بزمانِهِ، مقبلاً على شأنِهِ، حافظاً للسانِه، ومن حسب كلامَه من عمَلِهِ قلَّ كلامُه إلا فيما يَعنيه".

 

ويرى أهل العلم أنّ مِن التدخل في شئون الآخرين ما يكون حسناً في الأمور الدنيوية المباحة، كإبداء الرأي وعرض الخبرات من باب تقديم النصيحة، بغير إفراطٍ يجعلهم يدسون أنوفهم في كل شيءٍ؛ فتقع المشاكل وتكثر الخلافات، وبدون تفريطٍ يجعلهم لا يسألون عن أحوال إخوانهم مطلقاً؛ فتكون القطيعة وتنفصم عُرى الأخوة وأواصر المودة. لا هؤلاء ولا هؤلاء على صواب، وخير الأمور أوسطها فمن حُسن إسلام المرء الاهتمام بأمور المسلمين، وكما قيل: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".

وللتدخل في شئون الآخرين أحكامٌ مختلفةٌ وفقاً للموقف؛ فقد يكون التدخل واجباً؛ مثل التدخل لتغيير المنكر، ويأثم مَن لم يتدخل وهو يستطيع. وقد يكون التدخل مستحباً؛ مثل التدخل لإرشاد أخيك إلى عمل خيرٍ. وقد يكون التدخل مباحاً؛ كالسؤال عن شخصٍ هل مريضٌ أم لا؟ مثلاً. وقد يكون التدخل مكروهاً؛ مثل سؤال أحدهم عن أمرٍ من الأمور الشخصية التي عادةً ما يحاول الناس التكتم عليها. وقد يكون التدخل محرماً؛ كالتجسس على المسلم أو التنصت عليه، أو الاطلاع على أوراقه الخصوصية بغير علمه أو إذنٍ منه، مثلاً.

ويقول المختصون بالشئون الاجتماعية إن (احترام خصوصية الآخرين) من أكثر الأمور التي لابد أن يحرص عليها كل فردٍ في المجتمع؛ لأنها تُعبّر عن مدى تحضّر الإنسان، وهي انعكاسٌ لقيمه في الحياة، ومؤشرٌ على مستوى البيئة التي نشأ فيها؛ فهناك الكثيرون ممن يُعطون لأنفسهم الحق في تتبع أحوال الآخرين، إما باسم القرابة، أو الجوار، أو الزمالة في العمل، أو حتى باسم الصداقة في بعض الأحيان؛ حتى أصبح الفرد يشعر بتضييق الحصار عليه في مجتمعه.

 

أحبتي.. إن (احترام خصوصية الآخرين) أمرٌ يحثنا عليه ديننا الحنيف؛ فليحرص كلٌ منا على عدم التدخل في شئون الآخرين إلا بما يُحقق مصلحتهم ويكون مفيداً لهم. ولنُقلل من الفضول الذي يعترينا في بعض الأحوال، ولا يكون فيه فائدةٌ تُرجى؛ يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.

اللهم أعنّا على ضبط أنفسنا، وقمع فضولنا، ورفع قدرتنا على (احترام خصوصية الآخرين).

https://bit.ly/3QUIlZX