الجمعة، 16 فبراير 2018

الأخسرين أعمالاً

الجمعة 16 فبراير 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٢
(الأخسرين أعمالاً)

جلسةٌ عائليةٌ طيبةٌ جمعتنا، تبادلنا فيها الأحاديث في موضوعاتٍ شتى، إلى أن وصل بنا المطاف إلى الحديث عن فئةٍ من الناس ضلوا وتجاوز ضلالهم عدم رؤية الحق، رغم أنه ظاهرٌ، إلى اعتقادهم الجازم بأن ما هم فيه من ضلالٍ هو عين الصواب، وهو الحق، بل هو السبيل إلى الخير! فتذكرت الآية الكريمة من سورة الكهف التي تصف حال هؤلاء: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾، فحكيت لمن في تلك الجلسة قصةً تُروى وفيها أن اﻹمام أبا حنيفة رحمه الله مَرَّ يوماً في طريقٍ فرأى رجلاً سرق تفاحةً ثم تصدق بها، فسأله الإمام: "لم سرقتها؟ ظننتك جائعاً!"، قال الرجل: "لا يا هذا {وهو لا يعرف أنه اﻹمام أبو حنيفة} أنا أتاجر مع ربي!"، قال أبو حنيفة: "وكيف ذلك؟!"، قال الرجل: "سرقت التفاحة فكُتبت عليّ سيئةٌ واحدةٌ، وتصدقت بها فكُتبت لي عشر حسناتٍ؛ فبقي لي تسع حسناتٍ كسبتُها؛ فأنا أتاجر مع ربي!"، فقال له الإمام: "أنت سرقت فكُتبت عليك سيئة، ثم تصدقت بما سرقته، فلم يقبلها الله منك؛ لأن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً؛ فبقيت عليك سيئة". قلت لأحبائي في تلك الجلسة كم في زماننا من أمثال هذا الرجل؛ يفتي لنفسه أو لغيره دون بينةٍ، ويجادل بالباطل وهو يظن أنه على الحق، ويبني الحكم على نصٍ قرأه ربما بجهلٍ دون أن يرجع ﻷهل العلم؟
ولأن الشيء بالشيء يُذكر فقد حكى لنا أحد أقاربنا من الذين كانوا معنا في تلك الجلسة العائلية موقفاً حدث له مع أحد أصدقائه القدامى، لم يتواصل معه منذ سنواتٍ طويلةٍ بسبب سفره إلى خارج الدولة، فلما عاد أراد قريبنا أن يعيد الصلة التي انقطعت؛ فإذا بصديقه يدعوه لمصاحبته والسفر معه كل يوم جمعةٍ للصلاة بمسجدٍ به ضريح أحد أولياء الله الصالحين، قال له أنه يتبارك بزيارته، وحكى له عن بركات هذا الولي وكيف أنه كان يشكو من مرضٍ ظل يُعالَج منه لعدة سنوات لكنه ومع أول زيارةٍ لضريح هذا الولي وتوسله له بالشفاء إذا به يُشفى ويتعافى خلال أيامٍ قليلةٍ. يقول قريبنا أنه بيَّن لصديقه أن هذا الأمر حرامٌ لأنه إن لم يكن شركاً بالله سبحانه وتعالى ففيه شبهة الشرك، وأنه قرأ فتوى في هذا الموضوع يتذكر أهم ما فيها أنه أولاً: لا يجوز شد الرحال لزيارة المساجد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: [لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى]، ثانياً: دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم أو طلب المدد منهم، والاعتقاد فيهم أنهم يملكون جلب نفعٍ أو دفع ضر ٍأو شفاء مريضٍ أو رد غائبٍ كل ذلك وأشباهه شركٌ أكبر يخرج عن ملة الإسلام، ثالثاً: قد يصادف شفاء بعض المرضى الذين يزورون تلك الأضرحة تقدير الله عز وجل، فيظن الجاهلون أن الشفاء تم بسبب الرجل الصالح الذي في الضريح، بل وقد يقضى الشيطان بعض حوائج الناس ليغريهم بذلك على الثبات على الشرك رغم أن الشفاء لا يتم إلا بأمر الله وقدره.
أضاف قريبنا أنه بيَّن لصديقه واجب التزام المسلم بالنهي عن مثل تلك الزيارات مخافة الوقوع في الشرك والعياذ بالله، لكنه لم يجد من صديقه استجابةً لكل ما قاله، إنما على العكس وجد منه إصراراً على ما يظنه ويعتقده من بركات هؤلاء الأولياء وكراماتهم! ففضَّل ترك الجدال والمِراء عملاً بحديث الرسول الكريم: [أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا]. وتساءل قريبنا أليس هذا واحداً من هؤلاء (الأخسرين أعمالاً)؟

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن  هذه الآية من سورة الكهف: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ نزلت في الكافرين على وجه الخصوص إلاّ أنّ حكمها عامٌ.
قال شيخ المفسّرين الإمام الطبري أنه يدخل في معنى (الأخسرين أعمالاً) "كلّ عاملٍ عملاً يحسبه فيه مصيباً، وأنّه لله بفعله ذلك مطيعٌ مُرْضٍ، وهو بفعله ذلك لله مُسخطٌ”.
وقال ابن كثير أن (الأخسرين أعمالاً) هم أولئك الذين: "عملوا أعمالاً باطلةً على غير شريعةٍ مشروعةٍ مرضيةٍ مقبولةٍ ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ أي يعتقدون أنهم على شيءٍ، وأنهم مقبولون محبوبون".
وقال عالمٌ جليلٌ: "ضلَّ سَعْى هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خيرٌ؛ فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار والملحدين حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر، ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعاً وقدَّموا خَيْراً، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟ الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم".
ومعنى: ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ أي: بَطُل وذهب وكأنه لا شيءَ، مثل السراب كما صَوَّرهم الحق سبحانه في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾.
ويرى أهل العلم أن معنى الآية عامٌ يشمل جميع من ضلّ سعيُهم في العقائد والأديان وهم يحسبون أنّهم على الحقّ، كما يشمل كلّ من كانت هذه صفته في أيّ مجال وفي أيّ مستوى وفي أيّ عمل كان. فالمقصود بعموم معنى الآية الكريمة كل من يعمل عملاً يحسبه طيباً وحسناً، وأنه مثابٌ به مأجورٌ عليه، لكن الصحيح يكون بخلاف ذلك تماماً، فقد وصف الله سبحانه وتعالى عمل مثل هؤلاء بالخسران والضلال.
إن هذه الآية يمكن أن تنطبق ليس فقط على الكافر ولكن أيضاً على المسلم حين يخطئ أو يرتكب معصيةً وهو يظن أنها خيرٌ.
يقول تعالى موضحاً حال مثل هؤلاء، مبيناً أن مفتاح الشر كله أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وهو ما يحدث عندما   يُعجب الإنسان بنفسه وبكل ما يصدر عنها فلا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه، رغم أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المسلمين أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم في كل صلاةٍ بقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾. ويقول سبحانه في الحديث القدسي: [يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ]. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يقول: [اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].

إنّ القرآن العظيم يحكم على الّذي يعمل العمل الباطل وهو يظن أنه يفعل الخير بأنّه ليس خاسراً فقط، بل من (الأخسرين أعمالاً)، فالأخسر هو الأكثر خسراناً من الخاسر، إنها صيغة مبالغةٍ تُبين عِظَم الخسارة وفداحة الخُسران؛ ذلك أنّ مَن يفعل الشّر وهو يراه شرّاً، ويفعل الباطل وهو يراه باطلاً، ويقترف الجُرم وهو يراه جُرماً، مَنْ هذه حاله قد يفيق من غفلته، ويرجع عن ضلاله، ويتوب إلى ربّه، لكنّ الّذي يقوم بالظلم، ويستمرئ الضّلال، ويغشى المعاصي، ويقترف المنكر، وهو يرى نفسه من المحسنين، فهذا لا يُرجى منه خيرٌ، ولا تُنتظر منه توبةٌ إلّا من رحم ربي؛ فهو غالباً ما يكون من المكابرين الذين إذا قلت لأحدهم اتقِ الله أخذته العزة بالإثم، هؤلاء لا يستمعون لنصح ناصحٍ ولا لوعظ واعظٍ، مثلهم في ذلك مثل فرعون الذى رأى كفره شيئاً محموداً ومفيداً فقال لقومه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.

يرى علماء الاجتماع أنّ كثيراً من مشكلات الأفراد والأسر ونكبات المجتمعات سببها أولئك الّذين يفعلون أشياء يرونها في ظاهرها صلاحاً، وهي عَيْن الفساد؛ وهؤلاء قال الله عزّ وجل عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، ذلك أنّهم لا يعرفون الصّراط المستقيم، ولا يُفرِّقون بين الفساد والصّلاح؛ فأكبر مصيبةٍ ألا تدري وألا تدري أنك لا تدري، أن ترتكب أشنع الخطأ وتظن أنك على صوابٍ، أن تكون أبعد الناس عن الحق وتظن أنك على الحق ومن سواك على الباطل.

وصدق من قال:
من الناس من يدري، ويدري أنه يدري، فهذا عـالمٌ فاتبعوه
ومنهم من لا يدري، ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهلٌ فعلِّموه
ومنهم من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فهذا شيطانٌ فاحذروه

أحبتي .. لا بدّ للمرء أن يقف مع نفسه وقفةً للمراجعة اتّعاظاً بهذه الآية الكريمة واعتباراً بهؤلاء القوم، فقد يكون في الطّريق الخطأ، وقد يكون سعيه في ضلالٍ، وقد يكون عمله في باطلٍ، وهو لا يدري، بل وقد يظن أنّه على خيرٍ، وأنه يسير في طريق البرّ والحقّ؛ قال سبحانه وتعالى على لسان فئةٍ من هؤلاء:  ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾.

أحبتي .. كم من أناسٍ أدركوا خطأهم في اختيار الطّريق وبُعدهم عن سواءَ السّبيل ولكن بعد فوات الأوان، فهل نترك أنفسنا لنكون مثلهم؟ ألا يجدر بنا أن نبادر إلى حساب أنفسنا لنتبين الحق من الباطل؟ ألم نقرأ قول الله سبحانه: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾؟  ألا تنخلع قلوبنا رهبةً وخوفاً من الآية الكريمة: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾؟ فلنراجع أحبتي أعمالنا قبل أن نُسأل، ونزنها بميزان الشرع، حتى لا نكون من (الأخسرين أعمالاً)، ولنبتعد بأنفسنا عن الهوى والكبر وغمط الحق، ونقترب ما استطعنا من طريق الحق والصواب وسبيل الرشاد الذي سماه الله عز وجل الصراط المستقيم، والذي نطلب هدايتنا إليه في كل صلاةٍ بل وفي كل ركعة؛ حتى لا نكون من المغضوب عليهم ولا الضالين.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/ZoMz5F